الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الدعاء (سبيل الحياة الطيبة)

الدكتورة / سعاد الناصر

2- النصوص الحديثية

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم «خير من حقق في نفسه, وفي الذين من حوله حياة الإنسان الكامل» [1] ، ولذلك كان في دعائه، كما في كل أعماله [ ص: 124 ] وعباداته، مثالا للافتقار إلى الله، والامتثال والاستسلام له عز وجل ، ولطلب التوبـة والمغفرة والعون منه. وتتوفر نصوص دعـائه على جملة من الصفات والخصـائص الجمـالية والإبداعية التي لا يمكن أن تتوفر لغيره ( [2] ، يمكن التعرض لقطرات من فيض بيانها، وتكامل معانيها وألفاظها. وقـد اختصر صلى الله عليه وسلم لجمـالية نصوصه صفـة ضمنها حديثه، فيما رواه سعيد بن المسيب عن أبي هـريرة ، رضي الله عنه ، أنه قال: ( بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب، فبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي ) [3] .

ورغم أن عددا من العلماء ذهبوا إلى اعتبار معنى «جوامع الكلم» هـو القرآن، إلا أنه أيضا صفة بارزة من صفات حديثه صلى الله عليه وسلم ، فقد «مكن من الألفاظ المختصرة التي تدل على المعاني الغزيرة, ومن ينعم النظر في كلامه صلى الله عليه وسلم يجد جل كلماته جارية هـذا المجرى» [4] ، الأمر الذي يدل على [ ص: 125 ] إعجابه بجوامع الكلم، واختياره على غيره من الذكر [5] ، كما كان يعجبه من الدعاء جوامعه، ( فعن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحب الجوامع من الدعاء ويدع ما سوى ذلك ) [6] ؛ ( وعن عائشة ، رضي الله عنها ، أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: عليك بالكوامل... قولي: اللهم إني أسألك من الخير كله، عاجله وآجله، ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله، عاجله وآجله، ما علمت منه وما لم أعلم، وأسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قـول أو عمـل، وأسألك من الخير ما سألك عبدك ورسولك محمد صلى الله عليه وسلم ، وأستعيذك مما استعاذك منه عبدك ورسولك محمد، وأسألك ما قضيت لي من أمر أن تجعل عاقبته رشدا ) [7] .

ومن نماذج جوامع كلمه في الدعاء ( قوله صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أسألك رحمة من عندك تهدي بها قلبي، وتجمع بها أمري، وتلم بها شعثي، وتصلح بها غائبي، وترفع بها شاهدي، وتزكي بها عملي، وتلهمني بها [ ص: 126 ] رشدي، وترد بها ألفتي وتعصمني بها من كل سوء ) [8] . فطلب الرحمة هـنا يأتي بجمل قصيرة مركزة، ليشمل كل مناحي الحياة الروحية والمادية في صور واقعية ومجازية، بسيطة وعميقة، تتردد ملامحها في النفس، حينا بعد حين، مع كل فعل مضارع في الدعاء، وتؤكد اقتناع الداعي بسعة رحمة الله مع كل تكرار لـ «بها».

وللشيخ الغزالي رحمه الله لفتة لطيفة في سمة التكرار التي تنسحب على معظم دعائه صلى الله عليه وسلم يقول فيها: «إن ألفاظ اللغة حين تعجز عن ملاحقة هـذا الجيشان المنساب في كل دعوة تجعل الرسول المنيب المتعبد يلجأ إلى التكرار في العبارة الواحدة لينفس عما استكن في صدره من روعة ومحبة وإجلال. إنه في ظاهره ترداد للفظ واحد, وهو في باطنه تعبير عن معان متجددة من الولاء والهيام» [9] .

وبالإضافة إلى هـذه المعاني، نجد في تكراره استمتاعا وتعظيما، استمتاعا بترديد الحمد والتنعم بما يشعه من رضى وقناعة وطمأنينة، وتعظيما بتكرار اسم من أسماء الله الحسنى وما يشعه من درجات القرب والمعية والمصاحبة. وفي هـذا المجال نورد نموذجا رائعا تتكرر فيه ألفاظ معينة: ( اللهم لك الحمد، أنت نور السموات والأرض، ولك الحمد [ ص: 127 ] أنت قيام السموات والأرض، ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن، أنت الحق، ووعدك الحق، وقولك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وأخرت وأسررت وأعلنت، أنت إلهي لا إله إلا أنت ) [10] .

ولا شك أن قراءة هـذا الدعاء في ساعات الليل البهيم تحمل معاني كثيرة، فالسماء تظهر في الليل بكل عظمتها وبهائها، والنجوم تومض بهدوء وبكل جمال، وتنساب المعاني إلى القلب، الحي الذاكر، وتدخل الأرض في تناغم مع السماء في هـذه الساعات، ويرتفع الحمد لله تعالى الذي خلق هـذه السموات والأرض؛ ارتباط في جوف الليل بالله عز وجل خالق الكون يسكب السكينة في أعماق الداعي، ويضفي ملامح الجمال والجلال في كل ما يحيط به.

وفي دعاء ينضح بالجمال والروعة يقول صلى الله عليه وسلم يعرض استسلامه وتسليم كل أمره لله تعالى قبل نومه: ( اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك [ ص: 128 ] الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت ) [11] . حروف تبـرز تناسـبها لبعضها تناسبا طبيعيا في الهمس والجهر والشدة واللين والتفخيم والترقيق مما يشكل أنغاما متناسقة متناسبة لطبيعة الاستسلام لله، كما أن الكلمات ونظمها والتـئامها مع بعضها بعضـا له الأثر الـكبير في نفس الداعي، بما تحتويه من تفريغ لشحنات التعب والحزن ومختلف الهموم والمشكلات التي تراكمت طيلة اليوم، وتبعث على الطمأنينة والسلام، وتلجئ إلى التوكل على الله تعالى في كل أمر من الأمور.

وترديد هـذا الدعاء كل ليلة يكشف عن وعيه أن إغماضة عينيه عن الدنيا قد تكون الإغماضة الأخيرة، لذا يجب ألا يتمدد على فراشه غافلا، بل مدركا واعيا باستسلامه لله تعالى. وما أن يقوم من النوم حتى يجدد استسلامه لله مرة أخرى، وبذلك يبدأ صلى الله عليه وسلم يوما آخر من حياته بهذا الاستسلام العميق لله تعالى وتفويض شأنه إليه: ( الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور ) [12] . ويقول صلى الله عليه وسلم : ( أصبحنا وأصبح الملك لله رب العالمين، اللهم إني أسألك خير هـذا اليوم، فتحه، ونصره، ونوره، وبركته، وهداه، وأعوذ بك من شر ما فيه وشر ما بعده ) [13] . [ ص: 129 ] أدعية مدركة لابتلاءات الحياة وهمومها يزيدها التناسق والتناغم روعة وجمالا وتأثيرا.

( وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين ويقول: ... أعوذ بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة ) [14] ، والدعـاء جـاء في جمل قصيرة مركزة جامعة للتعوذ من الشر المتمثل في مختلف المخلوقات المؤذية، مزاوجة بين كلماتها الأخيرة في الوزن والسجع والتجنيس.

وينحو هـذا الدعاء المعنى نفسه، فعن أبي هـريرة ، رضي الله عنه ، ( أن رسول الله كان يقول في سجوده: اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله، وأوله وآخره، وعلانيته وسره ) [15] هـنا بلاغة البديع من سجع وتجنيس وطباق بين كله ودقه وجله وبين آخره وسره، وطباق بين علانيته وسره ما يتضافر مع الصور الأدبية، ويضفي على الدعاء جمالية دلالية ولفظية وصوتية ما يفصح عن رغبته صلى الله عليه وسلم في تطهير النفس من كل ما يعلق بها من ذنب، كيفما كان حجمه أو طبيعته أو توقيته.

ويدعونا الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى تلمس الجمال حتى في أحلك الأوقات، التي قد نعيشها في حياتنا اليومية مع الابتلاءات والمصائب والأحزان، وذلك [ ص: 130 ] من خلال الارتقاء بالنفس وجعلها تسعى لتذويب هـمومها ومشكلاتها بالانغماس في الجمال وتشربه، عبر الشعور بمعية الله وقربه، والإحساس بأن كل ما نعيشه هـو دعوة مفتوحة للبحث عن ذنوبنا والاستغفار منها، أو هـو رفع مستمر للدرجات، وتوفير فضاءات أكثر جمالا وروعة في جنات النعيم, استمع إليه صلى الله عليه وسلم في هـديه للمسلمين لكل هـذا في مثل قوله: ( ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: ( إنا لله وإنا إليه راجعون ) ، اللهم أجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيرا منها، إلا أخلف الله له خيرا منها ) [16] .

( وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى ما يحب قال: «الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات» .. وإذا رأى ما يكره قال: «الحمد لله على كل حال ) [17] . وهذا تحويل للنعمة أو المصيبة إلى عبادة مفعمة بالإحساس الجمالي. [ ص: 131 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية