(ب) أثر القيم التربوية في بناء المجتمع والحضارة
لقد رأينا في المحور السابق كيف أن القيم التربوية الإسلامية قد صنعت من الأفراد الذين تشبعوا بها كائنات فذة، تحمل من عناصر القوة والحيوية ما استطاعوا بفضله أن يواجهوا تبعات الحياة ومشاق السير في دروبها الوعرة... فإذا كان المجتمع ليس في حقيقته سوى مجموعة الأفراد الذين يتألف منهم، فمعنى ذلك أننا بإزاء مجتمع متماسك البنيان، راسخ الأركان، سائر إلى الأمام، مضطرد النمو، لأن الإسلام يعتمد في بنائه للمجتمع على أفراد أقوياء النفوس ممتلئين بالعزم والقدرة على الثبات. فكلما كان الطابع الغالب على المجتمع طابع هؤلاء الأفراد الأفذاذ، كلما كانت شبكته الاجتماعية شبكة متينة الإحكام.
ومن هنا نخلص إلى الحقيقة التي يقررها القرآن في قضية التغيير الحضاري، وهي أن الإنسان هو الأساس في ذلك التغيير، مصداقا لقوله تعالى: ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) (الرعـد : 11) .. فسنة البناء والتغيير تمر من خلال جهد البشر وتفاعلاتهم. وحديث رسول الله صلى الله عليه و سلم ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائرالجسد بالسهر والحمى ) [1] هذا الحديث يعرض لنا [ ص: 132 ] صورة المجتمع الإسلامي في غاية التضامن والترابط والتساند، حتى لكأنهم كالجسد الواحد الذي يتأثر مجموعه بتأثر أي عضو فيه.
وحتى لا يصيب التخلخل ذلك البنيان، فإن هناك جهازا دقيقا يحرسه داخل كل فرد مسلم، إنه جهاز المحاسبة للنفس.. هناك النفس اللوامة التي أقسم بها العزيز الجبار، لعلوها وعظم شأنها، ولضرورتها في استمرار الحياة سليمة، واستمرار مجراها هادئا صافيا من الأكدار.. فالكدورات التي ترين على المجتمع وتهز بناءه، إنما مصدرها النفوس التي تأصلت فيها أدواء الأنانية والأثرة، والكذب والحسد والخيانة.. فإذا ما خلصت النفوس من تلك العلل والأمراض، فإن أفراد المجتمع يكونون متعاونين على البر والتقوى، أي على كل ما تصلح به الحياة وتسعد به النفوس، من جلب للمصالح والمنافع والخيرات التي تخدم المجتمع في حركته نحو تحقيق أهدافه.. فسياسة الأمة وتسيير دواليبها وأجهزتـها في ميـادين التعليم والقضاء والزراعة والتجارة والصناعة، لا مفر لها من الاعتماد على رصيد القيم التربوية.
إن المجتمع المسلم لا يتألف من أفراد متقوقعين على أنفسهم، مستغرقين في ذواتهم، لأنهم يدركون أن ذلك يتنافى مع الغاية من الوجود التي لا تتحقق بغير التعاون واستشعار آصرة الأخوة. لقد حدد الإسلام العلاقات بين أفراد المجتمع، وأرسى قواعدها بإحكام، بحيث تؤدي إلى أمن المجتمع واستقراره وطمأنينته. [ ص: 133 ]
ويمكننا أن نقول: إن كل الآداب والأخلاق والتشريعات التي جاءت في القرآن الكريم ذات صبغة اجتماعية واضحة، وإن الهدف منها تنظيم الحياة في المجتمع الإسلامي على أساس مبادئ العدل والمساواة والحق التي جاء بها الإسلام [2] إن مجتمعا تسري في أوصاله مثل تلك القيم، لا يمكن أن يتسرب إليه الوهن والاختلال، لأن أفراده لا يكتفون بالوقوف عند حدودهم، فذلك حد أدنى، بل إنهم ليتجاوزون ذلك إلى تقديم العون إلى بعضهم بعضا، وتفريج كرب بعضهم بعضا، عملا بما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته. ومن فرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة ) [3]
والحقيقة التي ينبغي أن تظل حاضرة في الأذهان، هي أن المنهج التربوي الإسلامي كيان مترابط الأجزاء، تتشابك فيه العقيدة مع العبادات، وهذه مع الأخلاق، والكل يعطينا تلك الثمرة الطيبة التي هي الإنسان المسلم، وبالنتيجة المجتمع الإسلامي الفاضل. وعلى سبيل المثال، فالصلاة هي إحدى الوسائل التي يجسد بها المسلم قيمة العبودية لله عز وجل، يرغب الإسلام في إقامتها مع الجماعة ويرفع درجاتها إلى سبع وعشرين درجة، تأكيدا لروابط المسلمين وتعزيزا [ ص: 134 ] للتعارف فيما بينهم.. والزكاة عبادة اجتماعية، لا يخفى دورها في دعم بنيان المجتمع الاجتماعي والاقتصادي، من خلال ما تزود به بيت مال المسلمين، ومن خلال معاني المحبة والتكافل التي تشيعها بين الأغنياء والفقراء، وقس على ذلك بقية الفرائض.
وإذا كان نظام القيم الإسلامي له ذلك الأثر العظيم في بناء الشخصية والمجتمع، فمن الطبيعي أن يكون له أثره في البناء الحضاري الشامل، وأساس ذلك النظام القيمي الإسلامي يستأصل نزعات الشر من النفوس، المتمثلة في الظلم والجبروت والتسلط على رقاب الناس والسعي إلى استعبادهم وإذلالهم لإشباع النزوات الفردية المريضة.
والخلاصة من كل سبق، أن المجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية، لا يزالان قائمين ما دامت قيم الإسلام سائدة.. وكلما ضعفت وتلاشت، كلما كان ذلك إيذانا بالانحلال وانفكاك عرى المجتمع والحضارة... إن تمثل النظام القيمي الإسلامي يمكن أن نجمله في كلمة واحدة تجمل معانيه وتجسد غايته، وهي كلمة العبودية لله عز وجل، وإن لحظات الصعود (في التاريخ الإسلامي الطويل، كانت تبدأ مع ساعات الإحساس الكامل بهذه العبودية لله، وتحولها إلى حركة كاملة، تحكم الفرد المسلم والمجتمع المسلم، وإن حالات (الهبوط) فيه كانت تتزامن مع فقد الإحساس، ولو إلى حين) [4] [ ص: 135 ]