أثر القيم المادية في بناء الشخصية والمجتمع والحضارة (أ) أثرها في بناء الشخصية الإنسانية
إذا كان نظام القيم التربوية في الإسلام يجمع شتات الإنسان ويركز طاقاته وإمكانياته حول مركز واحد هو الولاء لله عز وجل وابتغاء وجهه الكريم، فإن نظام القيم التربوية المادية يعصف بقوى الإنسان ويذهب بها طرائق قددا، ويلحق بها تشوهات مريعة يتحول معها الإنسان إلى كائن مستلب، غريب عن نفسه وغريب عن الكون الذي يحيط به... فيصيبه الدوار والغثيان، ويشعر بالعبثية وانعدام معنى الحياة. إن الشخصية الإنسانية في ظل القيم المادية، وقد فقدت صلتها بخالق الوجود، تنجرف مع تيار التطور والتغير دون ضوابط ولا قيود، (وذلك لأن أداة الاختيار والتمييز في هذه الشخصية من عقل وضمير وإرادة، فلت زمامها وفقدت السيطرة على نفسها، شأنها شأن الساعة التي أصابها خلل جعل عقاربها تتحرك بسرعة في كل اتجاه، فلم تعد صالحة لمعرفة الزمن، وهكذا فقدت هذه الشخصية القدرة على الاختيار السوي، فاندمجت تأخذ من هنا وهناك أي فكرة أو أي شيء دون قاعدة أو مبدأ) [1]
وعندما يجد الإنسان نفسه وحيدا، مقفرا قلبه من نور السماء، [ ص: 136 ] فإنه يشعر بالخواء القاتل الذي يسحقه بغير رحمة، وعندها لا بد أن يفعل أي شيء يوهمه بالإشباع والاطمئنان، ولن يجد أمامه غير الارتماء في أحضان الملذات يكرع منها كالكلب المسعور.
وقد تأثرت نظرية التربية بذلك، فأصبحت ترى غايتها في إحداث التجـانس في الرغبـات بين أفـراد المجتـمع الواحد. أما إذا تجانـست فلا سؤال ولا استفهام بعد ذلك في خيرها أو شرها. وعلى المستوى الجمـاعي، وجدت العصبية القومية حجتـها لتبـريـر استكبارها على شعوب الدنيا واستعمارها للضعيف منها، فالإرادة القومية تعلو ولا يعلى عليها، وكل ما تمارسه حق لكونه إرادة قومية [2]
والواقع أن بذل الجهد من طرف المنظرين الغربيين لإحداث التجانس بين الرغبات المتضاربة، هو ضرب من العبث وطلب المحال، فالرغبات الفردية التي لا يشدها أصل غير اللهاث وراء الإشباع المادي، لا يمكن أن تتجانس، لأن ذلك يتعارض مع الإشباع المادي نفسه. إن الإنسان المادي يمضي في تيار الشهوات إلى أن يسقط صريع المرض النفسي القاتل، الذي لم يزده الترف ووفرة المتاع المادي إلا تفاقما، لأنه كائن لا انتماء له بالمعنى الحقيقي للانتماء.
وإذا كانت الرؤية الإسلامية للحياة ونظام القيم المنبثق منها، يؤديان بطبيعتهما إلى إقامة الانسجام والتكامل بين الإنسان والكون، [ ص: 137 ] بحيث يسيران بإيقاع متوازن، جنبا إلى جنب، نحو تحقيق مراد الله في الوجود، فإن الرؤية المادية (ونظامها) القيمي يقودان حتما إلى ارتطام الإنسان بالكون، إذ العلاقة بينهما تصور في إطار المنظور المادي، في صورة الصراع الرهيب.. وكأن كلا منهما قد وضع في استقلال عن الآخر... وأن ما يجري بينهما خلال عصور التاريخ هو عملية سطو وعداء لا علاقة توافق وإخاء. لقد كان لهذا التصور الغريب عن حقيقة وجود الإنسان في هذا الكون، أثره المدمر على موقف الإنسان من العمل وما يتمخض عنه من إنتاج، وقد تمثل ذلك الأثر في تخريب الإنسان ما تفتقت عنه عبقريته العقلية، وما أنتجته يداه، فأصبح ( ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا ) (النحل : 92) .
لقد أصبحت فكرة الصراع هي التي تحكم حركة الإنسان المادي، الصراع مع كل شيء، مع نفسه، ومع الكون، ومع الآخرين، ولا مفر له من ذلك ما دام سجين النظرة المادية.
ولا ننس، ونحن بصدد أثر القيم التربوية المادية في الشخصية الإنسانية، أن الإنسان المادي بعد أن أرقته ليالي العذاب ورحلة المعاناة والشقاء، بدأ يتحسس الطريق التي تعيد إليه نفسه الضائعة ومعناه المستلب... ولكن لسوء حظه أنه كثيرا ما يسقط في شراك الأدعياء والدجالين الذين يقذفون به في دوامة الشقاء من جديد، ولكن في أشكال جديدة تخلب الأنظار. وفي أحسن الأحوال فإن الغربيين قد [ ص: 138 ] انتهوا إلى دين (لا يمتد ظله إلى أكثر من الأخيلة والأحاسيس النفسية المجردة، فلا هو يملك سلطانا على ما وراء ذلك، ولا هم يريدون أن يملك أي سلطان خارج حدوده النفسية هذه، ولكنهم اعتمدوه قيمة روحية قد تساعد في تخفيف الآلام النفسية التي يتعرض لها الإنسان الأوروبي، خلال مغامراته واندماجه وسط أمواج عاتية من الإباحية واللذة المطلقة) [3]