الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
المقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين وآله الطيبين وصحابته المجاهدين..

وبعد:

فإن أمتنا تعيش أزمة، والواجب على كل مفكر غيور ومثقف نزيه مخلص أن يدلنا على مكامن الخطأ والتقصير.. فهل هـي أزمة سياسية، أم أزمة ثقافية فكرية، أم أزمة قيم وأخلاق، أم أزمة تربية وتعليم، أم هـي خليط من كل ذلك؟ وكيف المخرج؟ ابتداء، لقد مرت أمتنا من العصر الجاهلي إلى اليوم بعدة أحوال ومراحل:

1- مرحلة ما قبل الإسلام، قبائل لا تجمعها دولة ولا نظام، يحارب بعضها بعضا، ويغير بعضها على بعض، ويتسابق حصان وفرس (داحس والغبراء ) فتختلف أيهما سبق، فيكلف ذلك حربا، تستمر عقودا من السنين.

2- جاء الإسلام فوحد الأمة، ودفعها نحو القيادة والريادة، ونشر الإسـلام في العالم، فصـرنا بفضل الله قادة العالم وسادته، لعـدة قرون، لا يستطيع أحد أن يتجـاهلـنا، ولا يتخطـانا، ثم أقمنا صرحا حضاريا، لا تزال معالمه ماثلة للعيان، وأنتجنا ثقافة ما زلنا نعتاش عليها.

3- ثم بدأ العد التنازلي، والبعد عن أساس نهضتنا، فتجمد فكرنا، وتحولنا من المضمون إلى الشكل، ومن القيم والأفكار إلى الأشياء، [ ص: 39 ] ففقدنا القيادة، بل ضيعنا السيادة في بلادنا، فاجتاحنا الكثير من برابرة العالم، ابتداء من الصليبين الهمج، إلى المغول البدو، وأخيرا جاء الغرب الاستعماري بأساطيله وجنوده وثقافته، فكانت أكبر ضربة تتلقاها الأمة في حياتها.

وقبل أن يجلو الاستعمار عن الأرض والعقول والقلوب، زرع لغما كبيرا هـو إسرائيل، ومدها بكل وسائل الاستمرار والتفوق، وما يزال يمدها حتى اليوم.

وهنا أستذكر قضيتين، واحدة قديمة وأخرى جديدة:

1- القضية الأولى: تقود للعصر العباسي، حيث أوصى المأمون أن يكون الخليفة من بعده ( المعتصم ) ، وليس ولده، ولما كان المعتصم لم يتعلم جيدا، فقد أحاط نفسه بمجموعة من المستشارين على رأسهم (ابن أبي الربيع) ، الذي كتب للمعتصم كتاب (سلوك المالك في تدبير الممالك ) [1] ، وكان الشخص الثاني ( إسحاق بن إبراهيم المصعبي ) ، وقد طلب إليه المعتصم أن يجيب: لماذا نجح المأمون في تعاملاته وخلافته، بينما لم ينجح المعتصم؟ [ ص: 40 ]

لقد خاف المستشار المصعبي من غضب المعتصم، إن هـو صارحه السبب، فطلب أن يعفيه من ذلك، لكن المعتصم أصر على رغبته بالحصول على جواب سليم مقنع. هـنا قال المصعبي: هـل أنا آمن من غضبك؟ فرد المعتصم بالإيجاب.

قال المصعبي بإيجاز: لقد نظر أخوك إلى (أصول) فاستعملها فأنجبت، واستعمل أمير المؤمنين (فروعا ) فلم تنجب شيئا.. وهنا قال المعتصم: ويحك يا مصعبي، والله إن ما أعانيه أيسر علي من جوابك هـذا!

هذه (المـشـورة ) عمـرها أكثر من ألـف عـام، مفادهـا: أن المـأمون اعتـمد أصولا لسيـاسته فأثمرت، والمعتـصم اعتمد فروعا فـلم تنـتج ولم تنجب.

2- القضية الثانية: خلال الحرب الكونية الثانية تحالف الألمـان واليابان والإيطاليون ضد الغرب بما في ذلك أمريكا ، وكانت حربا قذرة بمعنى الكلمة، خلت من كل رحمة، فدكت المدن، وأزهقت أرواح أكثر من خمسين مليونا من البشر، وجاع وتشرد الملايين من البشر، ونهبت بلاد ومصانع، وفرضت غرامات، وضربت هـيروشيما وناكزاكي بقنابل نووية لأول مرة في التاريخ، وانتهت هـذه الحرب بصورة من الدمار لم تعرفه البشرية.

وخلال سنوات حصلت مفارقة غريبة، فقد تقدم المغلوب على [ ص: 41 ] غالبه، وتجاوز المهزوم هـزيمته ومن هـزمه، فما السر وراء ذلك ؟

أحسب أن عالم (الأشياء ) دمر ونهب، ولكن الإنسان وفكره بقي، فأقام كيانه مجددا، وتخطى من هـزمه. ولعل من تتمة هـذا، الإشارة إلى ما حققته الدول الاشتراكية من إرسال صاروخ إلى الفضاء، قبل أمريكا والغرب، فقامت أمريكا ولم تقعد لهذا السبق، لذا أعادت النظر في مناهج التعليم، من رياض الأطفال وحتى الجامعات، كما فتحت أبوابها لهجرة العلماء، من كل بقاع الأرض، ولم يهدأ لها بال، ولم تسترح حتى أرسلت صاروخا إلى الفضاء، وكان ذلك عيدا وأي عيد!

والآن أود أن أتسـاءل: هـل الفـكر هـو العـقل، أم العلم، أم الثقافة، أم هـو الأحكام والمبادئ، أم حصيلة جمع ذلك كله ؟

إن الأفكار هـي الضابط لسير المجتمع، والمانع من تراكم الأخطاء، والتآكل والصدأ.

العالم الصناعي اليوم ينشئ مراكز البحث، ويمدها بكل ما تحتاج [2] ، فأيـن مـراكز البـحث عندنا ؟

أخيـرا: هـل أزمتـنا أزمـة قيـم، أم أزمـة فكر؟ [ ص: 42 ]

إن شخصية الفرد المسلم تعيش أزمة، ليست بنت اليوم، لكنها تطاول عليها الزمن فأفرزت إفرازات ضارة، وربما قاتلة.

لقد افتقدت شخصية المسلم منهجيتها، وتراجع شهودها الحضاري، فنتج عجز عن التقويم والمراجعة ومعرفة أسباب التقصير والقصور، وكذلك تحديد أماكن الخلل والخطل، لقد خرجنا بعيدا عن الفعل والفاعلية، وصار التحضر ليس من هـمومنا، كل ذلك ليس بسبب فقر القيم، ولا المرجعية السليمة، فما زال كتاب الله يتلى، وما زالت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تدرس، وما زال إيمان جمهور الأمة بالإسلام كبير.

ليست مشكلتنا مشكلة قيم، ولا أزمة قيم -كما يحلو لبعض أبنائنا، وكل أعدائنا أن يصورها- وإنما المشكلة -في تصوري المتواضع- في العجز عن التعامل مع القيم، وفرضها على الواقع، أو الملاءمة بين هـذه القيم والواقع الحياتي، وهذه مهمة الفكر، ووظيفة الفكر.

هناك جهات داخلية وخارجية، تريد أن تقنعنا بأن أزمتنا في قيمنا ذاتها، وتريد أن تهيل التراب على الإسلام، عقيدة وشريعة وحضارة وثقافة وتراثا، فإن تعذر، فليكن عقيدة بلا شريعة، وعبادة بلا تشريع. إن انحسارنا الحضاري والثقافي، كان وما يزال أزمة فكر، فقد توقف النسق الفكري للحضارة والثقافة الإسلامية منذ قرون، وصار المعتقد: (لم يترك الأوائل للأواخر شيئا ) . [ ص: 43 ]

والمطلوب حاليا أن نحاول بكل جد وإخلاص تحديد الأزمة، ومعرفة آثارها، ثم تحديد مواطن الخطأ والصواب، وكل ذلك وفق منهج يستلهم القيم، لا أن يقفز فوقها أو يهيل التراب عليها، ويستبدل بها قيما خارجية لا تمت إلينا بصلة.

هناك قيم عامة للبشر، وهناك قيم لكل حضارة وكل أمة.. قد تعيش الأمة بدون حضارة، لكنها لا تعيش بدون ثقافة وقيم.

ولم يسجل التاريخ اسم أمة نزعت ثقافتها مرة واحدة، كما يخلع الإنسان ملابسه ويغيرها.

الثقافة صانعة الهوية، ومانحة الولاء، والذين يحتقرون ثقافتهم أولئك انسخلوا من الأمة، ولم يبق لهم بها صلة غير (المكان ) .

وكم في العالم من بشر جسمه في وطنه، وقلبه وعقله يطوف حول أصنام لندن أو باريس أو واشنطن .. جسده هـنا، أما عقله وقلبه فهناك، إنه مأزوم مهزوم، حتى سويداء القلب، ونخاع العظم.

ويقول ( فرانك أنلو ) : (راقب أفكارك فإنها تتحول إلى كلمات.. راقب كلماتك فإنها تصبح أفعالا.. راقب أفعالك فإنها تتحول إلى عادات.. راقب عاداتك فإنها تصبح طباعا.. راقب طباعك فإنها ظلال مصيرك... )

والله الموفق والمعين. [ ص: 44 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية