(أ) آثار القيم التربوية الإسلامية في الشخصية الإنسانية
تعريف الشخصية عرف بعضهم الشخصية: (بأنها وحدة متكاملة الصفات والمميزات، الجسمية والعقلية والاجتماعية والمزاجية التي تبدو في التعامل الاجتماعي للفرد، والتي تميزه عن غيره من الأفراد تمييزا واضحا، فهي تشمل دوافع الفرد وعواطفه وميوله واهتماماته وسماته الخلقية وآراءه ومعتقداته، كما تشمل عاداته الاجتماعية وذكاءه ومواهبه الخاصة ومعلوماته وما يتخذه من أهداف [ ص: 125 ] ومثل وقيم اجتماعية) [1] وقد عرفت مجلة علم النفس (المجلد الأول، العدد الأول) الشخصية Personnality ، بأنها: (نظام متكامل من مجموعة من الخصائص الجسمية والوجدانية النزوعية والإدراكية التي تعين هوية الفرد وتميزه عن غيره من الأفراد تمييزا بينا) [2]
بتأملنا هذين التعريفين يتبين لنا أنهما يرتكزان على البعد الذاتي الفردي الذي يجعل كل فرد من الأفراد في إطار مجتمع معين يتميز عن غيره من الأفراد في مجموعة من السمات والخصائص المتصلة بمختلف جوانب الشخصية.. والذي أريد أن أبينه هنا في حديثي عن أثر القيم التربوية في بناء الشخصية، هو تلك الخصائص العامة التي يصنعها الإسلام بطبيعة الفلسفة التي يقدمها للإنسان، والقيم والتي يدخلها إلى بنائه النفسي، بحيث كل فرد من أفراد المسلمين مهما تكن خصائصه، الوراثية الجسمية، البيولوجية والفيزيولوجية، فإنه يأخذ حظه من الآثار التي تولدها التربية الإسلامية في شخصيته، والتي يصبح بفضلها كائنا يجمعه قاسم مشترك مع غيره من الأفراد داخل نفس المجتمع.
إن أول شيء تثمره القيم التربوية الإسلامية في البناء الشخصي [ ص: 126 ] للإنسان المسلم هو تقوية صلته بالله عز وجل، إلى الدرجة التي تجعله يراقبه في السر والعلن، في كل حركاته وسكناته، فهو لا يقدم على شيء إلا وهو يراعي حرمة الله ويرجو له وقارا.. ومعنى ذلك أن المسلم في علاقته بربه، يستشعر الخشية والخوف منه، في نفس الوقت الذي يتوجه إليه بالرجاء.. وذلك الخوف وهذا الرجاء يملآن قلبه بشعور عارم من التحرر من جميع المخاوف، لأنه يشعر بقوة أن الله وحده هو مالك أمره ومقرر مصيره، وإليه يرجع الأمر كله، هو الذي يملك تبارك اسمه أن يضره وأن ينفعه، أما غيره فأسباب عرضية ليس لهـا من الأمر شيء. وهكذا فإن المسـلم الذي يتشـبع بقيم الإسلام يتحـرر من الشعور بالخوف على الحياة، أو الخوف على الرزق، أو الخوف على المكانة والمـركز، فالحياة بيـد الله، ليس لمخلوق قـدرة على أن ينقص هذه الحياة ساعة أو بعض ساعة: ( قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ) (التوبة : 51) [3] .
وهنا، نؤكد على أن هذه الثمار الطيبة للقيمة الإيمانية رد قاطع على من يخوضون في الأمور بغير علم ولا كتاب منير، فيدعون أن أسلوب الدين الإسلامي في زرع الخوف من الله ومن الحساب في الآخرة يتعارض مع بناء الشخصية الحرة النامية المستقلة. فهؤلاء [ ص: 127 ] الأشخاص ينكرون ضرورة توفر عنصر الخوف في التربية، لارتباط ذلك بطبيعة الإنسان. (وإذا كان لا بد من الخوف، فليكن ممن بيده ملكوت كل شيء، ولنسد أبواب الخوف بعد ذلك) [4]
(وليس هذا ما يقرره المؤمنون بالدين فحسب، بل هذا ما يعترف به المنصفون من المتدينين والمنكرين على السواء. فمن الملحدين من يرى الدين خرافة، ولكن الخرافة لا تستقيم بدونه (...) ويقول الأديب الفرنسي الشهير "فولتير" ساخرا: لم تشككون في الله، ولولاه لخانتني زوجتي وسرقني خادمي! ويقول ثالث: إني لا أعتقد في وجود جهنم، ولكن أعتقد أن الفكرة عنها قد باعدت بين كثير من الناس، وبين ارتكاب الشر) [5]
إن من الآثار الواضحة لصلة الإنسان بربه، ذلك التركيز لفكر الإنسان وجهوده وطاقاته حول محور واحد هو الولاء لله ولرسوله وملة الإسلام، فهذا التركيز هو الدرع الواقي من التشتت والانشطار الذي يضرب الذات بعنف في غياب الإيمان بالله. وتزداد المسألة وضوحا إذا أخذنا بعين الاعتبار خصائص مرحلة الشباب، التي يفيض فيها الأفراد حيوية وعنفوانا، مما يولد لديهم ميلا جارفا إلى الاندفاع والانفعال والمجازفة، ومن هنا فهؤلاء الشباب في حاجة إلى كثير من التروي [ ص: 128 ] والتحلي بالصبر والاتزان في اتخاذ المواقف [6]
وإذا كانت القيم التربوية الإسلامية وعلى رأسها القيمة الإيمانية، تترك أثرها في النفس والجسم، طمأنينة وسكينة، فإنها في ترابط عضوي مع تلك الآثار، تخلف أثرها الواضح في عقل الإنسان المسلم بفضل ذلك النسيج المحكم من الحقائق والتشريعات وأنماط السلوك التي يتصل بها كيان المسلم. يقول د. عماد الدين خليل مشيرا إلى ذلك التحول النوعي الذي طرأ على عقل المسلم لدى اتصاله بالقرآن: إن نسيج القرآن الكريم نفسه، ومعطياته المعجزة، من بدئها حتى منتهاها، في مجال العقيدة والتشريع والسلوك والحقائق العلمية، تمثل نسقا من المعطيات المعرفية كانت كفيلة، بمجرد التعامل المخلص الذكي المتبصر معها، أن تهز عقل الإنسان وأن تفجر ينابيعه وطاقاته، وأن تخلق في تركيبه خاصية التشوق المعرفي لكل ما يحيط به من مظـاهر ووقائـع وأشياء [7]
وفي صدد تحليل العلاقة بين العقائد والأمزجة العقلية للناس، يصنف د. محمد سلامة العقائد إلى عقائد دينية وغير دينية، كل منها يؤدي إلى تشكيل نمط معين من الأمزجة، ثم يخص العقيدة الإسلامية بالتحليل قائلا: (فالعقيدة الدينية الإسلامية مثلا، يصاحبها المزاج المتفائل، الذي يعترف للفرد بكل حقوقه في الحياة، ويطالبه بالسعي لتأكيد الذات. ولهذا فهو مزاج يدفع للنشاط والعمل، كما [ ص: 129 ] يطالب الشخص بالسعي نحو المعرفة لإدراك الكون من حوله، وتحديد دوره ووظيفته في هذا الكون. وهكذا فالوعي في العقيدة الدينية وعي شمولي، يقوم على إدراك الذات والوعي بالكون كله. وهو في نفس الوقت وعي تقدمي يطالب بالتغيير والإصلاح عن طريق الفهم والبحث والابتكار والاختراع، ولذا فالإنسان في العقيدة الإسلامية طاقة حيوية مؤثرة، وليس كما سلبيا) [8]
وهذه الخصائص الشخصية الممتازة، هي وحدها التي تفسر سر ذلك الانطلاق الهائل الذي حققه الإنسان المسلم في كل ميدان من ميادين الحياة العلمية والإنتاجية، وتفسر لنا مدى الالتزام بمبدأ الإتقان في العمل، والحرص على اجتناب قبائح النفس ورذائل السلوك.
إن أثر القيم الإسلامية في الشخصية لا يخص، كما سبقت الإشارة إليه جانبا من جوانب النفس دون الأخرى، بل إنه ليهيمن عليها حتى لا يدع دقيقة من دقائقها، إن تلك القيم الشاملة لا تجعل المسلم صدقا في معاملاته وممارساته الأسرية والاجتماعية والاقتصادية والتجارية، متعاونا فيها على البر والتقوى، عفيفا معتدلا في تعامله معها وحسب، ولكنها لتنفذ إلى أعماق نفسه فتغرس فيها رهافة في الحس وشفافية في الذوق والضمير.. ( قال البخاري في سبب نزول قوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت [ ص: 130 ] النبي ) (الحجرات : 2) : كاد الخيران أن يهلكا: أبو بكر وعمر ، رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم ركب تميم في السنة التاسعة للهجرة. وقد أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤمر عليهم رجلا منهم، فأشار أحدهما بتأمير الأقرع بن حابس ، وأشار الآخر بتأمير القعقاع بن معبد ، وفي بعض الروايات أن أبا بكر قال لعمر: ما أردت إلا خلافي! قال عمر: ما أردت خلافك! وارتفعت أصواتهما، فنزلت الآيات.. فلما أخذا ذلك الدرس وعياه، ولم يعـودا يتحدثان في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا السـرار أو أخا السـرار) [9]
وقـد روي أن أبـا بكر وعمر بعد أن انتهـيـا وأعلنا تأدبهما في القـول مع رسـول الله صلى الله عليه و سلم نزل قول الله سبحـانه: ( إن الذين يغضون أصواتهم ) (الحجرات : 3) . فهكذا تتجاوب السماء معهم رقة كما تتجاوب معهم زجرا لتصقلهم صقلا كريما، وتطهرهم من كل ما يمس الذوق الرفيع أو يصدم الشعور النبيل) [10]
وهكذا يتضح لنا الأثر البناء الذي تتركه القيم التربوية الإسلامية في الشخصية الإسلامية الإنسانية، بحيث تصوغها صياغة ربانية تمس كل موطن من مواطنها، وتهز كل وتر من أوتارها، لينخرط الإنسان بكل كيانه وطاقاته في رفع البناء الذي أمره الله برفعه، على هدى من الله. [ ص: 131 ]