1- عبد الرحمن بن خلدون
ولد ابن خلدون [1] (732هـ/1332م) في مدينة تونس ، وتوفي عام (1406م) من أسرة عربية من حضرموت ، تعلم العلوم العربية والإسلامية، وقد تتلمذ على ابن رشد الفيلسوف . وقد قام بكثير من الأسفار، ما بين الأندلس والمغرب ومصر والحجاز والشام وسمرقند .
اشتغل في بداية حياته بالتدريس والخطابة والقضاء، كما اشتغل بالسياسة حتى وصل إلى وظيفة (حاجب ) ، كما مارس البحث والتأليف، وخاض في بحور السياسة، فتقاذفته أمواجها بين نفي وأسر، وأوشك أن يدفع حياته ثمنا لذلك. كما قام بمفاوضة التتار ، وقد أعجبوا بكفاءته كثيرا، وبعد أكثر من عقدين من العمل السياسي، صعد [ ص: 171 ] خلالها إلى القمة وهبط إلى السجن، بعدها اعتزل السياسة ليتفرغ لكتابة التاريخ، ثم ليحاول الانتقال إلى مفسر له، راصد لحركة التحضر، واضعا نظرية في علم العمران.
يقول عنه توينبي [2] : (إنه في مقدمته التي وضعها لكتابه في التاريخ، بلا ريب أعظم عمل من نوعه ابتكره أي عقل، في أي عصر، في أي بلد ) .
وقد وصفه ( جمبلوفتش ) وصفا رائعا، فقال [3] : (لقد أردنا أن ندلل على أنه قبل أوجست كونت ، بل قبل فيكو ، جاء مسلم تقي، فدرس الظواهر الاجتماعية بعقل متزن، وأتى في هـذا الموضوع بآراء عميقة، وأن ما كتبه هـو ما نسميه اليوم: علم الاجتماع ) .
ويعتبره د. قسطنطين زريق [4] أبرز باحث في الحضارة، في اللغة العربية، بل أول من عالج شئون الحضارة بصورة منظمة، في أي لغة من اللغات، لذا فقد استحق أن يعتبر المؤسس لعلم الحضارات، أو كما دعاه (علم العمران البشري والاجتماع الإنساني ) .
ويصفه د. معن زيادة بأنه جمع بين رجل التاريخ والفكر [5] : (كان [ ص: 172 ] ابن خلدون ، قبل أن يكون مؤرخا، مفكرا من مفكري عصره، بل مفكرا من القلائل، الذين يشعرون بالمسئولية التاريخية، أمام أحداث عصرهم، وكان إلى جانب ذلك رجلا من رجال السياسة، من أولئك الذين برزوا إلى الميدان، وجربوا مسئوليات الحكم وخيبته، في أشد الأوضاع تعقدا، وفي فترة حاسمة من فترات الحضارة العربية الإسلامية.
لقد أثبت ابن خلدون مقدرة ملحوظة في ميدان العلوم الفلسفية والعقلية عموما، كما أثبت كفاءة نادرة ومهارة ما بعدها مهارة في السياسة، وقد وصل إلى أهم المناصب، وبلغ أعلى السلم صعودا، قبل أن ينسحب انسحابا منظما ليتفرغ لكتابة المقدمة والتاريخ.. لقد وصل إلى التاريخ عن طريقين: طريق التأمل العقلي، وطريق التجربة السياسية الفنية، ولعل الطريق الثانية هـي التي قادته إلى الأولى ) .
في رحلته الطويلة، وبعد خوض السياسة، توجه إلى الخلوة في (قلعة سلامة ) ليتفرغ إلى كتابة التاريخ وعلم العمران، وقد بقي معتكفا في القلعة حتى عام (776هـ/1374م) . وقد استخدم تجربته السياسية، مازجا ذلك بمعارفه الواسعة، ومن الاثنين رسم علم العمران.
وإذا كان كل إنسان تشغله تجاربه الخاصة، فثراء حياة ابن خلدون العلمي واشتغاله بالسياسة جعله يشعر بوجود (فراغ سياسي) ، وأن أمته تدور في حلقة مفرغة من الحروب والفتن، كما شاهد تشرذم الإمارات في الأندلس ، وسقوطها الواحدة تلو الأخرى بأيدي الإسبان. ثم تحول إلى [ ص: 173 ] الشمال الإفريقي، ليجد فتنة جديدة، حيث وصل بدو بني سليم وبني هـلال ، فعاثوا في المنطقة فسادا، وأسقطوا إمارات منها إمارة ( بجاية ) ، والذي كان ابن خلدون يشغل وظيفة (حاجب) فيها، وهو أعلى منصب بعد الأمير، وقد انتدب لمفاوضة هـؤلاء البدو، وأوشك أن يقتل على أيديهم، ومن هـنا جاءت نقمته على البدو والأعراب بشكل عام.
فإذا أضفنا لذلك رحلاته وما رأى في العالم الإسلامي، ومفاوضاته للتتار، والذي يبدو لي أن ما رآه حمله أن يبحث له عن تفسير في التاريخ، الذي قاده إلى كتابة (المقدمة) ، التي هـي أثمن من التاريخ بكثير.
إن مفكرا كابن خلدون تتاح له فرصة التجول في العالم الإسلامي، ليرى على الواقع ما وصلت إليه أمور الأمة، لا شك سيدفعه للتفكير الجاد: لماذا يحدث كل هـذا، وأين الحل؟
إن خلوة ابن خلدون مدة زادت على أربع سنوات في قلعة (سلامة) ، مكنته من كتابة تاريخ، جعل عنوانه: (العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر ) .
والكتاب لا جديد فيه، لكن الجديد في تلك المقدمة الطويلة، وربما وجد لأول مرة، مقدمة أهم من الكتاب بكثير. فقد بسط كل ما لديه من علم ومعرفة في هـذه المقدمة، فجاءت شيئا ثمينا، بل متقدمة جدا على العصر الذي كتبت فيه، وهي تحوي على ستة فصول [6] . [ ص: 174 ]