الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

منهج السياق في فهم النص

الدكتور / عبد الرحمن بودرع

ثالثا: السياق اللغوي للقرآن الكريم

1 - اللغة المتداولة في عصر التنزيل هـي المرجع في التفسير

هذا وإن اللغة التي ينبغي أن تعد مرجعا في تفسير القرآن الكريم واستنباط الأحكام منه هـي اللغة التي كانت متداولة في عصر التنـزيل، دون الالتفات إلى اللغة الحادثة [1] ، وما طرأ عليها في العصور التالية من تطور في دلالات الألفاظ، مما لا ينبغي تحكيمه في فهم القرآن الكريم، وبعيدا عن الرواسب الفكرية التي يحملها المفـسر فيسقطها على القرآن، بما يخرج النص عن بلاغته وأصالته، ومعنى ذلك أن لغة التنـزيل ترافق [ ص: 36 ] سياق التنـزيل وتلازمها [2] ولا تحيد عنها، فلا ينبغي إخراج المصطلح الشرعي عن مدلوله الأصلي وإلا فسيصير «لفظ الشرع غير مطابق مسماه الأصلي» [3] ، «وهذا أمر يوجب الجهل بالحق والظلم للخلق» [4] .

فينبغي حمل ألفاظ القرآن الكريم على محملها؛ كأن تحمل على الحقيقة ولا يعدل عنها إلى المجاز إلا بقرينة من القرائن التي يعرفها المخاطب والمخاطب؛

كقوله تعالى: ( واسأل القرية التي كنا فيها ) (يوسف:82) ،

وقوله: ( فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه ) (الكهف:77) [5] ، فالمخاطب يعلم أن المراد بالقرية أهلها، وبالفعل «يريد» المسند إلى الجدار معنى يكاد ويوشك، بمقتضى من العقل، ويعلم بالعرف [ ص: 37 ] أن المراد من الأمـر في الآية: ( يا هـامان ابن لي صرحا ) (غافر:36) : يا هـامان مر من يبني لي صرحا.

فالواجب أن يعرف الدارس للقرآن الكريم اللغة والعادة والعرف الذي نزل به القرآن والسنة على السواء، وما كان الصحابة يفهمون من الرسول صلى الله عليه وسلم عند سماع تلك الألفاظ، فبتلك اللغة والعادة والعرف خاطبهم الله ورسوله، لا بما حدث بعد ذلك.

2- مجاوزة مدلول الكلمة إلى تركيب الكلام ومقتضى السياق

يقتضي منهج التفسير اللغوي السياقي ألا يقتصر المفسر على دلالة الكلمة المفردة، بل يجاوزها إلى تركيب الكلام... قال المفسر أبو حيان النحوي الأندلسي عند قوله تعالى: ( ولقد هـمت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه ) (يوسف:24) : «طول المفسرون في تفسير هـذين «الهمين»، ونسب بعضهم ليوسف ما لا يجوز نسبته لآحاد الفساق. والذي أختاره أن يوسف عليه السلام لم يقع منه هـم بها البتة، بل هـو منفي لوجود رؤية البرهان، كما تقول: لقد قارفت لولا أن عصمك الله. ولا تقول: إن جواب (لولا) متقدم عليها، وإن كان لا يقوم دليل على امتناع ذلك... بل نقول: إن جواب (لولا) محـذوف لـدلالة ما قبله عليه، كما يقول جمهور البصريين في قول العرب: أنت ظالم إن فعلت... ولا يدل قوله: أنت ظالم. على ثبوت الظلم... والذي روي عن السلف لا يساعد عليه كـلام العرب... وقـد طهرنا كتابنا هـذا... واقتصرنا على ما دل عليه لسان العرب ومساق الآيات.» [6] . [ ص: 38 ] فتبين أن المعنى الصحيح في نفي الهم عن يوسف عليه السلام يبينه تركيب الكلام كما ورد على أصله، من دون حاجة إلى القول بخروجه عن ترتيبه.

3- تتبع الكلمة القرآنية في مواردها المختلفة

ومما يعين على حسن الفهم أن يتتبع القارئ الكلمة القرآنية في مواردها المختلفة، [7] ويستقريها في مواضعها كلها؛ حتى يتبين له السياق الدلالي الصحيح الذي وردت فيه، وذلك مثل كلمة: الاجتناب، التي وردت في معرض النهي عن الخمر، فإن الموارد التي وردت عليها الكلمة في القرآن الكريم تفيد اقترانها بالشرك وما في معناه. [8] ، ويستنتج من ذلك الاقتران أن الكلمة تفيد التحريم القطعي.

ولقد عد العلماء مراعاة السياق في فهم القرآن الكريم المنهج الأمثل في التفسير، وضابطا من الضوابط المهمة في حسن الفهم والتأويل، وتجلت هـذه القاعدة المنهجية –أي: المنهج السياقي- في تفسير القرآن بالقرآن [9] ، [ ص: 39 ]

ودلالة السياق من أعظم القرائن التي تدل على مراد المتكلم، وترشد إلى تبيين المجمل وإثبات المعنى المراد دون غيره، وتخصيص العام وتقييد المطلق، وكل قول أو تفسير لا يؤيده السياق فلا عبرة به؛

فمن ذلك أن قوله تعالى: ( ذق إنك أنت العزيز الكريم ) (الدخان:49) ، إنما يعني به: الذليل الحقير،

وأن قوله تعالى : ( وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم ) (يوسف:53) ،

إنما هـو من قول امرأة العزيز وليس من قول يوسف [10] ؛ لأن السياق يفيد أن كلام يوسف قد انقطع وبدأ كلام امرأة العزيز في جمل متصلة أمام الملك، ولم يكن يوسف حاضرا معها في ذلك الوقت، ولكنه استدعي فيما بعد، قال ابن كثير : «تقول المرأة: ولست أبرئ نفسي؛ فإن النفس تتحدث وتتمنى، ولهذا راودته؛ لأن ( النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي ) ؛ أي: إلا من عصمه الله تعالى، ( إن ربي غفور رحيم ) . وهذا القول هـو الأشهر والأليق والأنسب بسياق القصة ومعاني الكلام، وقد حكاه الماوردي في تفسيره، وانتدب لنصره الإمام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله، فأفرده بتصنيف على حدة.» [11] . [ ص: 40 ] وتقتضي مراعاة السياق «مراعاة سياق الآية في موقعها من السورة، وسياق الجملة في موقعها من الآية، فيجب أن تربط الآية بالسياق الذي وردت فيه، ولا تقطع عما قبلها وما بعـدها، ثم تجر جرا لتفيد معنى أو تؤيد حكما يقصده قاصد.» [12] .

التالي السابق


الخدمات العلمية