الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

نحن والحضارة والشهود [الجزء الأول]

الدكتور / نعمان عبد الرزاق السامرائي

2- هـيجل والتفسير المثالي

هـيجل فيلسوف ألماني عاش ما بين (1770-1831م) ، صاحب اتجاه في (وحدة الوجود ) ، من المتأثرين بكل من (كانت وفخته وشبلنج ) ، وقد كان له تأثير كبير على الفكر الألماني، صاغ أفكاره بأسلوب صعب، بحيث يحتمل أكثر من تفسير، وقد ظهر ذلك جليا في استشهاد تلاميذه -على اختلاف توجهاتهم- بما كتبه، فالمؤمنون منهم والملحدون يجدون لهم شواهد فيما كتبه هـيغل، تؤيد دعواهم. [ ص: 184 ]

وقد طور الجدل (الديالكتيك ) ليجعل منه طريقة خاصة بالبحث، وأسلوبا في المناظرة [1] : (أصبح طريقة لتفسير الواقع، وقانونا كونيا عاما، ينطبق على مختلف الحقائق، وألوان الوجود، فالتناقض ليس بين الآراء ووجهات النظر فحسب، بل هـو ثابت في صميم كل واقع وحقيقة، فما من قضية إلا وهي تنطوي في ذاتها على نقيضها ونفيها. وكان هـيغل أول من أشاد منطقا كاملا على هـذا الأساس... لقد أنشأ فلسفته المثالية كلها على أساس هـذا (الديالكتيك) ، وجعله تفسيرا كافيا للمجتمع والتاريخ والدولة، وكل مظاهر الحياة، وقد تبناه بعده ( ماركس ) فوضع فلسفته المادية في تصميم ديالكتيكي خالص.

فالجدل الجديد -في نظر أصحابه- قانون للفكر والواقع على السواء، فهو طريقة تفكير، ومبدأ يرتكز عليه الواقع في وجوده وتطوره ) .

يتصور هـيجل أن التاريخ عبارة عن صراع للمتناقضات [2] : (فكل قضية في الكون تعتبر إثباتا وتثير نفيها في نفس الوقت، ويأتلف من الإثبات والنفي إثبات جديد، فالمنهج المتناقض للديالكتيك أو الجدل الذي يحكم العالم يتضمن ثلاث مراحل، تدعى: الأطروحة والطباق والتركيب.. وفي تعبير آخر: الإثبات والنفي ونفي النفي.. وبحكم هـذا المنهج الجدلي، يكون كل شيء مجتمع مع نقيضه، فهو ثابت ومنفي، وموجود ومعدوم في وقت واحد ) . [ ص: 185 ]

حركة التحضر عند هـيجل

لهيجل تصور خاص في حركة التحضر، فهو يفسرها أو يتصورها، كصراع بين متناقضات، ويطرحها على الوجه التالي، باختصار [3] :

1- كل فترة في تاريخ الحضارة، تمثل وحدة مستقلة، وإن ملامحها السياسية والاقتصادية والأخلاقية والاجتماعية والدينية والفنية، كلها جوانب (للمجموع الحي ) ، ومنها جميعا يتكون كيان متجانس.

2- كل فترة أساسية تنمي فكرتها الرئيسة إلى الحد الأقصى، ثم تولد أضدادها أو نقائضها، ويستمر الصراع هـكذا، حتى تتحد المتناقضات في وحدة عليا (الموحد أو الجامع ) ، فتكون أفضل من الفكرة ونقيضها، ثم ينحل هـذا (الجامع ) ليتولد عنه فكرة جديدة ونقيض، وهكذا يستمر الحال، كل فكرة تصارع نقيضها، لتنتج جامعا، وكل جامع أو موحد يفرز نقيضا، ويستمر الصراع حتى تصل الفكرة إلى (المطلق ) الذي يخلو من التناقض والصراع [4] .

ولتقريب الفكرة، أذكر مثالا ضربه هـيجل:

أ- عهود السلطة المطلقة في الحكم (فكرة ) .

ب- يعقبها عهود فوضى (نقيض ) . [ ص: 186 ]

جـ- منها يأتي عهد دستوري، هـو خير من الاثنين.

3- إن جوهر التطور لدى هـيجل هـو ما يفرزه وينتجه (صراع المتناقضات ) ، حيث تحمل كل فكرة تناقضا داخليا، يدفعها إلى الإمام، ثم لا تلبث أن تتحطم لتتحول إلى شيء جديد، أفضل من الفكرة والنقيض، وهو يحمل التناقض، وبفعل الصراع يكون فكرة جديدة ونقيض، وهكذا.

4- تبنى هـيجل، وتابعه الماركسيون، أن كل عهد من عهود الحضارة يأتي يكون أرقى وأفضل من سابقه، على اعتبار أن (الجامع أو الموحد ) يكون دوما أفضل من الفكرة ونقيضها، وهذا يشكل خطوة للإمام، والحضارة اللامعة تكون أفضل من سابقتها كذلك. ولم يقفوا عند هـذا الحد، ولكن قالوا: إن الحضارة في رقي دائم، لا سبيل إلى مقاومته [5] . وأصل الفكرة نادى بها بعض فلاسفة اليونان، ثم جاء هـيجل ليفسر بها حركة التاريخ، وعنه أخذها الماركسيون.

والإنسان يتمنى حقا أن تكون الحضارة كذلك، لكن الذي نشاهده أن الحضارة قد تتقدم بعض مكوناتها دون بعض، فهي ليست كائنا عضويا، أما أن تتقدم كافة مكوناته أو تتأخر، فالحضارة -كما تقدم- خليط من أفكار ومعتقدات وتشريع وآداب وفنون ومنشآت مادية، جمعت في زمان ومكان، لذا فإن بعضها قد يتقدم والبعض الآخر قد [ ص: 187 ] يتوقف، على حين تتأخر مكونات أخرى. ولو كانت الحضارة في تقدم تام، لا سبيل لإيقافه، فكيف تنحل وتسقط؟

5- يطرح هـيجل معادلة فيقول: كل ما هـو معقول فهو حقيقي، وكل ما هـو حقيقي فهو معقول.

والمطلوب أن يحدد لنا هـيجل وكذلك تلاميذه، معنى المعقول والحقيقي، لكن الذي وجدناه لدى تلاميذ هـيجل غريب، فالمتدين يقول: الدين معقول فهو حقيقي، والتملك معقول فهو حقيقي، بينما يقول تلميذ لهيجل ملحد: إن الدين غير معقول، ولذا فهو غير حقيقي، وهكذا، وهذا ثمن الغموض في الصياغة.

تعقيب ومناقشة

نسلم أن الصراع بين الميول والاتجاهات المتقاربة حقيقة من حقائق الحياة، وقد نجد أكثر من آية في كتاب الله تشير لذلك، منها:

( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ) (الحج:40) .

وقـولـه: ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ) (البقرة:251) ، فالتدافع بين البشر حقيقة من حقائق الحياة، وسنة من سننها، قديما وحديثا، على مستـوى الأفراد والأنظـمـة والـدول والثقافات والحضارات. [ ص: 188 ]

كذلك فإن أي نظام -على مستوى القطر أو الحضارة- يحقق أغراضه، ويستوفي مبررات وجوده، فهو لا يلبث أن ينحل ويسقط، ليقوم نظام جديد مكانه يهدم الأول، ليبني على أنقاضه، وهكذا.

وكل نظام وكل نسق حضاري يريد أن يستمر، ويجاهد في ذلك، لكنه متـى مـا فـسد وتعفن، واسـتوفى مبـررات وجـوده، فـلـيـس أمـامه إلا السقوط. والشجرة إذا ماتت لن ينفعها كثرة الري، بل ستتعفن جذورها، لتسقط في أقرب وقت.

ويبدو أن هـيجل توسع في قضية (الصراع ) حتى جعله كل شيء، وجاء تلاميذه من الماركسيـين ليعلنـوا بقـوة: أن تاريخ البشـرية مـا هـو إلا صراع بين طبقات المـجتمع، مـن أجـل الـمادة وبسببها.

ولو أمكن أن أعدل في هـذا الطرح (الهيجلي ) لقلت: إن الفكرة تحرك نقيضها، لكنها لا تلد ذلك النقيض، هـذه قضية، والقضية الثانية أن مصطلح (النقيض ) الذي يستعمله هـيجل ليس هـو النقيض المعروف لدى علماء المنطق، فهناك تميز ونقيض، وجل أمثلة هـيجل من النوع الأول (التميز ) وليس من النقيض.

وهناك أمثلة أخرى يضربها هـيجل لا علاقة لها بالتناقض، فهو يقول مثلا: زهرة الرمان (فكرة ) والكأس (نقيض) ، ومن الاثنين تأتي ثمرة (الرمان ) وهي أفضل من الزهرة والكأس، أقول هـذا ليس تناقضا. [ ص: 189 ]

كذلك لا يجد الدارس لما كتـبه هـيجل عن الفكرة والنقيض فصلا، بل يجد امتزاجا أو اشتراكا، لكنه لا يجد نقيضا.

القضية الأخيرة لرسم العلاقة بين المعقول والحقيقي غير واضحة، واستعمال تلاميذه لها خير دليل.

ومع ذلك فهل يعتبر هـيجل النصر في الحرب هـو الحقيقة أو المعقولية؟ إن كان كذلك فقد ينتصر مبطل، وقد ينهزم محق، فليس كل منتصر يمثل الحق، ولا كل منهزم يمثل الباطل، بل القوة لا تنشئ حقا، ولكنها قد تستعمل في حمايته وحراسته.

التالي السابق


الخدمات العلمية