زيادة تحقيق وتدقيق مسميات شرعية مقاصدية
هناك الكثير من المسميات والمصطلحات الأصولية المقاصدية، التي لها أهميتها القصوى في عملية الاجتهاد والاستنباط الفقهي، ومن تلك المصطلحات : القياس الكلي أو الموسع، والضرورة الخاصة والعامة، والمناسبة وترتيب الحكم عليها، وغير ذلك، وتلك المصطلحات ولئن كان السابقون قد درسوها بما يعطيهم فضل السبق والتأسيس، غير أنها لا تزال في حاجة ملحة لزيادة درسها وتحقيقها ولا سيما فيما يتعلق بتطبيقاتها وفروعها المعاصرة .
فالقياس الكلي أو الموسع هو قياس النظير بنظيره لأمر جامع بينهما، كمقصد عال أو مصلحة كلية، أي أنه الإلحاق بجامع المصلحة الكلية أو عموم الحكمة . جاء عن الرازي أن الفقهاء قد اختلفوا في ذلك كثيرا والأقرب جوازه [1] .. وجاء عنه قوله : (قلنا لا نسلم، بل التعليـل بالحكم حاصل في صور كثيرة... الوصف [ ص: 155 ] لا يكون مؤثرا في الحكم إلا لاشتـماله على جلب نفع أو دفع مضرة ) [2] وجاء عن ابن عاشور : (أن الأصل في الأحكام الشـرعية كلها قبول القياس عليها ما قامت منها معان ملحوظة للشارع، فيجب أن تكون أنواع الأحكام التي يجري فيها القياس قليلة جدا) [3] وأن (أحكام الشريعة قابلة للقياس عليها باعتبار العلل والمقاصد القريبة والعالية) [4] ، (فتكفي الفقيه مئونة الانتشار في البحث عن المعنى من أجناسه العالية بما فيها من التمثيل والضبط، وتنتقل بالمجتهد إلى المعنى الذي اشتمل عليه النظير غير المعروف حكمه، فيلحقه في الحكم بحكم كلياته القريبة ثم بحكم كلياته العالية إذ لا يعسر عليه ذلك الانتقال حينئذ فتتجلى له المراتب الثلاث) ، [5] (نقـول بحجيـة قياس مصلحـة كليـة حادثـة في الأمـة لا يعرف لها حكم، على كلية ثابت اعتبارها في الشريعة، باستقراء أدلة الشريعة) [6] .. ويبدو أن ابن عاشور لم ينطلق من فراغ بل انطلق مما علمه من أعلام المالكية باعتبار تشبعه [ ص: 156 ] بالتكوين المالكي الأصيل، ومما استوعبه من آثار غير المالكية .. وقال ابن عبد البر : (ومن أشكل عليه شيء لزمه الوقوف، ولم يجز له أن يحيل على الله قولا في دينه لا نظير له من أصل ولا هو في معنى أصل، وهو الذي لا خلاف فيه بين أئمة الأمصار قديما وحديثا، فتدبر) [7] (... وقد جاء عن الصحابة من اجتهاد الرأي والقول بالقياس على الأصول عند عدمها) .
ونجد من بين المعاصرين الداعين إلى إجراء هذا النوع من القياس في دراسة الحوادث الحياتية المتنوعة الدكتور الترابي ، الذي أطلق عليه اسم القياس الواسع، حيث قال : (ولربما يجدينا أيضا أن نتسع في القياس على الجزئيات لنعتبر الطائفة من النصوص، ونستنبط من جملتها مقصدا معينا من مقاصد الدين أو مصلحة معينة من مصالحه، ثم نتوخى ذلك المقصد حيثما كان في الظروف والحادثات الجديـدة. وهـذا فقـه يقربنـا من فقه عمـر بن الخطـاب رضي الله عنه ، لأنه فقه مصالـح عامـة واسعـة، لا يلتمس تكييف الواقعـات الجـزئية تفصـيلا - فيحـكم عـلى الواقـعة قيـاسا على ما يشابهها من واقعة سالفة - بل يركب مغـزى اتجـاهات سـيرة الشريعة [ ص: 157 ] الأولى، ويحاول في ضوء ذلك توجيه الحياة الحاضرة...) [8]
والقياس الجزئي أو الفرعي، على الرغم من أهميته ومكانه في الاستنباط، إلا أنه يبقى في بعض الأحوال عاجزا عن معرفة أحكام بعض النوازل والوقائع، وليس تقرير الاستحسان بأنواعه إلا دليلا على لزوم العدول عن القياس الجزئي في بعض الأحوال إلى الحلول الاستحسانية وإلى تقرير القياس الموسع الكلي، فالتضييق أحيانا يحصل بإجراء الأقيسة، [9] والتوسع يأتي في مقابله بإجراء القياس الكلي والإلحاق بالأصول والقواعد التي لها نفس أحكام الفروع والجزئيات المعروضة والملحقة.
وتعود قلة اهتمام الأوائل بالقياس الكلي، وتركيزهم كثيرا على القياس الجزئي والمضيق، يعود إلى أن دلالة النظير على نظيره في القياس الجزئي أقرب إرشادا إلى المعنى الذي صرح الشارع باعتباره في نظيره، أو أومـأ إلى اعتبـاره فيـه، أو أوصل الظن بأن الشارع ما راعى في حكم النظير إلا ذلك المعنى، فإن دلالة النظير على المعنى المرعي للشارع حين حكم له بحكم ما، دلالة مضبوطة ظاهرة مصحوبة بمثالها) . [10] [ ص: 158 ]