الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

نحن والحضارة والشهود [الجزء الأول]

الدكتور / نعمان عبد الرزاق السامرائي

الحضارة في المدلول الإسلامي

لقد وجدت د. نصر محمد عارف ، يبحث عن الجذر اللغوي لكلمة حضارة، واستعمالاتها اللغوية، فيعد سبعة معان، ثم يبين الأكثر دورانا واستعمالا، فيقول [1] : [ ص: 68 ]

1- الحضور نقيض المغيب والغيبة.

2- بمعنى عنده: كنا بحضرة ماء، ورجل حاضر.

3- قرب الشيء: الحضرة، كنت بحضرة الدار.

4- جاء أو أتى: حضرت الصلاة، أو حضر القاضي.

5- الحضر خلاف البدو، والحضارة الإقامة في الحضر.

6- الحاضرة: الحي العظيم.

7- الحاضر: ضد المسافر.

وتأتي حضر بمعنى شهد، كقوله : ( إذا حضر أحدكم الموت ) (البقرة:180) ، وقوله تعالى: ( وإذا حضر القسمة أولو القربى ) (النساء:8) .

كما تأتي " شهد " معنى حضر،

كقوله تعالى: ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) (البقرة:185) .

وقد اعتدت في مثل هـذه الموضوعات، أن أعود للفيروزآبادي ، فهو خير من يتابع المصطلح في كتاب الله، وألخص ما قال [2] في مصطلح الشهادة:

1- الشهود والشهادة: الحضور مع المشاهدة، إما بالبصر أو البصيرة، يقال: شهدت كذا أي حضرته، كما يقال شهدت على كذا.

قال تعالى: ( ما شهدنا مهلك أهله ) (النمل:49) ، أي ما حضرنا. [ ص: 69 ]

2- الشهادة: قول صادر عن علم، حصل بمشاهدة بصر أو بصيرة،

قال تعالى: ( ستكتب شهادتهم ويسألون ) (الزخرف:19) ، تنبيها إلى أن الشهادة لا بد أن تكون عن شهود.

3- الشهادة بمعنى العلم،

قال تعالى: ( لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون ) (آل عمـران:70) ، وقولـه: ( ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ) (الكهف:51) ، أي ما أطلعتهم..

والشهادة تأتي على نوعين:

أ- أشهد بكذا: أعلم بكذا، ولا تقبل إلا بهذا اللفظ.

ب- أشهد: يجري مجرى القسم، فيقال: أشهد بالله أن فلانا كذا.

4- شهادة الله بمعنى إيجاد،

مثل قوله: ( شهد الله أنه لا إله إلا هـو ) (آل عمران:18) ، فشهادته تعالى بوحـدانيـته، تـكـون بإيجـاد ما يدل على وحدانيته في العالم وفي نفوسنا.

5- الشهيد: يطلق على المشاهد والشاهد،

يقـول تعالـى: ( وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد ) (ق:21) ، والشهيد من قتل في سبيل الله.

6- الشهداء: جمع شهيد، وتأتي بمعنى من يشهد وبمعنى الأعوان،

قال تعالى: ( وادعوا شهداءكم ) (البقرة:23)

أي أعوانكم، أو من يشهدون لكم، وتكون على الغير

قال تعالى: ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) (البقرة:143) . [ ص: 70 ]

7- الشهادة، أي شهادة التوحيد: لا إله إلا الله محمد رسول الله.

وقد وجدت د. نصر يولي الشهادة في القرآن الكريم عناية طيبة، فيرى أن لها أربع دلالات متكاملة، تؤدي معنى الحضارة، أو الشهادة في الفهم الإسلامي، وهي لا يمكن أن تتجزأ، وإلا فقدت مضمونها، وكل دلالة تمثل جزءا من بناء مفهوم الحضارة، ولا بد من توافرها جميعا، في نسق واحد، وهذه الدلالات هـي [3] :

1) الشهادة بمعنى التوحيد والإقرار بالعبودية لله، والاعتراف بتفرده سبحانه بالألوهية والربوبية، وهي محور العقيدة الإسلامية، وعليها يتحدد التزام الإنسان بمنهج الله، أو الخروج عنه.

2) الشهادة بمعنى قول الحق، وسلوك طريق العدل، أو الإظهار والتبيين، أو الإخبار المقرون بالعلم، أو الملاحظة والمراقبة، وتعد مدخلا من مداخل العلم، ووسيلة من وسائل تحصيل المعرفة.

3) الشهادة بمعنى التضحية والفداء، وتقديم النفس في سبيل الله حفاظا على العقيدة، ودفاعا عن تحرير الإنسان من عبادة العباد، وإخراجه إلى عبادة الله وحده.

4) الشـهادة كـوظـيـفـة لـهذه الأمـة: ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) (البقرة:143) . [ ص: 71 ]

وينصرف معناها إلى الشهادة في الدنيا والآخرة، ذلك أن واجب الشهادة لا تقوم به إلا الأمة الوسط، الخيرة المتميزة.

(وطبقا لهذه المعاني الأربعة، فإن الحضارة هـي الحضور والشهادة بجميع معانيها، التي ينتج عنها نموذج إنساني، يستبطن قيم التوحيد والربوبية، وينطلق منها كبعد غيبي، يتعلق بوحدانية خالق الكون، وواضع نواميسه وسننه، والمتحكم في تسييره، ومن ثم فإن دور الإنسان ورسالته هـي في تحقيق الخلافة عن خالق هـذا الكون في تعمير أرضه وتحسينها، وتزجية معاش الناس فيها، وتحقيق تمام التمكين عليها، والانتفاع بميزاتها، وحسن التعامل مع المسخرات في الكون، وبناء علاقة سلام معها، لأنها مخلوقات تسبح الله، أو رزق لا بد من حفظه وصيانته. كذلك إقامة علاقة مع بني الإنسان، في كل مكان على ظهر الأرض، أساسها الأخوة والألفة، وحب الخير والدعوة إلى سعادة الدنيا والآخرة ) [4] .

التالي السابق


الخدمات العلمية