ثانيا: منهج السياق المقامي

في دراسة الحديث

- لغة الحديث، وملامح الحياة الاجتماعية، وبلاغة الغريب

لا تقتصر قيمة الدراسة اللغوية والبلاغية على الإسهام في بيان صحة الحديث وسلامته وتمييزه من الضعيف والموضوع، كما رأينا في الحديث عن المعيار اللغوي باعتباره مقياسا لتمييز الحديث الصحيح من الموضوع، ولكنها تتعدى ذلك إلى أمرين آخرين لا يقلان أهمية عن الأمر الأول:

أولهمـا: بيان بلاغة الحديث وجمـاله البياني وحسن نظمه وتركيبه وصوغه.

والثاني: استخراج القيم المقامية من مقال الحديث، وبيان ملامح الحياة الاجتماعية التي يتضمنها نص الحـديث، وما فيه من مواقف، وما يستنبط من هـذه المواقف من دلالات وقيم، فترسم صورة حية ناطقة صادقة عن الحياة في عهد النبوة.

وهناك أحاديث كثيرة لا تكاد تحصى جمعت بين الإيجاز والجمع في الكلم بلاغة، وبين الدلالة على مواقف من الحياة الاجتماعية النابضة المتحركة دلالة، وبين تنوع أنماط الجمل لغة وتركيبا. وكل هـذه المزايا [ ص: 131 ] البيانية والبـلاغية، والدلاليـة المقـامية، واللغوية التركيبية التي يزخر بها الحديث قيم عالية تحملها اللغة العربية وينفعل بها المتكلم، وتدل على أن الحديث النبوي نصوص شرعية يحتكم إليها المسلمون للقيام بما يحتاجه التشريع، وكلام بليغ فصيح، هـو «سنة شريفة تقتضي من المسلمين اتباعها، تأسيا بالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم ^[1] » الذي لازمت كلامه الفصاحة في جميع مواقفه.

فلو دخلت لغة الحديث ونظمه وبلاغته لغتنا، وقفزت على ألسنتنا وتوضعت في أنماط تعبيرنا، مثلما دخلت السنة حـياتنا العملية وأثرت فيها، لارتفع شأن اللغة العربية اليوم، ولارتفعت درجة فصاحته، ولكان للسنة حضور وشيعوعة في استعمالنا اللغوي بكافة وجوهه وميادينه، وخاصة الميدان العلمي والأدبي، وما يشتمل عليه من تأليف وإبداع ونقد وبحث علمي.

فالعربية الفصحى سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، كباقـي السنن الفعلية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحـابة، بل هـي من آكد السنن.

وهكذا فإن فصاحة الحديث النبوي سنة عملية لا تقتصر على عهد النبوة، ولكنها تمتد إلى مساحات شاسعة من تاريخ العربية في تطورها [ ص: 132 ] عبر العصور إلى يومنا هـذا، وتجد مصدرها في القرآن الكريم، الذي هـو كتاب معجز في بلاغته ونظمه وفصاحته، ولكنه مقياس عال ونموذج أسمى، والتحاق ملكة المتكلم اللغوية بفصاحة القرآن الكريم في صورها وملامحها المتنوعة هـي الباب المفضي إلى إدراك الأحكام، وتمثل المعاني والمبادئ التي نزلت بلسان العرب، وبه تفهم.

فينبغي للمتكلم من هـذا الوجه أن يحمل نفسه على ممارسة تلاوة القرآن باللسان العربي الذي به أنزل، وبالفصاحة العالية التي نطق بها الأولون؛ فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه وتابعيهم رضي الله عنهم من تفضيل إعراب القرآن، والحض على تعليمه وذم اللحن وكراهيته، ما وجب به على قراء القرآن أن يأخذوا أنفسهم بالاجتهاد في تعلمه، فقد ( روي عن أبي هـريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه. ) ^[2] . ( وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «أعربوا القرآن فإنه عربي، فإنه سيجيء قوم يثقفونه وليسوا بخياركم. ) ^[3] . [ ص: 133 ] هذا، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم إذا وقع لأحدهم مسألة في صيغة اللفظ -وإن كان لا يخل بالمعنى- أبدى ذلك فقال: «إخاله كذا» أو «أظن كذا»، وما ذاك إلا لسببين: أحدهما الصدق في حقيقة النقل. والثاني المحافظة على بركة ذلك اللفظ الخاص؛ لئلا تفوتهم بركته. فكانت ألفـاظه وحركاته صلى الله عليه وسلم كلها عندهم بركات، وكيف لا وقد حض عز وجل على ذلك في محكم كتابه ونبه عليه: nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=31 ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم ) (آل عمران:31) ، وعموم الأمر بالاتباع، يقتضي حقيقة الاتباع في الدق والجل من الفعل والقول ^[4] .

وينبغي للمتكلم أيضا أن يحمل نفسه على إعراب الحديث وعدم اللحن فيه، فقد روى عفان بن مسلم عن هـمام قال : «أعربوا الحديث فإن قتادة لم يكن يلحن، وقال: إذا رأيتم في حديثي لحنا فقوموه.» ^[5] ، وعن عيـسى بن يونس قال: «شهـدت الأعمش قال له رجـل: إن ابن سيرين يسمع الحديث فيه اللحن، فيحدث به على لحنه، فقال الأعمش : إن كان ابن سيرين يلحن فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلحن، فقوموه.» [ ص: 134 ] وعن الأوزاعي أنه قال: «أعربوا الحديث فإن القوم كانوا عربا -أو قال: كانوا يعربون- وإنما اللحن من حملة الحديث، فأعربوا الحديث.» وقال حماد بن سلمة : «من لحن في حديثي فليس يحدث عني.» ^[6] .

وروي " عن عمر رضي الله عنه أنه كتب: أن تعلموا الفرائض والسـنة واللحـن كما تعلمون القرآن. " ^[7] ، واللحن : انتحاء سمت العرب في كلامها.

" وروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: جردوا القرآن وزينوه بأحسن الأصوات، وأعربوه فإنه عربي، والله يحب أن يعرب. " ^[8] . وقيل للحسن في قـوم يتعلمـون العربية، فقال: أحسنوا، يتعلمون لغة نبيهم صلى الله عليه وسلم . ^[9] . [ ص: 135 ] والحديث النبوي الشريف وجه عملي للقرآن الكريم، وتطبيق متفوق لبلاغته وفصاحته ونسقه وبيانه ^[10] ، وله قدرة عالية على الوضع والابتكار، والتشقيق من الألفاظ، فهو يغترف من معين كتاب الله، ويستجيب للحاجات اليومية ومطالب الحياة ومثارات المقام.

ولذلك يتعين على مناهج البحث اللغوي ألا تقتصر في تفسير الظواهر الاجتماعية والمتغيرات اللغوية -ومن بينها أسباب ورود الحديث- على مبادئ لغوية محضة؛ وإنما ينبغي لها أن تستمد من اللسانيات الاجتماعية أو علم اللغة الاجتماعي بعدا جديدا، يجاوز تلك المبادئ والقيم اللغوية الخالصة، ويستشرف اللغة من خلال زاوية واسعة هـي السياق الاجتماعي، الذي تستعمل فيه اللغة وتتفاعل فيه مع محيطها، وما يرافق هـذا السياق من عوامل خارجية تؤثر في استعمال اللغة؛ كالمعنى والهيئة الاجتماعية وظروف الخطاب وغير ذلك...

والحديث النبوي في عمومه له دلالة من ظروف الخطاب، ومرجع في مقام القول، وأصول في ثقافة المتكلم وعقيدته وبعض أعراف قومه. ويستند إلى قاعدة من الأمثلة ووسائل الإيضاح تختلف عن كثير من [ ص: 136 ] أنواع التمثيل؛ لأنها لا يراد منها مجرد التمثيل الصوري. ووجه الاختلاف ومرجعه أن كل ضرب من الأمثلة مناسب للمقدمات والمقاصد التي يصدر عنها وتعد منه بمنزلة الرأس. وكل هـذه القيم اللغوية خاضع لاعتبار سلوك الكلمات داخل الكلم الذي يعكس سلوك المتكلمين داخل المجتمع.

ويعد الصدور عن جهة المقام في تفسير الكلام قاعدة تلائم بين قواعد الكلام الثابتة في نفس المتكلم ومتغيرات البيئة الكلامية التي تحيط به. وهذه الجهة أهل لتحصيل الملاءمة والتناسب بين الثابت والمتغير لما فيها من مرونة وقدرة على تفسير الفروق الدلالية المناسبة للأحوال المقامية المختلفة.

وهكـذا فإن قاعدة المقام الاجتماعي وسيـط بين نسق لغـوي من القواعد، ونسـق مقامي هـو الخـارج، وما يتبعه من مقامات وأحوال مختلفة.

وقد ترد في الحديث النبوي عبارات كثيرة لا تضبطها القواعد الصورية ولا تخضع لمقاييس الكلام المألوف، إلا أنها آيلة إلى تلك المقاييس بتقدير وتأويل. فهي عبارات من الكلام لها مقاييس في نفوس المتخاطبين، ولها نظير في أعرافهم ومثاقفاتهم. فقد يبدو للوهلة الأولى أن تلك العبارات غير قياسية، ولكن ردها إلى الأصول غير اللغوية يفسر [ ص: 137 ] خروجـها على النظام، أو يفسر على الأقل خضـوعها لنظام مفارق، بل يمكن الذهاب إلى أن مثل هـذه العبارات مما يثري اللغة ويغني قواعـدها ومبادئها ولا يكتفى فيـها بالوارد من الشواهد، ولا يكتفى بما قرره اللغويون.

فمن مظاهر صلة البيان النبوي بالحياة الاجتماعية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخاطب القبائل بألفاظها، واستعمل معهم ما يستعملون في كلامهم؛ وذلك ليبين للناس ما نزل إليهم، وليحدثهم بما يعلمون؛ فليس كلامه مع أهل قريش والأنصار وأهل الحجاز ونجد ككلامه مع ذي المشعار الهمداني الذي وفد من تبوك، وطهفة النهدي خطيب نهد ووافدها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، والأشعث بن قيس الذي وفد في ستين راكبا من اليمن، ووائل ابن حجر الكندي ، وغيرهم ^[11] .

ومن قوله لنهد حين شكا وافدها للنبي صلى الله عليه وسلم ما أصاب قومه من القحط: [ ص: 138 ] ( اللهم بارك لهم في محضها ومخضها ومذقها ^[12] ، وابعث راعيها في الدثر ^[13] وافجر له الثمد ^[14] ، وبارك له في المال والولد، من أقام الصلاة كان مسلما، ومن آتى الزكاة كان محسنا، ومن شهد أن لا إله إلا الله كان مخلصا، لكم يا بني نهد ودائع الشرك ^[15] ، ووضائع الملك ^[16] ، لا تلطط في الزكاة ^[17] ، ولا تلحد في الحياة ^[18] ، ولا تتثاقل في الصلاة ^[19] فقال رجل من بني سعد ؛ هـو عطية السعدي : فكلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغتنا ) . ^[20] .. فقـوله: «فكلمنا رسـول الله صلى الله عليه وسلم بلغتنا» يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يقتصر في حديثه على ألفاظ قبيلة بعينها، ولكنه يخاطب كل شخص بحسب ما يعرفه وما يتداوله من ألفاظ قد يغرب [ ص: 139 ] معنـاها على غيره من المخاطبين، ولكنها مناسبة لسياق الحال ومقتضيات المقام.

وهذا مثال على أن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بلسان قومه من القبائل المختلفة، وأنه من البلاغة التي هـي إفهام للكلام، وإبلاغ للمراد، ومطابقة المقال لمقتضى الحال.

فأنت ترى فيما مر من الأحاديث التي خوطبت بها الوفود كلاما فصلا، واعتمادا على جمل مقتضبة، يغني قليلها عن كثيرها. وظهر لك أن غريب الحديث ؛ وإن عرفوه بأنه ما غمض من ألفاظ الحديث واستبهم، واعتاص واستعجم؛ فإنه يشهد بفصاحة الرسول صلى الله عليه وسلم ومعرفته بلغـات العرب، وأنه مما أدبه به ربه فأحسـن تأديبه ^[21] . لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عربيا، وكذلك جمهور أصحابه وتابعيهم، «فوقع في كلامهم من اللغة ما كان مشهورا بينهم، ثم وقعت مخالطة الأعاجم، ففشا اللحن، وجهل جمهور الناس معظم اللغة، فافتقر ذلك الكلام إلى التفسير» ^[22] .

فما كان شائعا من اللغة ومشهورا بين الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أصبح غامضا معتاصا يحتاج إلى تفسير، واصطلح عليه بـ: غريب الحديث ، [ ص: 140 ]

وألف فيه من الأوائل: النضر بن شميل وأبو عبيدة معمر بن المثنى والأصمعي متفرقات؛ ثم جاء أبو عبيد القاسم بن سلام فألف ذلك المتفرق وزاد فيه؛ وجمع الغريب إبراهيم بن إسحاق الحربي ؛ وجاء ابن قتيبة فجمع ما فات أبا عبيدة؛ ثم جاء أبو سليمان الخطابي فألف ما فات سابقيه؛ ثم جمع أبو عبيد الهروي صاحب الغريبين كتابا جمع فيه ما في كتب سابقيه وما في تهذيب الأزهري ؛ ثم جاء أبو الفرج بن الجوزي فبذل الوسع في جمع غريب الحديث، ورتبه على حروف المعجم، وأتى بالمقصود من شرح الكلمة من غير إيغال في التصريف والاشتقاق، وكان قصده الاختصار للقارئ، والتلطف له ^[23] .

فالغريب : علم لغوي وضرب من التأليف المعجمي، حرص فيه أصحابه على جمع كلم الرسول صلى الله عليه وسلم التي كانت شائعة في عهده في قبيلة أو قبائل عربية مختلفة مما تحدث الرسول صلى الله عليه وسلم بلسانها، فدخل في معجم العربية جمع هـائل من مفردات القبائل الفصيحة، وضم إلى الفصيح المستعمل المتداول.

لننظر إلى شـرح أهل الغريب للفظة «الأب»؛ قال أبو السعادات ابن الأثـير : «في حـديث أنس " أن عمر بن الخطـاب قرأ قوله تعالى: nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=31 ( وفاكهة وأبا ) (عبس:31) ، وقـال: وما الأب؟ ثم قـال: ما كلفنا -أو ما أمرنا- بهذا. " الأب: المرعى المتهيء للرعي والقطع. وقيل: الأب من المرعى للـدواب كالفـاكهة للإنسـان، ومنه حديث قس ابن ساعدة : " فجعل يرتع أبا وأصيد ضبا. " ^[24] . [ ص: 141 ] ومن ذلك قولـه في شرح لفظـة «أبد»: ( قال رافع بن خديج : أصبنا نهب إبل، فند منها بعـير، فرماه رجل بسهم، فحبسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن لهذه الإبل أوابد، فإذا غلبكم منها شيء فافعلوا به هـكذا. ) الأوابد جمع آبدة، وهي التي قد تأبدت أي توحشت ونفرت من الإنـس، وقد أبدت تأبد وتأبد، ومنه " حديث أم زرع : فأراح علي من كل سائمة زوجـين، ومن كل آبـدة اثنتـين. " تريـد: أنواعا من ضروب الوحش.

ومنه قولهم: جاء بآبدة أي بأمر عظيم ينفر منه ويستوحش. وفي حديث الحد: ( قال له سراقة بن مالك : أرأيت متعتنا هـذه ألعامنا أم للأبد؟ فقال: بل هـي للأبد. ) ^[25] .

ومما يمكن الاستدلال به أيضا على القيمة السياقية لنصوص الحديث النبوي الشريف مجموعة من القضايا السياقية، يمكن الاستعانة بها لتجديد النظر في السيرة النبوية واستنطاق نصوصها: [ ص: 142 ]

أ- منها ما تنبض به الأحاديث النبوية من حياة وحركة وصور اجتماعية غنية، وقيم علمية وثقافية للمجتمع المكي والمدني على عهد النبوة، شاهدة برسالة الإسلام في بكورها وبداية تأسيس الأمة الإسلامية، يتصل فيها الماضي بالحاضر والمستقبل.

وقد رأينا في الحديث عن «ملامح الحياة الاجتماعية» في الحديث النبوي، أن « السياق الاجتماعي » بعد جديد يجاوز المبادئ والقيم اللغوية الخالصة، ويستشرف اللغة من خلال زاوية واسعة، هـي السياق الاجتماعي الذي تستعمل فيه اللغة وتتفاعل فيه مع محيطها. وقد وجدت آثار هـذا الحس المنهجي في علم من علوم الحديث هـو: «معرفة أسباب ورود الحديث»، حيث ألف فيه العلماء كتبا قيمة تشهد بأهمية هـذا الضرب من التأليف في استشراف الأبعاد الاجتماعية في الحديث النبوي الشريف ^[26] ، وهي مصادر في حاجة إلى استثمار لاستخراج القيم [ ص: 143 ] الاجتماعية والأسباب الموضوعية ^[27] المباشرة وغير المباشرة، التي رافقت ورود الحديث النبوي.

ب- ومنها ما تنبض به الأحـاديث أيضا من «حركات» صادرة عن الناطق به صلى الله عليه وسلم في أثناء النطق به باعتبار هـذه الحركات ركنا من أركان السياق المقامي المرافق للحديث، أو ركنا من أركان ورود الحديث، وهذا الركن له حضـور ممـيز في ما يعرف بـ: «علم اللغة الحركي» ^[28] ، وهو علم يبحث في دلالة المواقف الاجتماعية والحركة الجسمية على المعنى ^[29] . [ ص: 144 ] ويعد هـذا السلوك الحركي الإيمائي أغنى أدوات التواصل بعد اللسان ^[30] . ووظيفته الأساس هـي بيان مقام التلفظ؛ أي: بيان الإطار الزماني والمكاني الذي يدور فيه الكلام وبيان طبيعة العلاقة بين المتكلمين، وذلك كله على الرغم من أن الخطاب اللغوي -ونعد نصوص الحديث التي فيها حركات إيمائية أنموذجا هـهنا- يشتمل على جهازه الإشاري الخاص به كأدوات الإشارة مثلا.

ويدخل في هـذا النوع أحاديث نبوية تضمنت إشارات شخصية من يد الرسول صلى الله عليه وسلم أو رأسه أو عينه، أو أي حركة تساعد على بيان المعنى وإيضاح الدلالة، ونقلها الصحابة ثم رواة الحديث فيما بعد كما سمعوها وشاهدوا الحركات والإشارات المرافقة لها ^[31] حرصا منهم على تبليغ الأمانة، وعبروا عنها بأفعال مثل: [ ص: 145 ] «طبق كفيه» ^[32] ، و «كسر الإبهام» ^[33] ، و «عقد الإبهام» ^[34] و «خنس الإبهام» ^[35] و «قرن بين أصبعيه» ^[36] و «أشار بالسبابة» ^[37] و «أشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما» ^[38] ، و «صفق بيديه مرتين بكل أصابعهما»، و «نقص في الصفقة الثالثة إبهام اليمنى أو اليسرى» ^[39] ، و «حلق بإصبعه الإبهام والتي تليها» ^[40] ...

أو حكاية لأحوال مثل : [ ص: 146 ] «دخل فزعا» ^[41] ، أو «غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمرت وجنتاه أو احمر وجهه» ^[42] وغيرها...

وقد أورد ابن حجر في فتح الباري أحاديث «جعل فيها النبي صلى الله عليه وسلم الإشارة قائمة مقام النطق». ^[43]

وهذه الأحـاديث التي قامـت فيها الإشارات أو أحـوال الجسم أو الوجه مقام النطق ضرب من تحكيم سياق المحيط، في فهم صورة الحديث في كلياتها وتفاصيلها، وما ذلك إلا أن اللغة نظام عام، تصاحبه نظم أخرى من سياق المقام من أجل إتمام الدلالة وتوصيل المراد.

جـ- ومنها استعمال الحديث النبوي لكثير من الصيغ والأبنية اللغوية استعمالا جديدا وبمعنى غير مألوف يعكس المعنى بدقة وإحاطة [ ص: 147 ] واستقصاء، وهي صيغ وأبنية ومشتقات استعملها الحديث في إطار سياقي عام، خلافا لما درجت عليه كتب غريب الحديث من قطع هـذه الصيغ عن سياقها، وتحليلها منفردة معزولة، وعدم وصلها بسياقها، مما يذهب بكثير من الدلالات والظلال المعنوية التي تظل هـذه المفردات والصيغ، ومن الأمثلة على هـذه المفردات والصيغ:

- كلمة «المحاقل» جمع محقل؛ وهو المزرعة، والمحاقلة المزارعة، وهو اشتقاق من اسم جامد على غير قياس عند الصرفيين، ولكنه ورد في الحديث، وأدى معنى الحقل والمزرعة بدقة: ( روى البخاري في باب: ما كان أصحـاب النبي صلى الله عليه وسلم يواسـي بعضهم بعضا في الزراعة والثمرة...: عن ظهير بن رافع قال: نهانا رسـول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان بنا رافقا، قلت: ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حق؟ قال: دعاني رسـول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما تصنعون بمحاقلكم؟ قلت: نؤاجرها على الربع وعلى الأوسـق من التمر والشعـير. قـال: لا تفعلوا، ازرعـوها أو أزرعوها أو أمسكوها، قال رافع قلت: سمعا وطاعة. ) ^[44] . [ ص: 148 ] - وكلمة «المشربة» وكلمة «الأطعمات»: ( روى مسلم في باب: تحريم حلب الماشية بغير إذن مالكها، عن يحيى بن يحيى التميمي ، عن مالك بن أنس ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه، أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فتكسر خزانته فينتقل طعامه؟ إنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعماتهم، فلا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه. ) ^[45] .

و «الأطعمات» جمع أطعمة، وأطعمة جمع طعام، فاللفظة الواردة في الحديث جمع الجمع، وقد ورد في الحديث للتكثير والمبالغة، وهو سماعي لا يقاس عليه ^[46] ، ومثله رجالات وجمالات وبيوتات وأقاويل...

وأما «المشربة» بفتح الراء فهي الموضع الذي يشرب منه كالمشرعة ^[47] ، وهو على وزن مفعلة، فهو مصدر ميمي مشتق من المصدر «شرب» للدلالة على مكان وقوع الفعل.

- وفعل «أكثب» بمعنى قرب، ورد في صحيح البخاري، في باب: فضل من شهد بدرا، ( عن أبي أسيد قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم [ ص: 149 ] بدر : إذا أكثبوكم فارموهم واستبقوا نبلكم. ) ^[48] وفي رواية له: ( إذا أكثبوكم فعليكم بالنبل. ) ^[49] ،

«إذا أكثبوكم»، المعنى إذا دنوا منكم، وقد استشكل بأن الذي يليق بالدنو هـو المطاعنة بالرمح والمضاربة بالسيف لا الرمي بالنبل، وأما الذي يليق برمي النبل فالبعد. ومن الشراح من شرح «أكثبوكم» بمعنى «كاثروكم» من المكاثرة؛ لأن النبل إذا رمي في الجمع لم يخطئ غالبا، ففيه ردع لهم.

وقد تعقب هـذا التفسير بأنه لا يعرف، وتفسير الكثب بالكثرة غريب، أما تفسيره بالدنو فهو المعتمـد. واستبـقوا نبلكم، وفي رواية: ( ولا تسلوا السـيوف حتى يغشـوكم. ) . فظهر أن معنى الحديث الأمر بترك الرمي والقتـال حتى يقربوا؛ لأنهم إذا رمـوهم عـلى بعد قد لا يصيبونهم وتذهب منفعـة الرمي، وإلى ذلك الإشارة بقولـه: ( واستبقوا نبلكم ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم. ) والمراد بالقرب المطلوب في الرمي قرب نسبي بحيث تنالهم السهام لا قرب قريب بحيث يلتحمون معهم ^[50] . [ ص: 150 ] فالفعل «أكثب» اختلف في معنـاه شراح الحـديث؛ لأن اشتقاقه -واستعماله على هـذا النحو من المعنى في سياق القتال واستبقاء النبال حتى لا تضيع- أمر نادر، وقد رجح ابن حجر معنى الدنو؛ مستفيدا في ذلك من سياق الحال وما يحيط به من معان، ولم ينظر إلى اللفظ في ذاته مقطوعا عن سياقه.

فهذه الكلمـات المستقاة من معجم الأحـاديث النبـوية تحتاج إلى دراسة سياقية تضع الألفاظ في مواقعها من مقال الحديث ومقامه، حتى يكتمل شرح المعنى ويستوفى، وإلى تجرد باحثين في علوم اللغة والدلالة لدراسة ألفاظ نبوية عديدة بمعان جديدة واستعمالات فريدة؛ لاستخراج مصـادر الثروة اللغوية في الحديث النبوي الشريف على نحو لم يدرسها به من ألف في غريب الحديث؛ لأن هـؤلاء درسوا تلك الألفاظ مفردة بعيدة عن السياق، بمنهج مغلق اقتصر على دراسة ما في الحديث من غريب، يذهب في كثير من الأحيان بروعة استخدام هـذه الألفاظ وعمق دلالتها ^[51] . [ ص: 151 ]

ثانيا: منهج السياق المقامي

في دراسة الحديث

- لُغَةُ الْحَديثِ، ومَلامِحُ الْحَياةِ الاجْتِماعِيَّةِ، وبَلاغَةُ الْغَريبِ

لا تَقْتَصِرُ قيمَةُ الدِّراسَةِ اللُّغَوِيَّةِ والْبَلاغِيَّةِ عَلى الإِسْهامِ في بَيانِ صِحَّةِ الْحَديثِ وسَلامَتِهِ وتَمْييزِهِ مِنَ الضَّعيفِ والْمَوْضوعِ، كَما رأيْنا في الحَديثِ عنِ المِعْيارِ اللُّغويِّ باعْتِبارِه مِقْياسًا لتمييزِ الحديثِ الصّحيحِ من الموضوعِ، ولكِنَّها تَتَعَدّى ذلِكَ إِلى أَمْرَيْنِ آخَرَيْنِ لا يَقِلّانِ أَهَمِّيَّةً عَنِ الأَمْرِ الأَوَّلِ:

أَوَّلُهُمـا: بَيانُ بَلاغَةِ الْحَديثِ وجَمـالِهِ الْبَيانِيِّ وحُسْنِ نَظْمِهِ وتَرْكيبِهِ وصَوْغِهِ.

والثّاني: اسْتِخْراجُ الْقِيَمِ الْمَقامِيَّةِ مِنْ مَقالِ الْحَديثِ، وبَيانُ مَلامِحِ الْحَياةِ الاجْتِماعِيَّةِ التي يَتَضَمَّنُها نَصُّ الْحَـديثِ، وما فيهِ مِنْ مَواقِفَ، وما يُسْتَنْبَطُ مِنْ هـذِهِ الْمَواقِفِ مِنْ دلالاتٍ وقِيَمٍ، فَترْسم صورَةً حَيَّةً ناطِقَةً صادِقَةً عَنِ الْحَياةِ في عَهْدِ النُّبُوَّةِ.

وهُناكَ أَحاديثُ كَثيرَةٌ لا تَكادُ تُحْصى جَمَعَتْ بَيْنَ الإيجازِ والْجَمْعِ في الْكَلِمِ بَلاغَةً، وبَيْنَ الدّلالَةِ عَلى مَواقِفَ مِنَ الْحَياةِ الاجْتِماعِيَّةِ النّابِضَةِ الْمُتَحَرِّكَةِ دلالَةً، وبَيْنَ تَنَوُّعِ أَنْماطِ الْجُمَلِ لُغَةً وتَرْكيبًا. وكُلُّ هـذِهِ الْمَزايا [ ص: 131 ] الْبَيانِيَّةِ والْبَـلاغِيَّةِ، والدّلالِيَّـةِ الْمَقـامِيَّةِ، واللُّغَوِيَّةِ التَّرْكيبِيَّةِ التي يَزْخَرُ بِها الْحَديثُ قِيَمٌ عالِيَةٌ تَحْمِلُها اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ ويَنْفَعِلُ بِها الْمُتَكَلِّمُ، وتَدُلُّ عَلى أَنَّ الْحَديثَ النَّبَوِيَّ نُصوصٌ شَرْعِيَّةٌ يَحْتَكِمُ إِلَيْها الْمُسْلِمونَ لِلْقِيامِ بِما يَحْتاجُهُ التَّشْريعُ، وكَلامٌ بَليغٌ فَصيحٌ، هـُوَ «سُنَّةٌ شَريفَةٌ تَقْتَضي مِنَ الْمُسْلِمينَ اتِّباعَها، تَأَسِّيًا بِالنَّبِيِّ الْكَريمِ صلى الله عليه وسلم ^[1] » الذي لازَمَت كَلامَهُ الْفَصاحَةُ في جَميعِ مَواقِفِهِ.

فَلَوْ دَخَلَتْ لُغَةُ الْحَديثِ ونَظْمُهُ وبَلاغَتُهُ لُغَتَنا، وقَفَزَتْ عَلى أَلْسِنَتِنا وتَوَضَّعَتْ في أَنْماطِ تَعْبيرِنا، مِثْلما دَخَلَتِ السُّنَّةُ حَـياتَنا الْعَمَلِيَّةَ وأَثَّرَتْ فيها، لَارْتَفَعَ شَأْنُ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْيَوْمَ، ولَارْتَفَعَتْ دَرَجَةُ فَصاحَتِهِ، ولَكانَ لِلسُّنَّةِ حُضورٌ وشَيْعوعَةٌ في اسْتِعْمالِنا اللُّغَوِيِّ بِكافَّةِ وُجوهِهِ ومَيادينِهِ، وخاصَّةً الْمَيْدانَ الْعِلْمِيَّ والأَدَبِيَّ، وما يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ تَأْليفٍ وإِبْداعٍ ونَقْدٍ وبَحْثٍ عِلْمِيٍّ.

فَالْعَرَبِيَّةُ الْفُصْحى سُنَّةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وسُنَّةُ الْخُلَفاءِ الرّاشِدينَ الْمَهْدِيّينَ، كَباقـي السُّنَنِ الْفِعْلِيَّةِ الْمَأْثورَةِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم والصَّحـابَةِ، بَلْ هـِيَ مِنْ آكَدِ السُّنَنِ.

وهكَذا فَإِنَّ فَصاحَةَ الْحَديثِ النَّبَوِيِّ سُنَّةٌ عَمَلِيَّةٌ لا تَقْتَصِرُ عَلى عَهْدِ النُّبُوَّةِ، ولكِنَّها تَمْتَدُّ إِلى مِساحاتٍ شاسِعَةٍ مِنْ تاريخِ الْعَرَبِيَّةِ في تَطَوُّرِها [ ص: 132 ] عَبْرَ الْعُصورِ إِلى يَوْمِنا هـذا، وتَجِدُ مَصْدَرَها في الْقُرْآنِ الْكَريمِ، الذي هـُوَ كِتابٌ مُعْجِزٌ في بَلاغَتِهِ ونَظْمِهِ وفَصاحَتِهِ، ولكِنَّهُ مِقْياسٌ عالٍ ونَموذَجٌ أَسْمى، والْتِحاقُ مَلَكَةِ الْمُتَكَلِّمِ اللُّغَوِيَّةِ بِفَصاحَةِ الْقُرْآنِ الْكَريمِ في صُوَرِها ومَلامِحِها الْمُتَنَوِّعَةِ هـِيَ الْبابُ الْمُفْضي إِلى إِدْراكِ الأَحْكامِ، وتَمَثُّلِ الْمَعاني والْمَبادِئِ التي نَزَلَتْ بِلِسانِ الْعَرَبِ، وبِهِ تُفْهَمُ.

فَيَنْبَغي لِلْمُتَكَلِّمِ مِنْ هـذا الْوَجْهِ أَنْ يَحْمِلَ نَفْسَهُ عَلى مُمارَسَةِ تِلاوَةِ الْقُرْآنِ بِاللِّسانِ الْعَرَبِيِّ الذي بِهِ أُنْزِلَ، وبِالْفَصاحَةِ الْعالِيَةِ التي نَطَقَ بِها الأَوَّلونَ؛ فَقَدْ جاءَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وعَنْ أَصْحابِهِ وتابِعيهِمْ رضي الله عنهم مِنْ تَفْضيلِ إِعْرابِ الْقُرْآنِ، والْحَضِّ عَلى تَعْليمِهِ وذَمِّ اللَّحْنِ وكَراهِيتِهِ، ما وَجَبَ بِهِ عَلى قُرّاءِ الْقُرْآنِ أَنْ يَأْخُذوا أَنْفُسَهُمْ بِالاجْتِهادِ في تَعَلُّمِهِ، فَقَدْ ( رُوِيَ عَنْ أَبي هـُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: «أَعْرِبوا الْقُرْآنَ والْتَمِسوا غَرائِبَهُ. ) ^[2] . ( وعنِ ابْنِ مَسْعودٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قالَ: «أَعْرِبوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ عَرَبِيٌّ، فَإِنَّهُ سَيَجيءُ قَوْمٌ يثقفونَهُ ولَيْسوا بِخِيارِكُمْ. ) ^[3] . [ ص: 133 ] هذا، وقد كان الصّحابةُ رضي الله عنهم إذا وقَعَ لأحدِهم مسألةٌ في صيغةِ اللّفظِ -وإن كان لا يُخلُّ بالمعنى- أبْدى ذلك فقالَ: «إخالُه كَذا» أو «أظنُّ كذا»، وما ذاكَ إلاّ لسببين: أحدُهُما الصِّدقُ في حقيقةِ النّقلِ. والثّاني المُحافظةُ على بركَةِ ذلك اللّفظِ الخاصِّ؛ لئلّا تَفوتَهم بَرَكتُه. فكانت ألفـاظُه وحَرَكاتُه صلى الله عليه وسلم كلُّها عندهم بَرَكاتٍ، وكَيفَ لا وقَدْ حَضَّ عَزَّ وجَلَّ على ذلك في مُحكَمِ كِتابِه ونبَّه عليه: nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=31 ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهَ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (آل عمران:31) ، وعُمومُ الأمْرِ بالاتِّباعِ، يقتضي حَقيقةَ الاتِّباعِ في الدِّقِّ والجِلِّ من الفعْلِ والقَوْلِ ^[4] .

ويَنْبَغي للمتكلّمِ أيضًا أَنْ يَحْمِلَ نَفْسَهُ عَلى إِعْرابِ الْحَديثِ وعَدَمِ اللَّحْنِ فيهِ، فَقَدْ رَوى عَفّانُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ هـمامٍ قالَ : «أَعْرِبوا الْحَديثَ فَإِنَّ قَتادَةَ لَمْ يَكُنْ يَلْحَنُ، وقالَ: إِذا رَأَيْتُمْ في حَديثي لَحْنًا فَقَوِّموهُ.» ^[5] ، وعَنْ عيـسى بْنِ يونُسَ قالَ: «شَهِـدْتُ الأَعْمَشَ قالَ لَهُ رَجُـلٌ: إِنَّ ابْنَ سيرينَ يَسْمَعُ الْحَديثَ فيهِ اللَّحْنُ، فَيُحَدِّثُ بِهِ عَلى لَحْنِهِ، فَقالَ الأَعْمَشُ : إِنْ كانَ ابْنُ سيرينَ يَلْحَنُ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَلْحَنْ، فَقَوّموهُ.» [ ص: 134 ] وعَنِ الأَوْزاعِيِّ أَنَّهُ قالَ: «أَعْرِبوا الْحَديثَ فَإِنَّ الْقَوْمَ كانوا عربًا -أَوْ قالَ: كانوا يُعْرِبونَ- وإِنَّما اللَّحْنُ مِنْ حَمَلَةِ الْحَديثِ، فَأَعْرِبوا الْحَديثَ.» وقالَ حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ : «مَنْ لَحَنَ في حَديثي فَلَيْسَ يُحَدِّثُ عَنّي.» ^[6] .

ورُوِيَ " عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ كَتَبَ: أَنْ تَعَلَّموا الْفَرائِضَ والسُّـنَّةَ واللَّحْـنَ كَما تَعَلَّمونَ الْقُرْآنَ. " ^[7] ، واللَّحْنُ : انْتِحاءُ سَمْتِ الْعَرَبِ في كَلامِها.

" ورُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعودٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قالَ: جَرِّدوا الْقُرْآنَ وزَيِّنوهُ بِأَحْسَنِ الأَصْواتِ، وأَعْرِبوهُ فَإِنَّهُ عَرَبِيٌّ، واللهُ يُحِبُّ أَنْ يُعْرَبَ. " ^[8] . وقيلَ لِلْحَسَنِ في قَـوْمٍ يَتَعَلَّمـونَ الْعَرَبِيَّةَ، فَقالَ: أَحْسَنوا، يَتَعَلَّمونَ لُغَةَ نَبِيِّهِمْ صلى الله عليه وسلم . ^[9] . [ ص: 135 ] والْحَديثُ النَّبَوِيُّ الشَّريفُ وَجْهٌ عَمَلِيٌّ لِلْقُرْآنِ الْكَريمِ، وتَطْبيقٌ مُتَفَوِّقٌ لِبَلاغَتِهِ وفَصاحَتِهِ ونَسَقِهِ وبَيانِهِ ^[10] ، ولَهُ قُدْرَةٌ عالِيَةٌ عَلى الْوَضْعِ والابْتِكارِ، والتَّشْقيقِ مِنَ الأَلْفاظِ، فهُوَ يَغْتَرِفُ مِنْ مَعينِ كِتابِ اللهِ، ويَسْتَجيبُ لِلْحاجاتِ الْيَوْمِيَّةِ ومَطالِبِ الْحَياةِ ومَثاراتِ الْمَقامِ.

ولذلكَ يتَعيّنُ على مَناهجِ البحثِ اللّغويّ ألاّ تَقْتَصِرَ في تَفسيرِ الظّواهِرِ الاجتماعيّةِ والمُتَغَيِّراتِ اللّغويّةِ -ومِن بينِها أسبابُ وُرودِ الحديثِ- عَلى مبادئَ لُغويّةٍ مَحْضَةٍ؛ وإنّما ينبغي لَها أن تسْتمِدَّ من اللّسانيّاتِ الاجتماعيّةِ أو عِلمِ اللّغةِ الاجتماعيّ بُعْدًا جديدًا، يُجاوزُ تلكَ المبادئَ والقِيَمَ اللُّغَويَّةَ الخالصَةَ، ويستشْرِفُ اللّغةَ من خلالِ زاويةٍ واسعةٍ هـي السّياقُ الاجتماعيُّ، الذي تُسْتَعْمَلُ فيه اللّغةُ وتتفاعلُ فيه مع مُحيطِها، وما يُرافِقُ هـذا السّياقَ من عواملَ خارجيّةٍ تؤثِّرُ في استعمالِ اللّغةِ؛ كالمَعنى والهَيْئةِ الاجتماعيّةِ وظُروفِ الخِطابِ وغَيرِ ذلك...

والحَديثُ النّبويُّ في عُمومِه لَه دَلالَةٌ مِنْ ظُروفِ الْخِطابِ، ومَرْجِعٌ في مَقامِ الْقَوْلِ، وأُصولٌ في ثَقافَةِ الْمُتَكَلِّمِ وعَقيدَتِهِ وبعضِ أَعْرافِ قَوْمِهِ. ويستنِدُ إلى قاعدةٍ من الأمثلةِ ووسائلِ الإيضاحِ تخْتَلفُ عَنْ كَثيرٍ مِنْ [ ص: 136 ] أَنْواعِ التَّمْثيلِ؛ لأَنَّها لا يُرادُ مِنْها مُجَرَّدُ التَّمْثيلِ الصّوريِّ. ووَجْهُ الاخْتِلافِ ومَرْجِعُهُ أَنَّ كُلَّ ضَرْبٍ مِنَ الأَمْثِلَةِ مُناسِبٌ لِلْمُقَدِّماتِ والمَقاصدِ التي يَصْدُرُ عَنْها وتُعَدُّ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ. وكلُّ هـذهِ القيمِ اللّغويّةِ خاضِعٌ لاعْتِبارِ سُلوكِ الْكَلِماتِ داخِلَ الْكَلِمِ الذي يَعْكِسُ سُلوكَ الْمُتَكَلِّمينَ داخِلَ الْمُجْتَمَعِ.

ويُعَدُّ الصُّدورُ عَنْ جِهَةِ الْمَقامِ في تَفْسيرِ الْكَلامِ قاعِدَةً تُلائِمُ بَيْنَ قَواعِدِ الكلامِ الثّابِتَةِ في نَفْسِ الْمُتَكَلِّمِ ومُتَغَيِّراتِ الْبيئَةِ الْكَلامِيَّةِ التي تُحيطُ بِهِ. وهذِهِ الْجِهَةُ أَهْلٌ لِتَحْصيلِ الْمُلاءَمَةِ والتَّناسُبِ بَيْنَ الثّابِتِ والْمُتَغَيِّرِ لِما فيها مِنْ مُرونَةٍ وقُدْرَةٍ عَلى تَفْسيرِ الْفُروقِ الدَّلالِيَّةِ الْمُناسِبَةِ لِلأَحْوالِ الْمَقامِيَّةِ الْمُخْتَلِفَةِ.

وهكَـذا فَإِنَّ قاعِدَةَ الْمَقامِ الاجتماعيِّ وَسيـطٌ بَيْنَ نَسَقٍ لُغَـوِيٍّ مِنَ الْقَواعِدِ، ونَسَـقٍ مَقامِيٍّ هـُوَ الْخـارِجُ، وما يَتْبَعُهُ مِنْ مَقاماتِ وأَحْوالٍ مُخْتَلِفَةٍ.

وقد ترِدُ في الحديثِ النّبويِّ عباراتٌ كَثيرَةٌ لا تَضْبِطُها الْقَواعِدُ الصّورِيَّةُ ولا تَخْضَعُ لِمَقاييسِ الْكَلامِ الْمَأْلوفِ، إِلاّ أَنَّها آيِلَةٌ إِلى تِلْكَ الْمَقاييسِ بِتَقْديرٍ وتَأْويلٍ. فَهِيَ عباراتٌ مِنَ الْكَلامِ لَها مَقاييسُ في نُفوسِ الْمُتَخاطِبينَ، ولَها نَظيرٌ في أَعْرافِهِمْ ومُثاقَفاتِهِمْ. فَقَدْ يَبْدو لِلْوَهْلَةِ الأولى أَنَّ تِلْكَ الْعِباراتِ غيرُ قياسيةٍ، ولكِنَّ رَدَّها إِلى الأُصولِ غَيْرِ اللُّغَوِيَّةِ يُفَسِّرُ [ ص: 137 ] خُروجَـها عَلى النِّظامِ، أَوْ يُفَسِّرُ عَلى الأَقَلِّ خُضـوعَها لِنِظامٍ مُفارِقٍ، بل يُمكنُ الذّهابُ إلى أنّ مثلَ هـذه العباراتِ ممّا يُثري اللُّغَةَ ويُغْني قواعِـدَها ومبادئَها ولا يُكْتَفى فيـها بالوارِدِ من الشَّواهدِ، ولا يُكْتَفى بما قرّرَه اللّغويّونَ.

فَمِنْ مَظاهِرِ صِلَةِ الْبَيانِ النَّبَوِيِّ بِالْحَياةِ الاجْتِماعِيَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يُخاطِبَ الْقَبائِلَ بِأَلْفاظِها، واسْتَعْمَلَ مَعَهُمْ ما يَسْتَعْمِلونَ في كَلامِهِمْ؛ وذلِكَ لِيُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ، ولِيُحَدِّثَهُمْ بِما يَعْلَمونَ؛ فَلَيْسَ كَلامُهُ مَعَ أَهْلِ قُرَيْشٍ والأَنْصارِ وأَهْلِ الْحِجازِ ونَجْدٍ كَكَلامِهِ مَعَ ذي الْمِشْعارِ الْهَمدانِيِّ الذي وَفَدَ مِنْ تَبوك، وطِهْفَةَ النَّهْدِيِّ خَطيبِ نَهْدٍ ووافِدِها إِلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، والأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ الذي وَفَدَ في سِتّينَ راكِبًا مِنَ الْيَمَنِ، ووائِلِ ابْنِ حُجْرٍ الْكِنْدِيِّ ، وغَيْرِهِمْ ^[11] .

ومِنْ قَوْلِهِ لِنَهْدٍ حينَ شَكا وافِدُها لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ما أَصابَ قَوْمَهُ مِنَ الْقَحْطِ: [ ص: 138 ] ( اللَّهُمَّ بارِكْ لَهُمْ في مَحْضِها ومَخْضِها ومَذْقِها ^[12] ، وابْعَثْ راعِيَها في الدَّثْرِ ^[13] وافْجُرْ لَهُ الثَّمَدَ ^[14] ، وبارِكْ لَهُ في الْمالِ والْوَلَدِ، مَنْ أَقامَ الصَّلاةَ كانَ مُسْلِمًا، ومَنْ آتى الزَّكاةَ كانَ مُحْسِنًا، ومَنْ شَهِدَ أَنْ لا إِلهَ إِلاّ اللهُ كانَ مُخْلِصًا، لَكُمْ يا بَني نَهْدٍ وَدائِعُ الشِّرْكِ ^[15] ، ووَضائِعُ الْمِلْكِ ^[16] ، لا تُلْطِطْ في الزَّكاةِ ^[17] ، ولا تُلْحِدْ في الْحَياةِ ^[18] ، ولا تَتَثاقَلْ في الصَّلاةِ ^[19] فَقالَ رَجُلٌ مِنْ بَني سَعْدٍ ؛ هـُوَ عَطِيَّةُ السَّعْدِيّ : فَكَلَّمَنا رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِلُغَتِنا ) . ^[20] .. فَقَـوْلُهُ: «فَكَلَّمَنا رَسـولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِلُغَتِنا» يَدُلُّ عَلى أَنَّ الرَّسولَ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَقْتَصِرُ في حَديثِهِ عَلى أَلْفاظِ قَبيلَةٍ بِعَيْنِها، ولكِنَّهُ يُخاطِبُ كُلَّ شَخْصٍ بِحَسَبِ ما يَعْرِفُهُ وما يَتَداوَلُهُ مِنْ أَلْفاظٍ قَدْ يَغْربُ [ ص: 139 ] مَعْنـاها عَلى غَيْرِهِ مِنَ الْمُخاطَبينَ، ولكنَّها مُناسِبَةٌ لِسياقِ الحالِ ومُقْتَضَياتِ المَقامِ.

وهذا مِثالٌ عَلى أَنَّ حَديثَ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كانَ بِلِسانِ قَوْمِهِ مِنَ الْقَبائِلِ الْمُخْتَلِفَةِ، وأَنَّهُ مِنَ الْبَلاغَةِ التي هـِيَ إِفْهامٌ لِلْكَلامِ، وإِبْلاغٌ لِلْمُرادِ، ومُطابَقَةُ الْمَقالِ لِمُقْتَضى الْحالِ.

فَأَنْتَ تَرى فيما مَرَّ مِنَ الأَحاديثِ التي خوطِبَتْ بِها الْوُفودُ كَلامًا فَصْلًا، واعْتِمادًا عَلى جُمَلٍ مُقْتَضَبَةٍ، يُغْني قَليلُها عَنْ كَثيرِها. وظَهَرَ لَكَ أَنَّ غَريبَ الْحَديثِ ؛ وإِنْ عَرَّفوهُ بِأَنَّهُ ما غَمضَ مِنْ أَلْفاظِ الْحَديثِ واسْتبْهمَ، واعْتاصَ واسْتعْجمَ؛ فَإِنَّهُ يَشْهَدُ بِفَصاحَةِ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم ومَعْرِفَتِهِ بِلُغـاتِ الْعَرَبِ، وأَنَّهُ مِمّا أَدَّبَهُ بِهِ رَبُّهُ فَأَحْسَـنَ تَأْديبَهُ ^[21] . لَقَدْ كانَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَرَبِيًّا، وكَذلِكَ جُمْهورُ أَصْحابِهِ وتابِعيهِمْ، «فَوَقَعَ في كَلامِهِمْ مِنَ اللُّغَةِ ما كانَ مَشْهورًا بَيْنَهُمْ، ثُمَّ وَقَعَتْ مُخالَطَةُ الأَعاجِمِ، فَفَشا اللَّحْنُ، وجَهلَ جُمْهورُ النّاسِ مُعْظَمَ اللُّغَةِ، فَافْتَقَرَ ذلِكَ الْكَلامُ إِلى التَّفْسيرِ» ^[22] .

فَما كانَ شائِعًا مِنَ اللُّغَةِ ومَشْهورًا بَيْنَ النّاسِ في عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أصْبَحَ غامِضًا مُعْتاصًا يَحْتاجُ إِلى تَفْسيرٍ، واصْطُلِحَ عَلَيْهِ بِـ: غَريبِ الْحَديثِ ، [ ص: 140 ]

وألّفَ فيهِ مِنَ الأَوائِلِ: النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ وأَبو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنّى والأَصْمَعِيُّ مُتَفَرِّقاتٍ؛ ثُمَّ جاءَ أَبو عُبَيْدٍ الْقاسِمُ بْنُ سَلّامٍ فَأَلَّفَ ذلِكَ الْمُتَفَرِّقَ وزادَ فيهِ؛ وجَمَعَ الْغَريبَ إِبْراهيمُ بْنُ إِسْحاقَ الْحَرْبِيُّ ؛ وجاءَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فَجَمَعَ ما فاتَ أَبا عُبَيْدَةَ؛ ثُمَّ جاءَ أَبو سُلَيْمانَ الْخَطّابي فَأَلَّفَ ما فاتَ سابِقَيْهِ؛ ثُمَّ جَمَعَ أَبو عُبَيْدٍ الْهَرَوِيُّ صاحِبُ الْغَريبَيْنِ كِتابًا جَمَعَ فيهِ ما في كُتُبِ سابِقيهِ وما في تَهْذيبِ الأَزْهَرِيِّ ؛ ثُمَّ جاءَ أَبو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فَبَذَلَ الْوُسْعَ في جَمْعِ غَريبِ الْحَديثِ، ورتَّبَهُ عَلى حُروفِ الْمُعْجَمِ، وأَتى بِالْمَقْصودِ مِنْ شَرْحِ الْكَلِمَةِ مِنْ غَيْرِ إيغالٍ في التَّصْريفِ والاشْتِقاقِ، وكانَ قَصْدُهُ الاخْتِصارَ لِلْقارِئِ، والتَّلَطُّفَ لَهُ ^[23] .

فَالْغَريبُ : عِلْمٌ لُغَوِيٌّ وضَرْبٌ مِنَ التَّأْليفِ الْمُعْجَمِيِّ، حَرَصَ فيهِ أَصْحابُهُ عَلى جَمْعِ كَلِمِ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم التي كانَتْ شائِعَةً في عَهْدِهِ في قَبيلَةٍ أَوْ قَبائِلَ عَرَبِيَّةٍ مُخْتَلِفَةٍ مِمّا تَحَدَّثَ الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم بِلِسانِها، فَدَخَلَ في مُعْجَمِ الْعَرَبِيَّةِ جَمْعٌ هـائِلٌ مِنْ مُفْرَداتِ الْقَبائِلِ الْفَصيحَةِ، وضُمَّ إِلى الْفَصيحِ الْمُسْتَعْمَلِ الْمُتَداوَلِ.

لِنَنْظُرْ إِلى شَـرْحِ أَهْلِ الْغَريبِ لِلَفْظَةِ «الأَبِّ»؛ قالَ أَبو السَّعاداتِ ابْنُ الأَثـيرِ : «في حَـديثِ أَنَسٍ " أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّـابِ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعالى: nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=31 ( وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ) (عَبَسَ:31) ، وقـالَ: وما الأَبُّ؟ ثُمَّ قـالَ: ما كُلِّفْنا -أَوْ ما أُمْرْنا- بِهذا. " الأَبُّ: الْمَرْعى الْمُتَهَيِّءُ لِلرَّعْيِ والْقَطْعِ. وقيلَ: الأَبُّ مِنَ الْمَرْعى لِلـدَّوابِّ كَالْفـاكِهَةِ لِلإِنْسـانِ، ومِنْهُ حَديثٌ قسِّ ابْنِ ساعِدَةَ : " فَجَعَلَ يَرْتَعُ أَبًّا وأَصيدُ ضَبًّا. " ^[24] . [ ص: 141 ] ومِنْ ذلِكَ قَوْلُـهُ في شَرْحِ لَفْظَـةِ «أبد»: ( قالَ رافِعُ بْنُ خديجٍ : أَصبْنا نَهْبَ إِبِلٍ، فَنَدَّ مِنْها بَعـيرٌ، فَرَماهُ رَجُلٌ بِسَهْمٍ، فَحَبَسَهُ، فَقالَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ لهذِهِ الإِبِلِ أَوابِدَ، فَإِذا غَلَبَكُمْ مِنْها شَيْءٌ فَافْعَلوا بِهِ هـَكذا. ) الأَوابِدُ جَمْعُ آبِدَةٍ، وهِيَ التي قَدْ تَأَبَّدَتْ أَيْ تَوَحَّشَتْ ونَفَرَتْ مِنَ الإِنْـسِ، وقَدْ أَبَدَتْ تَأْبِدُ وتَأَبَّدُ، ومِنْهُ " حَديثُ أُمِّ زَرْعٍ : فَأَراحَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ سائِمَةٍ زَوْجَـيْنِ، ومِنْ كُلِّ آبِـدَةٍ اثْنَتَـيْنِ. " تُريـدُ: أَنْواعًا مِنْ ضُروبِ الْوَحْشِ.

ومِنْهُ قَوْلُهُمْ: جاءَ بِآبِدَةٍ أَيْ بِأَمْرٍ عَظيمٍ يُنْفَرُ مِنْهُ ويُسْتَوْحَشُ. وفي حَديثِ الْحَدِّ: ( قالَ لَهُ سُراقَةُ بْنُ مالِكٍ : أَرَأَيْتَ مُتْعَتَنا هـذِهِ أَلِعامِنا أَمْ للأَبَدِ؟ فَقالَ: بَلْ هـِيَ للأَبَدِ. ) ^[25] .

وممّا يُمكنُ الاسْتِدْلالُ به أيضًا على القيمةِ السّياقيّةِ لنُصوصِ الحديثِ النّبويّ الشَّريفِ مَجْموعةٌ من القَضايا السِّياقِيّةِ، يُمْكنُ الاسْتِعانَةُ بِها لِتَجْديدِ النّظرِ في السّيرةِ النّبويّةِِ واسْتِنْطاقِ نُصوصِها: [ ص: 142 ]

أ- منها ما تَنْبضُ بِه الأحاديثُ النّبويّةُ من حياةٍ وحَرَكةٍ وصُورٍ اجْتِماعيّةٍ غنيّةٍ، وقِيَمٍ عِلْميّةٍ وثَقافيّةٍ للمُجتمَعِ المكّيّ والمَدَنِيِّ على عَهْدِ النّبُوّةِ، شاهدَةً بِرِسالَةِ الإسْلام في بُكورِها وبِدايةِ تأسيسِ الأمّةِ الإسْلاميَّةِ، يَتّصِلُ فيها الماضي بالحاضرِ والمُسْتَقْبَلِ.

وقدْ رأينا في الحديثِ عن «مَلامِحِ الحَياةِ الاجتماعيّةِ» في الحديثِ النّبويّ، أنّ « السِّياقَ الاجْتماعيّ » بُعْدٌ جَديدٌ يُجاوزُ المبادئَ والقِيَمَ اللُّغَويَّةَ الخالصَةَ، ويستشْرِفُ اللّغةَ من خِلالِ زاويةٍ واسعةٍ، هـي السّياقُ الاجتماعيُّ الذي تُسْتَعْمَلُ فيه اللّغةُ وتَتفاعلُ فيه مَع مُحيطِها. وقد وُجِدَتْ آثارُ هـذا الحسِّ المنهجيِّ في عِلمٍ من عُلومِ الحديثِ هـُوَ: «مَعْرِفَةُ أسبابِ وُرودِ الحَديثِ»، حيثُ ألّفَ فيه العُلَماءُ كُتُبا قيِّمَةً تشهَدُ بأهمّيةِ هـذا الضّربِ من التّأليفِ في اسْتشرافِ الأبعادِ الاجتماعيّةِ في الحديثِ النّبويّ الشّريفِ ^[26] ، وهِيَ مَصادرُ في حاجةٍ إلى اسْتِثمارٍ لاسْتخْراجِ القِيَمِ [ ص: 143 ] الاجْتِماعيّةِ والأسْبابِ المَوضوعيّةِ ^[27] المُباشرةِ وغَيرِ المُباشرةِ، التي رافقت وُرودَ الحديثِ النّبويّ.

ب- ومنْها ما تَنْبضُ بِه الأحـاديثُ أيْضا من «حَركاتٍ» صادرةٍ عنِ النّاطقِ بِه صلى الله عليه وسلم في أثْناءِ النُّطْقِ بِه باعْتِبارِ هـذه الحَرَكاتِ رُكْنا مِن أركانِ السِّياقِ المَقاميِّ المُرافِقِ للحديثِ، أو رُكْنًا من أركانِ وُرودِ الحديثِ، وهذا الرُّكْنُ له حُضـورٌ مُمَـيَّزٌ في ما يُعْرَفُ بِـ: «عِلْمِ اللُّغَةِ الحَرَكِيّ» ^[28] ، وهُو علمٌ يبحثُ في دلالةِ المَواقِفِ الاجتماعيّةِ والحَرَكةِ الجِسْمِيّةِ عَلى المَعْنى ^[29] . [ ص: 144 ] ويُعَدُّ هـذا السُّلوكُ الحَرَكِيُّ الإيمائيُّ أغْنى أدواتِ التَّواصُلِ بعدَ اللِّسانِ ^[30] . ووظيفتُه الأساسُ هـيَ بَيانُ مَقامِ التّلَفُّظِ؛ أي: بَيانَ الإطارِ الزّمانِيِّ والمَكانِيِّ الذي يدورُ فيه الكَلامُ وبَيانُ طَبيعةِ العَلاقةِ بينَ المُتَكَلِّمينَ، وذلِكَ كلُّه على الرّغمِ من أنّ الخِطابَ اللُّغويَّ -ونَعُدُّ نَصوصَ الحَديثِ التي فيها حَركاتٌ إيمائيّةٌ أنموذَجًا هـهُنا- يَشْتَمِلُ على جِهازِه الإشارِيِّ الخاصِّ بِه كَأدواتِ الإشارةِ مثلًا.

ويدخُلُ في هـذا النَّوْعِ أحاديثُ نبويّةٌ تَضَمَّنَت إشاراتٍ شخصيّةً من يدِ الرّسولِ صلى الله عليه وسلم أو رأسِه أو عينِه، أو أيّ حَركةٍ تُساعدُ على بَيانِ المَعْنى وإيضاحِ الدّلالةِ، ونَقَلَها الصَّحابَةُ ثُمّ رُواةُ الحَديثِ فيما بَعدُ كَما سَمِعوها وشاهَدوا الحَرَكاتِ والإشاراتِ المُرافِقَةَ لَها ^[31] حِرْصًا مِنْهُم عَلى تَبْليغِ الأمانةِ، وعَبَّروا عَنْها بأفعالٍ مثلِ: [ ص: 145 ] «طبقَ كفَّيه» ^[32] ، و «كَسرَ الإبهامَ» ^[33] ، و «عَقَدَ الإبْهامَ» ^[34] و «خَنَسَ الإبْهامَ» ^[35] و «قَرَنَ بينَ أصبعيْه» ^[36] و «أشارَ بالسّبّابةِ» ^[37] و «أشارَ بالسّبّابَةِ والوُسْطى وفرجَ بينَهُما» ^[38] ، و «صَفقَ بِيَدَيه مَرتَينِ بكُلِّ أصابِعِهما»، و «نَقَصَ في الصَّفقةِ الثّالثةِ إبهامَ اليُمنى أو اليُسرى» ^[39] ، و «حَلَّقَ بإصْبَعِه الإبْهامِ والتي تَليها» ^[40] ...

أو حِكايةٍ لأحوالٍ مِثْل : [ ص: 146 ] «دَخَلَ فَزِعا» ^[41] ، أو «غَضبَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتّى احْمَرَّت وَجْنَتاه أو احْمَرَّ وَجْهُه» ^[42] وغيرِها...

وقدْ أورَدَ ابنُ حَجَرٍ في فَتْحِ الباري أحاديثَ «جَعَلَ فيها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الإشارَةَ قائِمَةً مَقامَ النُّطقِ». ^[43]

وهذِه الأحـاديثُ التي قامـت فيها الإشاراتُ أو أحـوالُ الجسمِ أو الوجهِ مَقامَ النُّطْقِ ضَرْبٌ من تَحْكيمِ سِياقِ المُحيطِ، في فَهْمِ صورَةِ الحَديثِ في كُلِّياتِها وتَفاصيلِها، وما ذلِك إلّا أنّ اللّغةَ نظامٌ عامٌّ، تُصاحِبُه نُظُمٌ أخرى من سِياقِ المَقامِ من أجلِ إتمامِ الدّلالةِ وتوصيلِ المُرادِ.

جـ- ومنها اسْتعمالُ الحَديثِ النّبويّ لكثيرٍ من الصّيغِ والأبنِيَةِ اللّغويّةِ اسْتِعْمالًا جديدًا وبِمَعْنى غيرِ مألوفٍ يَعْكِسُ المَعْنى بِدقّةٍ وإحاطةٍ [ ص: 147 ] واسْتِقْصاءٍ، وهِيَ صِيَغٌ وأبنيةٌ ومُشتَقّاتٌ اسْتَعْمَلَها الحَديثُ في إطارٍ سياقِيٍّ عامٍّ، خِلافا لِما دَرَجَت عليه كُتُبُ غَريبِ الحَديثِ من قَطْعِ هـذِه الصِّيَغِ عَن سِياقِها، وتَحْليلِها مُنْفَرِدَةً مَعْزولَةً، وعَدَمِ وَصْلِها بِسِياقِها، ممّا يَذْهَبُ بِكَثيرٍ من الدّلالاتِ والظِّلالِ المَعْنَوِيَّةِ التي تُظِلُّ هـذِه المُفْرَداتِ والصِّيَغَ، ومِن الأمثِلَةِ عَلى هـذِه المُفردَاتِ والصِّيَغِ:

- كَلِمَةُ «المَحاقِل» جَمْع مَحْقل؛ وهو المَزْرَعَة، والمُحاقَلَةُ المُزارَعَةُ، وهو اشْتِقاقٌ من اسمٍ جامدٍ على غيرِ قِياسٍ عندَ الصَّرفيّينَ، ولكنّه وردَ في الحديثِ، وأدّى مَعْنى الحَقْلِ والمَزْرَعةِ بِدقّةٍ: ( رَوى البُخاريّ في بابِ: ما كانَ أصْحـابُ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يُواسـي بَعضُهُم بَعضًا في الزِّراعَة والثَّمَرَة...: عنْ ظَهير بْنِ رافع قالَ: نَهانا رَسـول الله صلى الله عليه وسلم عَن أمرٍ كانَ بِنا رافِقا، قلتُ: ما قالَ رَسول الله صلى الله عليه وسلم فَهو حَقّ؟ قالَ: دَعاني رَسـول الله صلى الله عليه وسلم قالَ: ما تَصْنَعونَ بِمَحاقِلِكُم؟ قُلْتُ: نُؤاجِرُها عَلى الرُّبُع وعَلى الأوْسُـقِ من التَّمْرِ والشَّعـيرِ. قـالَ: لا تَفْعَلوا، ازْرَعـوها أو أَزْرِعوها أو أمْسِكوها، قال رافع قُلتُ: سَمْعا وطاعَةً. ) ^[44] . [ ص: 148 ] - وكَلِمَةُ «المَشْرَبَة» وكَلِمَةُ «الأطْعِمات»: ( رَوى مُسْلِمٌ في بابِ: تَحْريمِ حَلْبِ الماشِيَةِ بِغَيْرِ إذْنِ مالِكِها، عنْ يَحيى بْنِ يَحيى التّميميّ ، عنْ مالِك بنِ أنسٍ ، عن نافعٍ ، عن ابنِ عُمَرَ ، أنّ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: لا يَحْلبَنَّ أحَدٌ ماشِيَةَ أحَدٍ إلاّ بإذنِه، أيُحِبُّ أحَدُكُم أنْ تُؤتَى مَشْرَبَتُه فَتُكْسَرَ خِزانَتُه فيَنْتَقِلَ طَعامُه؟ إنَّما تَخْزنُ لهُمْ ضُروعُ مَواشيهِمْ أطْعِماتِهِم، فَلا يَحْلبَنَّ أحَدٌ ماشِيَةَ أحَدٍ إلا بإذْنِه. ) ^[45] .

و «الأطْعِماتُ» جَمْعُ أطْعِمَة، وأطْعِمَة جَمْعُ طَعام، فاللّفظةُ الواردةُ في الحَديثِ جَمْعُ الجمعِ، وقدْ ورَدَ في الحديثِ للتّكثيرِ والمُبالَغَةِ، وهو سَماعيّ لا يُقاسُ عليه ^[46] ، ومثلُه رِجالاتٌ وجِمالاتٌ وبُيوتاتٌ وأقاويلُ...

وأمّا «المَشْرَبَة» بفَتْحِ الرّاءِ فهي المَوضعُ الذي يُشْرَب مِنْه كالمَشْرَعَةِ ^[47] ، وهو على وزنِ مَفْعَلَةٍ، فهُو مَصدَرٌ ميميٌّ مُشْتَقٌّ من المَصْدَرِ «شُرْب» للدّلالةِ على مَكانِ وُقوعِ الفعلِ.

- وفِعْلُ «أَكْثَبَ» بِمَعْنى قَرُبَ، وَرَدَ في صَحيحِ البُخاريّ، في بابِ: فضلِ مَن شَهِدَ بَدْرا، ( عنْ أبي أُسَيْدٍ قالَ: قالَ لنا رَسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ [ ص: 149 ] بدرٍ : إذا أكْثَبوكُم فارْموهُم واسْتَبْقوا نبْلَكُم. ) ^[48] وفي رِوايةٍ لَه: ( إذا أكْثَبوكُم فَعَلَيْكُم بِالنّبْلِ. ) ^[49] ،

«إذا أكْثَبوكُم»، المَعْنى إذا دَنَوْا مِنْكُم، وقد اسْتشكلَ بأنّ الذي يَليقُ بالدُّنُوِّ هـُو المُطاعَنَةُ بالرُّمحِ والمُضارَبَة بالسّيفِ لا الرّمي بالنّبلِ، وأمّا الذي يَليقُ برَمْيِ النَّبلِ فالبُعْدُ. ومن الشُّرّاحِ مَن شَرَحَ «أكْثَبوكُمْ» بمَعْنى «كاثَروكُمْ» مِن المُكاثَرةِ؛ لأنّ النّبلَ إذا رُمِيَ في الجَمعِ لمْ يُخطِئْ غالبًا، ففيه رَدْعٌ لَهمْ.

وقَدْ تُعُقِّبَ هـذا التَّفسيرُ بأنّه لا يُعْرَفُ، وتَفسيرُ الكَثَبِ بالكَثرَةِ غَريبٌ، أمّا تَفْسيرُه بالدُّنُوِّ فهُوَ المُعْتَمَـدُ. واسْتَبْـقوا نَبْلَكُم، وفي رِوايةٍ: ( ولا تَسُلّوا السُّـيوفَ حَتّى يَغْشَـوْكُمْ. ) . فَظَهَر أنَّ مَعنى الحَديثِ الأمرُ بِتَرْكِ الرَّميِ والقِتـالِ حَتّى يَقْربوا؛ لأنّهم إذا رَمَـوْهُم عَـلى بُعْدٍ قَد لا يُصيبونَهُم وتَذْهَب مَنْفعـةُ الرّميِ، وإلى ذلك الإشارة بقَولِـه: ( واسْتَبْقوا نَبلَكُم ولا تَسُلّوا السُّيوفَ حَتّى يَغْشَوْكُم. ) والمُرادُ بالقُربِ المَطْلوبِ في الرَّميِ قُربٌ نِسْبِيّ بحيثُ تَنالُهم السِّهامُ لا قُربٌ قَريبٌ بحيثُ يَلتَحِمونَ مَعهم ^[50] . [ ص: 150 ] فالفعلُ «أكْثَبَ» اخْتَلَفَ في مَعْنـاه شرّاحُ الحَـديثِ؛ لأنّ اشْتِقاقَه -واسْتعمالَه على هـذا النّحوِ من المَعْنى في سِياقِ القِتالِ واسْتِبْقاءِ النِّبالِ حتّى لا تضيعَ- أمرٌ نادرٌ، وقد رَجَّحَ ابنُ حَجَرٍ مَعْنى الدُّنُوِّ؛ مُسْتفيدًا في ذلِك من سِياقِ الحالِ وما يُحيطُ بِه من مَعانٍ، ولمْ ينظرْ إلى اللّفظِ في ذاتِه مَقطوعًا عن سياقِه.

فهذِه الكَلِمـاتُ المُسْتَقاةُ من مُعْجَمِ الأحـاديثِ النّبـويّةِ تحتاجُ إلى دِراسةٍ سياقيّةٍ تَضَعُ الألفاظَ في مواقِعِها من مَقالِ الحديثِ ومَقامِه، حَتّى يكتَمِلُ شَرْحُ المَعْنى ويُسْتَوْفى، وإلى تجرُّدِ باحثينَ في عُلومِ اللُّغةِ والدّلالةِ لدِراسةِ ألفاظٍ نَبَويّةٍ عديدَةٍ بِمَعانٍ جديدةٍ واسْتِعْمالاتٍ فَريدةٍ؛ لاسْتِخْراجِ مَصـادرِ الثّروةِ اللّغويّةِ في الحديثِ النّبويِّ الشّريفِ على نَحْوٍ لم يدرُسْها بِه مَن ألّفَ في غريبِ الحديثِ؛ لأنّ هـؤلاءِ دَرَسوا تلك الألفاظَ مُفْرَدَةً بعيدةً عن السِّياقِ، بمَنْهَجٍ مُغْلَقٍ اقْتَصَرَ على دِراسةِ ما في الحديثِ من غَريبٍ، يذهَبُ في كثيرٍ من الأحيانِ بِرَوعةِ اسْتِخْدامِ هـذِه الألفاظِ وعُمْقِ دلالتِها ^[51] . [ ص: 151 ]