الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الدعاء (سبيل الحياة الطيبة)

الدكتورة / سعاد الناصر

القسم الأول: تصنيف نصوص الدعاء القرآني

إن المتأمل في نصوص الأدعية الواردة في القرآن الكريم وفي الحديث النبوي الشريف يدرك أهمية الدعاء وقيمته الفكرية والنفسية والروحية التي تتغلغل في حياة الإنسان, وتتحول سلوكا ومواقف إنسانية, تسري معانيها في محيطه ومحيط جماعته البشرية. ومع استفاضة دلالات الدعاء وتشعبها, وتنوعها أيضا في النص الواحد, فإنه يمكن تصنيفها في محاور تجمع معانيها التي تنتمي إلى حقول دلالية متشابهة ومتقاربة. [ ص: 75 ]

المحور الأول: دلالات الهداية

غني عن الذكر بأن القرآن الكريم كتاب هـدى وهداية قبل كل شيء, لذلك كانت القاعدة العامة التي يقوم عليها تصب في مجالين اثنين: مجال المهتدين بهدايته والطريق التي أوصلتهم إلى الله تعالى, ومجال المحرومين من هـدايته, والسبل التي انحرفت بهم عنه سبحانه،

يقول تعالى: ( ذلك الكتاب لا ريب فيه هـدى للمتقين ) (البقرة:2) ,

ويقول تعالى بأسلوب التأكيد: ( إن هـذا القرآن يهدي للتي هـي أقوم ... ) (الإسراء: 9) ,

ويقول: ( يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم ) (المائدة:16) .

ويرد ذكر الهداية وحقول دلالاتها المرتبطة بالخير والنعمة والرشد والاستقامة والأمن والاعتصام والمجاهدة منذ مطلع القرآن الكريم في سورة الفاتحة حتى نهايته في سياقات مختلفة, ترتبط بالعقيدة والشريعة والسلوك والأخلاق.

ويجمع دعاء الفاتحة في قوله تعالى: ( اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) (الفاتحة:6-7)

كل هـذه السياقات؛ لأنه طلب معرفة الحق والعمل به في جميع التفاصيل الدينية والدنيوية. ولهذا كان هـذا الدعاء, كما يذهب إلى ذلك معظم المفسرين والعلماء الذين تعرضوا له, من أجمع [ ص: 76 ] الأدعية وأنفعها للعبد. فرضه تعالى عليه في كل ركعة من صلاته, لأهمية تأثيره في الدنيا والآخرة.

وتأتي الأدعية الأخرى المرتبطة بدلالات الهداية في القرآن الكريم بوصفها معالم تربوية, تقوم على دعائم التكرار المستمر للقيم والفضائل وأنماط السلوك، لترسيخها في عقل الإنسان، بأساليب وصيغ مختلفة وأفكار متجددة, لكن يبقى المعنى الأساس قائم في قلب تلك الأساليب والصيغ والأفكار يشير إلى أن أي هـداية إلى الصراط المستقيم لا تكون إلا بالاستعانة بالله عز وجل وتوفيقه, وأن مجمل الأدعية الواردة في مجال الهداية تسعى إلى إعادة صياغة الإنسان وفق قيم جديدة, وفي إطار سلوك قويم يقوده إلى الصراط المستقيم.

ويمكن تصنيف الأدعية التي تصب في دلالات الهداية حسب ورودها في القرآن الكريم على النحو التالي:

- يقول تعالى على لسان إبراهيم ، عليه السلام ، بصيغة الجمع لتثبيت مفهوم الوحدة والجماعة وترسيخ استمرارية الهداية والصلاح:

( ... ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم ) (البقرة:127-129) . [ ص: 77 ] جمع إبراهيم ، عليه السلام ، في دعائه بين ستة من أسماء الله تعالى: ( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ... ) (الأعراف:180) ,

واصفا إياه بصفات السمع والعلم والتوبة والرحمة والعزة والحكمة لتعليل طلب القبول: ( إنك أنت السميع العليم ) وتوسل هـدى الله وتوفيقه في النفس والذرية الموصلان للتوبة والرحمة ( إنك أنت التواب الرحيم ) , الموجبان لاستمرار الهداية وتزكية النفس, وإحاطتها بالعلم والعزة والحكمة.

- ويقول تعالى على لسان زكريا ، عليه السلام ، في سياق إثبات قدرة الله ومنه، طالبا منه ذرية مهتدية بهديه: ( رب هـب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء ) (آل عمران.38) .. فالذرية الطيبة الموصولة بالله عز وجل لن تكون كذلك إلا بهدى من الله وتوفيقه.

- ويقول تعالى على لسان الحواريين: ( ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين ) (آل عمران:53) ، و ( الشاهدين ) حسب قول ابن عباس ، رضي الله عنهما ، هـم أمة محمد صلى الله عليه وسلم , وكما يقول الطبري : الذين شهدوا بالحق وأقروا لله بالتوحيد.. والإقرار بالإيمان واتباع هـدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفع المؤمن لطلب مرافقة الشاهدين للأنبياء بالحق والصدق, والتأسي بهم, لاكتساب القدرة على الاستقامة كما استقاموا حين أخذ الله منهم عهد اتباع الرسول الذي يأتي من بعدهم ونصرته,

يقول تعالى: ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب [ ص: 78 ] وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ) (آل عمران:81) . - يقول تعالى في سياق الحديث عن أحوال أولي الألباب الذين يتفكرون في عظمة الله كل لحظة من لحظات حياتهم, ويستنجزون وعد الله:

( ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد ) (آل عمران:193-194) .

- ويقول تعالى: ( ... ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ) (المائدة:83) .

إن معرفة الحق تورث المؤمن أملا في اللحاق بالصالحين والمهتدين، يقول تعالى: ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ... ) (البقرة:143) ..

الشهادة تكون للإنسان الحضاري الفاعل, الذي يؤدي دور الخلافة, وليس المنـزوي في أذيال التاريخ والزمن.

- ويقول رب العزة على لسان إبراهيم ، عليه السلام : ( رب اجعل هـذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة [ ص: 79 ] فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب ) (إبراهيم:35-41) . ودعاء إبراهيم ، عليه السلام ، يشمل طلب الهداية والأمن, وقد استجاب الله تعالى لرسوله في قوله: ( إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ... ) (آل عمران:96-97) .

- يقول تعالى على لسان موسى ، عليه السلام ، في سياق حديثه عن تبليغ رسالته: ( رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي ) (طه:25-28) .

- ويقول تعالى: ( ... رب زدني علما ) (طه:114) . والدعاء بالعلم يأتي بالهداية.

- ويقول تعالى: ( ... ربنا هـب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما ) (الفرقان:74) .

وهنا يتكرر طلب الزوج الصالح والذرية الطيبة لما لهما من تأثير على استقرار المؤمن وإعداده [ ص: 80 ] للدخول في زمرة المتقين, واستمرارية النسل المهتدي بهدي الله.

- ويقول تعالى: ( رب هـب لي حكما وألحقني بالصالحين ) (الشعراء:83) ؛

( رب هـب لي من الصالحين ) (الصافات:100) .

والدعاء بالصلاح يدخل في إطار الهداية والتوفيق.

هذه الأدعية القرآنية، التي وردت على لسان الأنبياء والصالحين، تؤكد أن أسمى غاية يرجوها الإنسان المسلم هـي هـداية الله وتوفيقه, وأن يهبه سبحانه الصلاح من عنده.

المحور الثاني: دلالات الرحمة

تنتمي الرحمة إلى حقول دلالية متعددة منها التفضل والإحسان والمغفرة والعطف والعفو، ويراد بها إرادة الله تعالى إيصال الخير والثواب لمن يشاء من عباده, ولذلك كان من صفاته الرحمن الرحيم. ورحمته تعالى في الدنيا شاملة للمؤمن والكافر، والصالح والطالح، وذلك بإيصال الرزق، وخلق الصحة، ودفع الأسقام والمصائب ( ... ورحمتي وسعت كل شيء ... ) (الأعراف:156) .

كما أنه سبحانه خلق الكون والكائنات بالرحمة، فقال: ( بسم الله الرحمن الرحيم ) , وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحق ورحمة لكل العالمين, يقول تعالى: ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (الأنبياء:107) ,

وإذا كانت الرحمة تعني النعمة والخير فإن المغفرة تعني الستر بعد المعصية. [ ص: 81 ] وصفة الرحمة من الصفات التي ينبغي على المسلم الاتصاف بها, كي يستطيع التعايش مع كل الناس مهما كانت انتماءاتهم أو توجهاتهم, والتأثير فيهم برحمته وعطفه وعفوه. وقد كانت رحمة النبي صلى الله عليه وسلم من أهم صفات شخصيته، تطبع فكره وذوقه ووجدانه, وتفيض بها أخلاقه ومعاملاته وعلاقاته, وتميزت بها دعوته، وكانت من صميم شخصيته، رسولا ونبيا ومبلغا عن ربه وهاديا للناس،

يقول تعالى: ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ) (التوبة:128) ،

فهو صلى الله عليه وسلم مثل أعلى للرحمة الإلهية لذلك كان من صفاته الرءوف الرحيم, كما أنه رحمة شاملة للوجود بأجمعه, ولذلك حين قيل له: ادع على المشركين، ( قال صلى الله عليه وسلم : «إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة ) [1] .

والأدعية، التي تنطوي على معاني الرغبة في رحمة الله ومغفرته الواسعة والشاملة في القرآن الكريم، على نوعين:

النوع الأول: أن يعرض العبد حاله على رب العالمين دون أن يطلب شيئا، كدعاء أيوب ، عليه السلام ،

في قوله تعالى: ( وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ) (الأنبياء: 83) . [ ص: 82 ]

النوع الثاني: أن يعرض العبد حاله وطلبه أيضا على رب العالمين،

كما في قوله تعالى: ( قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ) (الأعراف:23) .

وهذه الأدعية التي وردت في دلالات الرحمة والمغفرة:

- يقول تعالى: ( ... ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ) (البقرة:286) .

- ويقول تعالى على لسان زكريا ، عليه السلام : ( ... هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء ) (آل عمران:38) .

- ويقول تعالى، على لسان عيسى ، عليه السلام : ( اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين ) (المائدة.114) .

- ويقول تعالى: ( ... ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ) (الأعراف:23) .

- ومن دعاء شعيب ، عليه السلام : ( ... ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين ) (الأعراف:89) . [ ص: 83 ] - ويقول بلسان موسى ، عليه السلام : ( ... رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين ) (الأعراف:151)

- ويقول بلسان نوح ، عليه السلام : ( ... رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين ) (هود:45) ؛ ( ... رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين ) (هود:47) .

- ويقول: ( ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب ) (ابراهيم:41) .

- ويقول تعالى: ( رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا ) (الإسراء.80) . وهذا الدعاء، حسب القرطبي ، يدخل في كل ما يتناول من الأمور ويحاول من الأسفار والأعمال, وينتظر من تصرف المقادير في الموت والحياة, يطلب المؤمن فيها الرحمة.

- ويقول تعالى: ( ... رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ) (الإسراء:24) .

- ويقول تعالى: ( ... ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا ) (الكهف:10) .

- يقول تعالى على لسان زكريا ، عليه السلام : ( ... رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا وإني [ ص: 84 ] خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا ) (مريم:4- 6) . وتدعو مريم : ( ... رب اجعل لي آية ... ) (مريم:10) .

ويقول تعالى على لسان يونس ، عليه السلام : ( ... لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) (الأنبياء:87) . ( وروى سعـد ابن أبي وقاص ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له ) [2] .

- يقول تعالى على لسان زكريا ، عليه السلام : ( ... رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين ) (الأنبياء:89) .

- ويقول تعالى: ( ... رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين ) (المؤمنون:29) .

- ويقول تعالى: ( ... ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين ) (المؤمنون:109) .

- ويقول: ( ... رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين ) (المؤمنون:118) .

- دعاء نوح ، عليه السلام : ( ... رب إن قومي كذبون فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين ) (الشعراء:117-118) . [ ص: 85 ] - ( ... رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا ) (نوح:26-28) .

- ويقول تعالى: ( ... رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هـو الغفور الرحيم قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين ) (القصص:16-17) .

- ويقول: ( ... ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هـو الفوز العظيم ) (غافر:7-9) .

- ويقول: ( ... ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم ) (الحشر:10) .

- ويقول تعالى: ( ... ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم ) (الممتحنة: 4-5) .

ويقول تعالى: ( ... أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير ) (التحريم:8) . [ ص: 86 ] دعاء امرأة فرعون : ( ... رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين ) (التحريم:11) .

إن دلالات طلب الرحمة والمغفرة حاضرة بقوة في هـذه الأدعية العديدة, وتكشف أمل وطمع العبد في رضاه سبحانه ورحمته التي وسعت كل شيء.

المحور الثالث: دلالات الصبر

إن ما يعتري الأمة من أزمات ومصائب ووهن وانهزام، سواء في الداخل أو الخارج, يكاد يسلم كثيرا من الناس إلى اليأس والإحباط, وإلى النظر إلى واقعهم بعين السخط والتشاؤم, لكن هـذا الواقع لا يجب أن يفقد الأمة تماسكها ومحاولاتها المستمرة في إنقاذ نفسها, خاصة وأنها تملك مبشرات النصر والتمكين, كامنة في نصوصها الشرعية, وفي أعماق التاريخ,

يقول تعالى: ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ) (البقرة:214) .

لذلك، بدلا من الاستسلام وسلوك دروب التواكل, يجب أن تسلك طريق النصر بعيدا عن اليأس والقنوط, ومن أهم معالم هـذا الطريق الصبر, فهو قاعدة إيمـانية مثـمرة, تورث الفاعـلية للخروج من كل ما يعتري الأمة, وارتياد آفاق أفضل,

يقول تعالى: ( ... إنما يوفى الصابرون [ ص: 87 ] أجرهم بغير حساب ) (الزمر:10) ؛ كما أنه قرين الجهاد في فتح أبواب الدنيا والآخرة,

يقول تعالى: ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ) (آل عمران:142) ؛

وهو عدة المؤمن التي ينال بها الرضا بقضاء الله، عندما يبتلى في نفسه وأهله وماله وأمته، وهو من المبشرين بهدى الله، وأن تغشاه رحمته، ويحظى بصلواته عليه،

يقول تعالى: ( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هـم المهتدون ) (البقرة:155-157) .

من هـنا كان النصر الحقيقي يتمثل في الصبر والثبات، والإخلاص في العمل, واستشعار معية الله وحسن الثقة واليقين به سبحانه, وكانت كل الأدعية التي تصب في محور الصبر تعمل على نحته في القلوب والعقول؛ لأنه بدون صبر لا يمكن المضي في طريق تفعيل الإيمان في النفس, والارتقاء بها نحو مختلف القيم الأخلاقية كالصدق والإخلاص وغيرهما, ولذلك ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر ) [3] .

وهذه جملة من الأدعية التي تدور حول الصبر وطلب الثبات على الأمر المؤدي إلى النصر: [ ص: 88 ] - يقول تعالى: ( ... ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ) (البقرة:250) .

- ويقول تعالى: ( ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هـديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ) (آل عمران:8) .

- ويقول عز شأنه: ( ... ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ) (آل عمران:147) .

- ويقول تعالى: ( ... ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين ) (الأعراف:126) .

كل هـذه الأدعـية تزود المؤمن بطاقات فاعلة تجعله يمضي في الطريق الموصـلة للجنة بتدرج وأخـذ بالأسباب العملية والإيمانية، يقول تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين ) (البقرة:153) ،

ويقول: ( إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) (العصر:2-3) .

وكما جاء في الحديث الصحيح: ( ...الصبر ضياء ) [4] فلا بقـاء للحق بغـير صبر، ولا طريق موصلة إلا إذا تنورت بالصبر. [ ص: 89 ]

المحور الرابع: دلالات الخشية

إن خشية الله تعالى من أبرز صفات المؤمنين, وأعظم آثار الإيمان, يقول تعالى: ( الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون ) (الأنبياء:49) , وهي أعلى مرتبة من الخوف. يقول ابن القيم : «الخشية أخص من الخوف، فهي خوف مقرون بمعرفة» [5] . فالخوف على مراتب:

- أدنى مراتبـه الخوف الذي هـو من شروط الإيمان ومقتـضاه، كما يشير إليه قوله تعالى: ( ... وخافون إن كنتم مؤمنين ) (آل عمران:175) ؛

- ثم مرتبة الخشية ذات الطابع العلمي والمعرفي كما في قوله تعالى: ( ... إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور ) (فاطر:28) .

- ومرتبة الوجل: ( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون ) (الأنفال:2) ، وهي أساس مراقبة الله, تعمر قلب المؤمن, وتحول بين صاحبه وبين محارم الله ومعاصيه, وترقى به إلى درجة الإحسان التي تجعله يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإنه يراه, فيتميز عن الغافلين والعابثين، يقول : ( من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة ) [6] . [ ص: 90 ] والخوف من الله لا يعني الشعور بالرعب الذي يزرع القلق والخلل والاضطراب في نفس الخائف, وإنما هـو إحساس دائم بالرقيب الأعلى وتمثل فاعل لوجود الله, وامتثال مطلق لفعل أوامره, وترك لنواهيه.

وانطلاقا من هـذا المفهوم للخوف من الله وخشيته، يكون المؤمن مستشعرا الطمأنينة, والسلام النفسي, ويكون من الذين قال عنهم سبحانه وتعالى : ( الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) (الرعد:28) . ( وعن أبي هـريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه جل وعلا أنه قال: «وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين: إذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة، وإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة ) [7] . وكلما تقرب العبد من ربه كان أشد خوفا وخشية له، ولذلك ( قال حبيب الله المصطفى صلى الله عليه وسلم : «... فوالله إني أعلمهم بالله وأشدهم له خشية ) [8] .

ومع شدة إقبال العبد على الطاعات، والتقرب إلى الله بأنواع القربات؛ يشفق على نفسه أشد الإشفاق، ويخشى أن يحرم من القبول، ( فعن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هـذه الآية: ( والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة ) قالت عائشة: أهم الذين يشربون [ ص: 91 ] الخمر ويسرقون؟ قال:لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات ) [9] . كما يشفق على العمل أن يصير إلى ضياع,

يقول تعالى: ( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هـباء منثورا ) (الفرقان:23)

فيلجأ إلى الله خوفا وطمعا, كي يعينه على تحسين عمله. ومن خوفه منه سبحانه يبكي على تقصيره, ويزداد إيمانا وخشوعا وطاعة. ( وقد بين صلى الله عليه وسلم أن من بكى من خشية الله فإن الله يظله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، فقال: «... ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه... ) [10] ,

ويقول تعالى: ( ... إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا ) (الإسراء:107-109) .

وهذا البكاء يزيد المؤمن قربا من الله, كما يزيده عزة بالنفس وصلابة في المواجهة وسموا.

ومن هـذه الأدعية الواردة في الخوف من الله والخشية منه تعالى: [ ص: 92 ] - يقول تعالى: ( ... ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) (البقرة:201) .

- ويقول: ( ... ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار ) (آل عمران:16)

- ويقول تعالى: ( ... ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما ) (الفرقان:65)

- ويقول عز شأنه: ( ... ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ونجنا برحمتك من القوم الكافرين ) (يونس:85-86) .

- ويقول تعالى: ( ... رب أعوذ بك من هـمزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون ) (المؤمنون:97-98) .

- ويقول تعالى على لسان لوط ، عليه السلام : ( رب نجني وأهلي مما يعملون ) (الشعراء:169) .

- ويقول تعالى: ( ... رب انصرني على القوم المفسدين ) (العنكبوت:30) .

فكل هـذه الأدعية تدور حول دلالات الخوف من الله والخشية من عذابه، وتطلب شمولية الجزاء الحسن في الدنيا والآخرة. [ ص: 93 ]

المحور الخامس: دلالات الشكر

من أبرز الصفات التي يجب على المؤمن أن يتصف بها أن يكون عبدا شكورا, حامدا الله على نعمه التي لا تعد ولا تحصى. وللشكر دلالات متعددة أهمها الحمد والثناء والرضى. ( وفي حديث لأبي هـريرة ، رضي الله عنه ، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد أقطع ) [11] ولذلك كان صلى الله عليه وسلم لا ينفك يشكر ربه آناء الليل والنهار, ففيما ( يروي ابن عمر ، رضي الله عنهما ، عن أمنا عائشة ، رضي الله عنها ، وهي تصف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وتبكي: «كل أمره كان عجبا، أتاني في ليلتي حتى مس جلده جلدي ثم قال: «ذريني أتعبد لربي»، قالت: فقلت: والله إني لأحب قربك، وإني أحب أن تعبد لربك، فقام إلى القربة فتوضأ ولم يكثر صب الماء، ثم قام يصلي فبكى حتى بل لحيته، ثم سجد فبكى حتى بل الأرض، ثم اضطجع على جنبه فبكى، حتى إذا أتى بلال يؤذنه بصلاة الصبح، قالت: فقال: يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله ذنبك ما تقدم وما تأخر؟ فقال: «ويحك يا بلال! وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل علي في هـذه الليلة: ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ) (آل عمران:190) »، ثـم قـال: ويل لمن [ ص: 94 ] قرأها ولـم يتفـكر فيها ) وفي رواية أخرى: ( يا بلال ! أفلا أكون عبدا شكورا؟ ) [12] .

ورغم أن الأدعية الواردة في القرآن الكريم في مجال الشكر ليست كثيرة, فإن كل الأدعية التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تخلو من حمد الله والثناء عليه وشكره على نعمه، المادية والمعنوية.

ومن هـذه الأدعية التي جاءت في القرآن الكريم في دلالات الشكر والحمد:

- يقول تعالى على لسـان امرأة عمـران بعد أن رزقها الحمل: ( ... رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم ) (آل عمران:35) .

- ويقول تعالى على لسان يوسف ، عليه السلام ، يشكره سبحانه على نعمه: ( رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين ) (يوسف:101) .

- ويقول تعالى على لسان سليمان ، عليه السلام : ( ... رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ) (النمل:19) . [ ص: 95 ] - ويقول تعالى على لسان موسى ، عليه السلام : ( ... رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ) (القصص:24) .

- ويقول تعالى على لسان سليمان ، عليه السلام : ( ... رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب ) (ص:35) .

- ويقول أيضا: ( ... رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين ) (الأحقاف:15)

إن المتأمـل في المحاور الخمسـة يجد أن الأدعية تحمل في طياتها بعض الدلالات التي ذكرناها, وتتداخل فيها معانيها من مثل قوله تعالى: ( ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هـديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ) (آل عمران:8) ,

فرغم انتمـائها إلى محور دلالات طلب الصبر والتثبيت إلا أننا نلمس, سواء من خلال السياق أو المعجم, دلالات الهداية والرحمة والعطاء, وهكذا في باقي الأدعية.

لكن المعنى العام الذي يجمع بين هـذه الأدعية, وينسج لحمتـها هـو الافتـقار المطـلق لله تعـالى،

يقول عز شأنه: ( يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هـو الغني الحميد ) (فـاطر:15) ، [ ص: 96 ] وقـد عرف ابن القيم الفقر بقوله [13] : «الفقر الحقيقي: دوام الافتقار إلى الله في كل حال، وأن يشهد العبد في كل ذرة مـن ذراتـه الظـاهرة والباطنـة فاقة تامة إلى الله -تعالى- من كل وجه» .

وهذا هـو المطلوب في الدعاء, استـحضار معناه العـام الدال على الافتقار إلى الله تعالى, وتجرد قلب العبد من كل أهواء الدنيا ومغرياتـها, وإقبـاله بالكلية على المولى عز وجل , متذللا بين يديه، مستسـلما لأوامـره ونواهيه، متعـلقا بمحبته وخشيـته وطاعته,

يقول تعالى: ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ) (الأنعام:162-163) .

والدعاء ليس مختصا بالمسلمين فقط، وإنما كل الناس يلجأون إلى من يؤمنون به، يدعونه ويتضرعون إليه، لكن الله تعالى يقول عن الذين ينحرفون عن دعائه:

( وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ) (غافر:50) . [ ص: 97 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية