الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الترويح وعوامل الانحراف (رؤية شرعية)

عبد الله بن ناصر السدحان

المبحث الثاني

نظرة الإسلام إلى وقت الفراغ

لقد عرف الوقت بأنه: مقدار من الزمن، أما كلمة (الفراغ) فتكاد تجمع المعاجم اللغوية على أن معناها: الخلو من الشغل، فلقد ورد في لسان العرب لابن منظور أنه: الخلاء، وذكره الجوهري في الصحاح بما يقرب من هذا المعنى، فيقال: فرغت من الشغل، وتفرغت لكذا.. وذكر الراغب الأصفهاني: أن الفراغ خلاف الشغل، وقد فرغ فراغا وفروغا وهو فارغ [1]

ومن هنا فوقت الفراغ لغويا يعني: الزمن الذي يخلو فيه الإنسان من الشغل أو العمل.

وقد ذكرت كلمة الفراغ وبعض مشتقاتها في القرآن الكريم،

من ذلك قوله تعالى: ( فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب ) (الانشراح:6، 7) ،

وذكر عامة المفسرين عند تفسيرهم لهذه الآية: ( فإذا فرغت فانصب )

أن المقصود إذا فرغت من أمر دنياك فانصب في عمل آخرتك. [ ص: 49 ]

ومن المعلوم أن الأصل في حياة المسلم أنه لا يوجد فيها وقت فراغ -بمعنى عدم العمل، لا للدنيا ولا للآخرة- ذلك أن الوقت أو العمر في حياة المسلم ملك لله، والإنسان مسئول عنه، فحياة المسلم كلها عبادة [2]

، فهو مطالب بملء الوقت كله في عبادة الله، بمعناها الشمولي العام لجميع جوانب الحياة -ولعل أبلغ من عرف العبادة بمعناها الشامل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة- لا بمعناها الضيق، أو كما يفهمه بعض الناس بقصرها على أداء بعض العبادات، كالصلوات والصيام والزكاة والحج والعمرة، ونحو ذلك من الأفعال التعبدية الظاهرة فقط.

ومن هنا تصبح جميع جوانب حياة المسلم تعبدية إذا اقترنت بالنية الصالحة، في العمل، أو الفكر، أو السكون، أو الحركة، أو الجد، أو المرح، أو القتال، أو اللهو، أو الأكل، أو الشرب، أو النوم، أو العلم، أو غيرها من الأعمال، حتى في [ ص: 50 ] الجماع مع الزوجة، فلقد ورد في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ فقال: أرأيتم لو وضعها في الحرام كان يكون عليه وزر؟ قالوا: بلى، قال: فكذلك إذا وضعها في الحلال له الأجر ) [3]

وهذا ما عبر عنه ابن القيم رحمه الله في معرض حديثه عن كيفية عمارة المسلم لوقته، فقال: (إن عمارة الوقت تكون بالاشتغال في جميع آناء الوقت بما يقرب إلى الله، أو يعين على ذلك من مأكل، أو مشرب، أو منكح، أو منام، أو راحة، فإنه متى أخذها بنية القوة على ما يحبه الله وتجنب ما يسخطه، كانت من عمارة الوقت، وإن كان له فيها أتم لذة، فلا تحسب عمارة الوقت بهجر اللذات والطيبات) [4]

فكل أفعال الإنسان المسلم ونشاطاته عبارة عن أشكال تدور حول حقيقة واحدة، هي: العبادة، والاختلاف بينها إنما هو في الهيئة ليس إلا، وفي المظهر وليس الجوهر. إذ لا يوجد في التصور الإسلامي نشاط إنساني لا ينطبق عليه معنى العبادة، [ ص: 51 ] أو لا يطلب فيه تحقيق هذا الوصف، فالمنهج الإسلامي غايته تحقيق العبودية لله أولا وآخرا. [5]

لذا نجد أن مفهوم وقت الفراغ المتداول الآن مرادف لمفهوم البطالة، أي (لا عمل) ، وهذا ما يراه الاتجاه الغربي المادي، ومن هنا يمكننا طرح سؤال مهم، وهو: هل يمكن وجود وقت فراغ في حياة المسلم؟

لا شك أن ذلك غير ممكن بأي حال من الأحوال، فإن العمر -كما أسلفنا- ملك لله، وما الإنسان إلا مسئول عنه ومستأمن عليه في هذه الدنيا التي حدد الله عز وجل فيها دوره بوضوح ودقة متناهية

وذلك في قوله تعالى: ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) (الذاريات:65) .

وبناء على ذلك لا يصح تصور وجود وقت مستقطع من حياة الإنسان المسلم يكون فارغا فيه، ويسمى وقت فراغ.. فراغ من أي شيء، طالما أن حياته كلها عبادة لله، حتى في ترويحه وسروره وأنسه وجميع مناشط حياته؟ فهو في كل أوقاته إما مأمور بأمر، أو منهي عن أمر، وبالتالي لا يمكن تصور وجود [ ص: 52 ] وقت في حياة المسلم يحق له أن يتصرف فيه كيفما يشاء حسب ما تنص عليه بعض تعريفات علماء الغرب لوقت الفراغ.. ومن هنا يقرر بعض الباحثين أن كلمة الفراغ الواردة في الأحاديث النبوية إنما يراد بها: سلامة القلب، والنفس، والفكر من كل ما يلهي عن الخير والعبادة [6]

وهذا ما جعل الصحابي الجليل " معاذ بن جبل رضي الله عنه ، يقول: إني أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي " .. وهذا " أبو الدرداء رضي الله عنه ، يقول: إني لأستجم لقلبي بالشيء من اللهو، ليكون أقوى لي على الحق. "

ولا شك أن ما ذكر آنفا يمثل حقيقة مهمة في التصور الإسلامي الصحيح لوقت الفراغ في حياة الفرد المسلم من الناحية النظرية التي ينبغي وجودها وشعور المسلم بها، إلا أن واقع المسلمين بشكل عام يشهد بضد ذلك، فما زال التصور الإسلامي الصحيح لوقت الفراغ بعيدا عن أذهان بعض عامة المسلمين وأفرادهم، فكل متأمل لواقع الأمة المسلمة يرى الفراغ في كثير من أفراد المجتمع الإسلامي الحديث أصبح عمرا مهدرا، [ ص: 53 ] بل وعبئا على حركة المجتمع نحو التقدم... فهو يمثل طاقة استهلاكية، أو يغذيها، أو يمهد لها سبلها دون أن يقابلها دفعة إنتاجية، أو تنمية ماهرة، أو إبداع فكري جديد.

ومن يرغب التأكد مما ذكر من أن أوقات الفراغ في حياة الكثير من المسلمين أصبحت زمنا ضائعا لديهم، ومعوقة لسير المجتمع نحو النهضة الإسلامية الشاملة، عليه أن ينظر إلى البرامج والأنشطة الترفيهية التي يمارسها كثير من أفراد المجتمع المسلم، حيث تحولت هذه البرامج والأنشطة إلى هدر للطاقات وتسطيح للمفاهيم والأفكار، بل وأحيانا للهدم، سواء على المستوى الفردي أو المجتمعي.

وهذا الواقع يؤكد ضرورة العمل على تصحيح مفهوم وقت الفراغ في تصورات أفراد المسلمين، وإبراز حقيقة مهمة في حياة الفرد المسلم وهي أنه لا يمكن وجود وقت خال في حياة المسلم ليس فيه وظيفة للدنيا أو للآخرة، وحتى إن كانت للدنيا فهي للتزود والتقوي بها على أمور الآخرة.. كما ينبغي ضرورة تبصير المسلمين أنه لا يمكن تصور وجود وقت زائد عن حاجة المسلم، يكون فيه متحررا من القيود أو التكاليف الشرعية. [ ص: 54 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية