مقدمة
الحمد لله الذي خلق الإنسان من مادة وروح، وجعل له القدرة على التمييز العقلي بين المعايير الإنسانية الضابطة للقيم والأفعال والسلوك، وبين معايرة مواقع الانفلات والتقصير في حياته وواقعه.
والصلاة والسلام على القدوة المهداة إلى البشرية, الذي اعتمد العقل وسيلة للتغيير وتزكية للنفس واستقلالا للفكر, وعلى آله وصحبه وعلينا معهم إلى يوم الدين.
إن النفس البشرية المتميزة بأبعادها المختلفة وأعماقها المعقدة الغامضة، لا يمكن إشباعها بالوسائل والحاجات المادية وحدها، مهما غالى الإنسان في توجهه المادي، وحرص على تلبية مطالبها الحسية, وإشباع غرائزها الطبيعية؛ لأن «المادة وحدها غير قادرة على ضمان تدبير حياة الإنسان، وبث الطمـأنينة في أعماقه، وهي عاجزة عن ضمان تأسيس أو الحفاظ على أي قيم أخلاقية في حياته» [1] .. من هـنا كان الشعور بإشباع جانبها الروحي ضرورة تلح على الإنسان كلما طغى الجانب [ ص: 19 ] المادي, واختل التوازن داخله، وأصبح الإحساس بالحاجة يتعاظم في نفسه كلما أظلمت, وتوترت العلاقة بين فطرته ومكتسبات ذاته من جهة, وبين ذاته والواقع المحيط به من جهة أخرى.
وهذه الحاجة، تتجلى واضحة حين ينغمس الإنسان في كثير من الأحداث والوقائع والأزمات التي لا يستطيع معرفة كنه أسبابها أو حل إشكالاتها، فيلجأ بفطرته إلى الله سبحانه، ويطلب منه العون على مواجهتها، والمساعدة على تيسير أسباب معالجتها أو تجاوزها،
يقول تعالى: ( وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه ... ) (يونس:12) ،
ويقول تعالى: ( وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون ) (الروم:33) ،
ويقول تعالى: ( وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا ) (الإسراء:67) .
إنه أمر متغلغل في الفطرة, يتساوى فيه الناس مهما كانت اتجاهاتهم وميولاتهم، والالتجاء إلى الله تعالى كلما ضاقت السبل، واشتد الظلام، ثم الإعراض عنه تعالى ساعة الرخاء. وعلاقة الإنسان بربه علاقة ذاتية متأصلة في نفسه، ولكل امرئ شعاع في قلبه يصله إلى خالقه، لأنه تعالى أوجد في طبيعة تكوين الإنسان استعدادا فطريا لمعرفته وتوحيده، فالاعتراف بربوبية [ ص: 20 ] الله وحده فطرة في الكيان البشري، فطرة أودعها الله الخالق في الكينونة الإنسانية، وشهدت بها على نفسـها بحكم وجـودها ذاته، وحكم ما تستشعره في أعماقها من هـذه الحقيقة، فالتوحيد ميثاق معقود بين فطرة البشر، وخالق البشر، منذ كينونتهم الأولى) [2] . وقد أمر الله عز وجل في الآيات السابقة الناس كافة بالدعاء، واختص المؤمنين بهذا الأمر، مما يدل على أن أي إنسان مهما بلغت درجة إيمانه وتدينه واستقامته, لا يستغني عن الدعاء، فهي بداية السير إلى الله ونهايته.
ولعل أكثر ما يبحث عنه الإنسان العاقل في زمننا المعاصر، مهما كان تدينه أو توجهه، الطمأنينة والسلام مع نفسه ومع الآخرين, والإحساس الحقيقي بالحرية والكرامة. وأعتقد أنه لن ينعم بذلك إلا إذا اكتشف ذاته أولا. ومرحلة اكتشاف الذات هـي مرحلة خطيرة؛ لأنها ترسم مسار الإنسان في رحلته على الأرض, وتتطلب منه أن يوقظ نفسه من غفلتها أو جحودها, بمعنى أن يتوقف لفترة قد تطول أو تقصر عن مجاراة العالم المختل, ويحاول إعادة التوازن إليه من خلال نفسه, وإيجاد واقع عملي يحقق له ما يصبو إليه, ويضمن له الاستقرار؛ ولن يستطيع ذلك إلا إذا امتلك عقيدة صحيحة تفسر له ما حوله, وتفسر له مكان وجوده فيما حوله ووظيفة هـذا الوجود.
من هـنا كانت البشرية منذ نشأتها تحتاج إلى من يرشدها ويوجهها إلى طريق سعادتـها بتزكية النفوس وتطهير القلوب وإقرار الخير [ ص: 21 ] والصلاح في الأرض, واستشعار عظمة الله في كل ما يحيط بها وما يتوصل إليها. وكانت في كل مرحلة تجنح عن الحق وتنحرف نحو الفساد والطغيان يبعث إليها بدينه الحق،
( إن الدين عند الله الإسلام ... ) (آل عمران:19)
عبر أنبيائه ورسله لتصحيح العقيدة، ومعالجة مختلف الأمراض الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها الموجودة في بيئاتها،
يقول تعالى: ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ... ) (النحل:36)
ويقول عز شـأنه: ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) (الأنبياء:25) .
وكانت آخر الرسـالات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم التي جاءت إلى الإنسانية كلها تؤكد الأسس الإيمانية التي جاءت بها الرسالات السابقة,
يقول تعالى: ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ... ) (الشورى:13) .
ولهذا كان الإسلام يعرض لقضية البشرية من نشأتها إلى غايتها، ويدعوها إلى تصحيح عقيدتها بوحدة إيمانها بالله عز وجل ،
يقول تعالى: ( ... اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ... ) (المائدة:3) . [ ص: 22 ] وتمثل مرحلة البعثة الإسـلامية أزهى المراحل التي بلغـت فيها البشرية قمة الارتقاء الإنساني, ممثلة في رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة والنموذج للكمال والصـلاح, ثم في أصحابه، رضي الله عنهم وأرضاهم. حيث كانت علاقاتهم بربهم علاقة متناغمة مع الكون ومع وظيفة وجودهم
( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) (الذاريات:56) .
فالعبادة إذن جـوهر الوجود الإنسـاني, وهي تستلزم التوجه إلى الله تعالى بالطلب والدعاء. والدعاء لغة هـو النداء [3] ، تقول: دعوت فلانا أدعوه دعاء، أي ناديته وطلبت إقـباله، وأصـله دعـاو، إلا أن الواو لما جاءت بعد الألف هـمزت.
وللدعاء في القرآن الكريم وجوه عدة، تدور حول المعنى اللغوي المتقدم، كما تقدم معاني أخرى، من هـذه الوجوه قوله تعالى في معنى النداء:
( فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ... ) (آل عمران:61) أي ننادي..
واستعمل كل من النداء والدعاء موضع الآخر في قوله تعالى: ( ... كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء ... ) (البقرة:171) ؛
وقوله تعالى في معنى الطلب: ( ... وإن تدع مثقلة إلى حملها ... ) (فاطر:18) .
وقوله تعالى في معنى القول: ( فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا ... ) (الأعراف:5) أي ما كان قولهم إذ جاءهم العذاب، وقوله [ ص: 23 ] تعالى في معنى الاستعانة: ( ... وادعوا شهداءكم من دون الله ... ) (البقرة:23) أي استعينوا واستغيثوا،
وقوله تعالى في معنى الحث على الشيء: ( قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا ) (نوح:5) أي حثثتهم على عبادة الله سبحانه،
وقوله تعالى في معنى السؤال: ( قالوا ادع لنا ربك ... ) (البقرة:69) أي سله،
وقوله تعالى في معنى النسبة: ( ادعوهم لآبائهم هـو أقسط ... ) (الأحزاب:5) أي أنسبوهم.
وإضافة إلى هـذه المعاني جاء الدعاء في القرآن بمعنى العبادة في قوله تعالى: ( ... لن ندعو من دونه إلها ... ) (الكهف:14) أي نعبد،
وفي آية أخرى جاء مرادفا للعبادة، يقول تعالى: ( وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ) (غافر:60) ،
فجعل الدعاء هـنا ممثلا للعبادة ومترجما لها.. ( وقال صلى الله عليه وسلم : «الدعاء هـو العبادة ) [4] .
فالدعاء هـو العبادة الحقيقية ذاتها، لدلالته على إقبال العبد على الله عز وجل والإعراض عمن سواه، واقترانه بسائر العبادات والطاعات التي يتقرب بها العبد إلى خالقه تعالى بشكل لا يقبل الانفصال كالصلاة والصيام والحج من جهة، وكل الأعمال المحتسبة لله عز وجل من جهة أخرى، لذا كان الاستمرار في الدعاء يشكل تأكيدا لتقرير حقيقة مهمة [ ص: 24 ] في نفس الإنسان المسلم، وهي فقره إلى الله، وعدم استغنائه عنه في كل الأحوال،
يقول تعالى: ( يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هـو الغني الحميد ) (فاطر:15) ،
وتنمية الإحساس بالفقر إلى الله والحاجة إليه وعدم الاستغناء عنه غايات تعبدية يستهدفها الدين بذاتها، ويلزم الإنسان اتباعها في كل عباداته،
يقول تعالى: ( ادعوا ربكم تضرعا وخفية ... ) (الأعراف:55) .
من هـنا كان الدعاء عبادة حية متحركة، رغم خضوعها لزمان ومكان معينين, ولأفعال خاصة وألفاظ محددة، إلا أن الإنسان ينطلق فيها حرا يتطلع لعبودية الله وحده لا شريك له، يذوق حلاوة قربه، والتنعم بمعيته وطاعته. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمارسها في جميع حالاته؛ لأنها تترجم عمق الصلة بين العبد وبارئه، ويعكس حالة الافتقار المتأصلة في ذاته إلى الله سبحانه، مع إحساسه العميق بالحاجة إليه والرغبة فيما عنده، فكانت مصاحبة لكل عمل يقوم به، من أبسط الأشياء إلى أعظمها التي غيرت وجه التاريخ، وأوجدت خير أمة أخرجت للناس، ( وقد روى البخاري عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان النبى صلى الله عليه وسلم يذكر الله كل أحيانه ) .
يقول ابن القيم : «فضرورته صلى الله عليه وسلم إلى ربه وفاقته إليه بحسب معرفته به, وحسب قربه منه ومنـزلته عنده. وهذا أمر إنما بدا منه لمن بعده ما يرشح من ظاهر الدعاء، ولهذا كان أقرب الخلق إلى الله وسيلة وأعظمهم عنده جاها، وأرفعهم عنده منـزلة، لتكميله مقام العبودية والفقر إلى ربه عز وجل » [5] .. [ ص: 25 ] وبسبب افتقاره إليه عز وجل ، كان من دعائه : ( اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت ) [6] .
من هـنا كان اتباع سنة رسول الله، وتعلم الدعاء منه، مع الإيمان والوثوق بالإجابة, بعد العمل على تهيئة الظروف والأخذ بالأسباب المادية, عامل تيسير مهم يجب استثماره لتيسير حياة الإنسان, وجعلها مليئة بالرضى والطمأنينة والسلام والتقدم، ( فعن عبد الله بن بسر ، رضي الله عنه ، أن رجلا قال: يا رسول الله، إن شرائع الإسلام قد كثرت علي، فأخبرني بشيء أتشبث به.. قال: «لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله ) [7] . والدعاء نوعان
دعاء المسألة، أي طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع أو كشف ضر أو توبة أو استغفار وغيرها، ودعاء التعبد، أي سائر القربات من ذكر وتلاوة وصلاة ونسك ومختلف الطاعات. [ ص: 26 ] قال الإمام ابن القيم : «والدعاء من أنفع الأدوية، وهو عدو البلاء يدافعه، ويعالجه، ويمنع نزوله، ويرقعه، أو يخففه إذا نزل، وهو سلاح المؤمن، وله مع الدعاء ثلاث مقامات:
أحدها: أن يكون أقوى من البلاء فيدفعه.
2- أن يكون أخف من البلاء فيقوى عليه البلاء، فيصاب به العبد ولكن يخففه، وإن كان ضعيفا.
3- أن يتقاوما ويمنع كل واحد منهما صاحبه» [8] .
والإنسان الذي وصل إلى مستوى تذوق لذة الإيمان وسما بالعبادات، لا يمكن أن يقصر أبدا في الدعاء، ويدرك أن العبادات هـي غاية الموجودات وسبب خلقها، لذا يعطيه أهمية قصوى، كي ينعكس على حياته.
وللدعاء أهداف عديدة يمكن أن يصل إليها المؤمن، منها حفظ النفس وتزكيتها،
يقول تعالى: ( ... ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) (الرعد:28) ،
فهناك أمراض تفتك بالبشرية, وتعرض حضارتها للانهيار, وتصيب أفرادها بالوهن, منها الإلحاد والتطرف والعبثية والعدمية، لكن الإيمان يظل ينبض في أعماق الفطرة الإنسانية رغم بعدها عن الحق والعدل. وربما هـذه الحقيقة ترقد في أعماق كل إنسان, مهما كانت قناعاته أو توجهاته, وإن لم يعترف بها، لذا يلجأ إلى الله تعالى كلما تعبت [ ص: 27 ] نفسه، واشـتاقت لفطرتـها، وللتطهر من أردانها. وتكون البداية ضيقها من السيئات التي تنغمس فيها. وإذا أراد الله بعبده خيرا فتح له من أبواب التوبة والندم والانكسـار والذل والافتقـار والاسـتعانة به وصدق اللجوء إليه ودوام التضرع إليه والدعاء والتقرب إليه، بما أمكن من الحسنات، ما تكون تلك السيئة به سبب رحمته [9] .
ويأتي الدعاء لشحن الإنسان بدلالات القرب والمعية ما يعود نفسه البشرية على الارتقاء نحو مدارج السمو والكمال الإنساني, وتطبيعها بممارسات وسلوكيات نابعة من أصول حضارتنا, وطبيعة وجودنا على وجه هـذه الأرض. فإصلاح النفس وتزكيبها وتطهيرها بالدعاء من أجل الأهداف التي يسعى إليها الداعي؛ لأنه يدرك أن أي خلل يصيبه، مهما كانت طبيعته، يكون مصدره من نفسه، ويكون ذلك تنبيها للرجوع إلى الله، واكتشاف مصدر الداء والخطأ. وحين حلت الهزيمة بالمسلمين في أحد وقال بعض الصحابة: «كيف نهزم ونحن جند الله» جاء الجواب من الله تعالى آيات بينات لمن يسمع ويتعظ:
( ... قل هـو من عند أنفسكم ... ) (آل عمران:165) .
إن الهزيمة وقعت بسبب خلل داخلي على المسلمين إصلاحه ليأتي النصر. [ ص: 28 ] ولا يغتر المسلم بسريان الفسـاد في نفسه وفي مجتمعـه، فيعتقد أنه لا سبيل للإصلاح وللرجوع، فذلك إحباط ويأس من رحمة الله وعفوه، وإنما عليه أن يبدأ بإصلاح نفسه متوكلا على الله تعالى، ويلجأ إلى التوبة.. والتوبة عبادة مرتبطة بالدعاء، لا بد منها كي يستطيع المذنب نسج جسور الطاعة بينه وبين ربه واللجوء إليه ودعائه.
وأركان التوبة [10] : الندم الصادق النابع من القلب, ثم العزم الأكيد على ترك الذنوب والمعاصي, ولما كان الإنسان ضعيفا فإنه ربما يعود إلى ارتكاب الذنوب, لكن باب التوبة الصادقة يظل مفتوحا,
يقول تعالى: ( ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا ) (الإسراء:25) .
والركن الثالث الإقلاع عن الذنوب والمعاصي؛ لأن التوبة تقترن بالإيمان والعمل الصالح,
يقول تعالى: ( إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ... ) (الفرقان:70) ،
ومجانبة الشيطان: ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ... ) (الحجر:42) ،
ويقول تعالى على لسان إبليس: ( ... فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين ) (ص:82-83) .
والتوبة الدائمة والاستـغفار يفسحـان المجال للمسـلم كي يشكر نعم الله عليه, ويصبر [ ص: 29 ] على المحن التي يبتـليه بها ويلجأ إلى الدعاء يتزود منه ما يعينه على الثبات في كل ذلك.
ومن أهداف الدعاء تبليغ الحقيقة الإسلامية وإذكاء جذوتها في النفوس المتعطشة إلى السلام والاطمئنان والأمان،
يقول تعالى: ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ) (الحديد:16) .
ومن الأهداف المهمة أيضا التزود بزاد سهل في متناول الجميع، ورغم سهولته إلا أنه عند الله عظيم، ولا يكاد يلتفت إليه المسلم المعاصر إلا إذا كان في ورطة أو مصيبة، لكن إذا علم الإنسان أنه مجرد ضيف زائر للدنيا سوف يرحل عنها قريبا, خالي الوفاض إلا من زاد معنوي يتحصله من أعماله المادية والمعنوية, ليرجع كل شيء إلى أصله, الجسد إلى التراب, والروح إلى بارئها عز وجل , سيدرك أن عليه أن يتزود لرحـلته إلى الله تعالى, وطبيعة الزاد يوصله إلى نتيجته. فمن كانت طريقه إلى الله وجده موفيا حقه, ومن كانت طريقه غير ذلك وضل سبيله وجد الله أيضا يوفي له حسابه غير منقوص, ودخـل في زمرة من ( ... أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا ) (مريم:59) ،
وكانت النهاية الأبدية لمن على شاكلته أنهم ( ... يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم ) (محمد:12) . [ ص: 30 ] ولذلك ينادي الله عباده المؤمنين: ( يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هـم الخاسرون وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ) (المنافقون:9-10) ،
وتتميز طبيعة زاد المؤمن بكل ما فيه رضى الله ورضوانه حسب الاستطاعة،
يقول تعالى: ( فاتقوا الله ما استطعتم ) ، وهو تعالى عليم بمجهود المؤمن في التزود، يقول: ( ... واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما ) (النساء:32) .
وإذا كان زاد المرتحل إلى الله محفوف بالفضل والتقوى، فإن على المؤمن المتزود أن يزيد منهما، ويسعى إلى تغيير ما يصبح عادة في عباداته، وما يبعده عن الصراط المستقيم.
وبما أن الأمة في أمس الحاجة إلى تغيير يتصاعد من أعماقها, والتوجه إلى مخاطبة فطرة الإنسان وعقله وذوقه, خاصة وأن حركات التاريخ وسننه المتتابعة أثبتت أن الابتعاد عن الدين، فكرا وسلوكا، هـو أساس جميع ألوان الاضطراب والانحراف الفردي والاجتماعي، ابتداء بفقدان الصحة النفسية والروحية، وانتهاء بالممارسات المنحرفة, فإن الدعاء عنصر فاعل في إعادة بناء شخصية الإنسان المسلم, وفي تنمية قدرات مواجهاته لمختلف التحديات والأزمات, ووقف نزيف الألم والقلق النابع من داخله, من أجل التركيز على قضايا مصيرية تمس الفرد والأمة, وعاملا أساسيا في تفجير طاقاته, وإشاعة روح النشاط في نفسه كي يقوم بواجباته بدلا من [ ص: 31 ] كونه (أي الدعاء) وسيلة للاتكالية والتجميد والخمول، كما أصبح عند سواد الأمة. والبناء الداخلي لأي تغيير هـو من أدق الأعمال وأصعبها، لأن الواقع الخارجي ليس سوى انعكاس للتكوين والتعبئة الداخلية، فبقدر ما يكون الإنسان متماسكا ومطمئنا داخليا وواضحا في رؤاه وتصوراته، بقدر ما يكون أقدر على تحقيق أهدافه داخل الأمة، وأقدر على التزود بزاد المرتحل إلى الله تعالى.
وقد وردت عن رسول الله (دعوات وأذكار خاصة، تعد زادا سائغا، ناجى بها ربه في أوقات وأحوال ومناسبات شتى, يشع منها نور النبوة ، ويلوح فيها عمق عبوديته وقربه من الله عز وجل . وقد ألفت فيها كتب خاصة , منذ عهد الإمام النسائي , وتلميذه ابن السني , ثم كتاب الأذكار للنووي , والكلم الطيب لابن تيمية ، والوابل الصيب لابن القيم , والحصن الحصين للجزري ، وتحفة الذاكرين للشوكاني ، وغيرهم . وفي عصرنا ألف مجموعة من العلماء عددا من المصنفات في هـذا المجال المتجدد، منهم الداعية الكبير الشيخ محمد الغزالي، رحمه الله، في كتابه «فن الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء » عرض فيه كثيرا من الدعوات والأذكار النبوية بقلم الأديب , وروح الداعية , وقلب المؤمن , وحرارة المحب لله تعالى ولرسوله (. وما زال هـذا الموضوع يحتاج إلى إغناء وإضافة بقدر حاجتنا وافتقارنا إلى الله عز وجل ، وليس هـذا البحث سوى فيض رغبة تأصلت في نفسي من تذوق لذة اللحظات التي أخلو بها مع كلمات الدعاء القرآني والنبوي الخالدة، وددت أن أهديها إلى أمتي، عسى خالقنا وبارئنا سبحانه وتعالى أن يقبلها مني ويجعلني ألقاه وهو راض عني، آمين. [ ص: 32 ]