المبحث الثالث: مهمة الترجيح
أوضحنا فيما سبق الضوابط التي تضبط العلاقة بين الواقع والدعوة الإسلامية، بعد ما أوضحنا من قبل أصول تلك العلاقة، وربما كان أول سؤال يخـطر بالبـال الآن: من يقوم بمهمة ضبط هذه العلاقة؟ أو من يجتهد في تحديد هذه العلاقة وترجيح ما يتعارض فيها؟ أو من له الحق في الاجتهاد بناء على متطلبات وحاجيات الواقع؟
سبق للأئمة أن ذكروا شروط الاجتهاد حتى يحق للمجتهد أن يقول في كذا بكذا. وتلك الشروط -جلها متعلق بالعلم- [ ص: 168 ] ضرورية، ولكن غير كـافية، ذلك لأن الـدعوة إلى الاجتـهاد مـراعـاة لمتطلبات الواقع، هي دعوة محفوفة بالكثـير من المخاطر، وكثيرة المزالق، خصوصا إذا لم تحترم تلك الضوابط أو إذا فهمت على غير وجه حق، وما أكثر اليوم الاجتهادات المنحرفة التي تغير وجه الشريعة.
ويؤكد هذا قول جاوردي : (إنما نبدع فقه القرن العشرين، وليس ذلك مسؤولية مشتركة تقع على عاتق المسلمين فحسب، بل تقع كما يقول القرآن الكريم، على عاتق رجال الإيمان جميعهم، الذين تلقوا رسالة الأنبياء، جميعهم رسل الله ذاته) [1] .
كيف يجتهد في فقه المسلمين من ليس منهم؟ ثم إن الدين عند الله واحد، وهو الإسلام. أو لم يلحق الديانات الأخرى انحراف؟ أليس المطلوب من هؤلاء الذين يبدعون فقه القرن العشرين أن يكونوا مسلمين قبل كل شيء؟ وهل يقول القرآن الكريم ما ذهب إليه جارودي؟
هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى، فباب الاجتهاد والنظر في الأحكام الخاصة والعامة غير مفتوح للجميع، كما يريد بعض [ ص: 169 ] المثقفين أن يكون، وهو ما يقول به مثلا الدكتور النويهي : (ولسنا نعتقد أن هذا الحق مقصور على عمر أو سواه من الخلفاء الراشدين والصحابة، بل نعتقد أنه مفتوح لنا أيضا، إذا اقتنعنا بضرورة تطبيقه في أي مسألة من مسائلنا الدنيوية) [2] .
كيف يحق لأي كان أن يسوي نفسه بعمر أو غيره من الخلفاء الراشدين أو الصحابة رضي الله عنهم ؟ هل وصل ذلك المقام، وهم الذين عاصروا نزول الوحي، تلقوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تلاوة ومدارسة وسلوكا، وكانوا مدركين لمقاصده.
في زماننا كثر المنافقون والأدعياء، لا يؤدون الفرائض، ويتكلمون عن الاجتهاد وتطبيق الإسلام. وقد وصفهم الأستاذ عبد السلام ياسين بأنهم يجلسون بعد آذان العصر لتخطيط الخلافة الإسلامية حتى يؤذن للمغرب، وهم عن صلاتهم ساهون، ويستهزئون بالدين... [3] .
ثم يعطون لأنفسهم حق تغيير وتبديل الشرائع، (ولو ردوا الاجتهاد إلى المؤهلين له أو لو اكتسبوا هم المؤهلات الاجتهادية، وفي مقـدمتها التقوى والعلم، لقلنا: نعما [ ص: 170 ] ما فعلوا. لكنهم يحاكمون الإسلام والفقهاء إلى الحريات الغربية، ويدعون إلى الانسلاخ عن الإسلام، و (يجتهدون) ، رائدهم التطور ومراجعة الدين، لإخراج الدين... من (دياجير) الإيمان بالغيب والطاعة لله ورسوله) [4] .
والحقيقة أن شرط العدالة والتقوى ليس مطلوبا لبلوغ رتبة الاجتهـاد، بل لقبـول اجتـهاد المجتهد وفتواه عند المسلمين [5] .
ولا يقبل الاجتهاد من عاص، بل كيف يكون الاجتهاد من عاص؟ والاجتهاد نور، ونور الله لا يهدى لعاص.
وقال الشيخ عبد الوهاب خلاف ، بعد أن ذكر شروط المجتهد ومؤهلات الاجتهاد: (وبما أن سياج هذه المؤهلات هو خلق المجتهد ودينه وضميره، فيجب أن يكون عدلا، أي كاملا في دينه وخلقه، لا يرتكب كبيرة ولا يصر على صغيرة، ولا يخشى في الحق لومة لائم، ولا بأس ذي سلطان، ولا يبغي إلا المصالح العامة) [6] . ونعرف ذلك عنهم ببرهان الصدق نقتضيه منهم على [ ص: 171 ] محك الأيام والأحداث، والصبر على الجهاد [7] .
وبما أننا نتكلم عن الاجتهاد وفقه الواقع، فإنه لا مناص من اجتهاد جماعي شوري، يجـمع إلى المجتهدين الفـقـهاء جـمـاعة مـن العدول، أولي علم بشئون الدنيا في مجالاتها المختلفة، اجتماعية، اقتصادية... وهذا مطابق لما قاله رسوله صلى الله عليه وسلم ، فيما أخرجه الطبراني في الأوسط ( عن علي رضي الله عنه ، قال: قلت: يا رسول الله! إن عرض لي أمر لم ينزل فيه قضاء في أمر ولا سنة، كيف تأمرني؟ قال: تجعلونه شورى بين أهل الفقه والعابدين من المؤمنين، ولا تقضي فيه برأيك خاصة ) .
هذا، وسلطة تنفيذ الفتاوى والأحكام في الأمور العامة للمسلمين إنما يمتلكها الحاكم أو الوالي أو من ينوب عنهما [8] . [ ص: 172 ]