1- النصوص القرآنية
يختص القرآن الكريم بصفات جمالية وبلاغية معجزة متنوعة في جميع آياته وسورة [1] ، من مثل الجمع والإيجاز والتناسق وغير ذلك مما لا يعد حصره.. ونصوص الدعاء من الآيات القرآنية، التي يمكن استنباط بعض هـذه الصفات منها، ورصد بعض سماتها في نماذج تمثلها، وتقوم شاهدة عليها كثيرة، من ذلك هـذه النماذج:
- ( اهدنا الصراط المستقيم ) ، هـذا الدعاء يتردد في حياة المسلم، في يومه ونهاره، حيث لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب المتضمنة له، فبعد الإقرار بالانقطاع المطلق لله جل وعلا بقول: ( إياك نعبد وإياك نستعين ) ، يأتي الدعاء بطلب الهداية في جملة واحدة قصيرة، تثير ملامح الجمال بتركيبها الجامع الموجز. وهي جملة فعلية تفيد عدم الثبات والاستقرار؛ لأن الإنسان بطبعه مجبول على الخطأ والنسيان، والانحراف عن الطريق القويم وعدم الثبات عليه، من هـنا جاء طلب الهداية إلى الصراط المستقيم، لتنيبه القارئ الداعي إلى المزالق والأخطاء التي تحف طريقه، فيحاول الرجوع عنها وعدم الوقوع فيها, بتجدد الدعوة اليومية في كل صلاة ( اهدنا الصراط المستقيم ) . [ ص: 121 ] ونستطيع القول: بأن هـذا الدعاء يعبر عن أقصى درجات الإيجاز والاختصار التي يدل بها بالألفاظ القليلة عن المعاني الكثيرة، ويمثل مجموعة كبيرة من الأدعية القرآنية في مثل قوله تعالى: ( ... ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين ) (الأعراف:126) ،
فجملة ( أفرغ علينا صبرا ) من العبارات الموجزة البليغة التي تختصر كلاما كثيرا في مجالات الصبر المتعددة، وتدل على المبالغة في طلبه، كما تشير إلى صورة جمالية فيها استعارة تمزج اللفظ بالكثير من المعاني.
- يقول تعالى في دعاء جامع: ( ... ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ) (البقرة:286) .
وفي شرح الآية قال الطبراني وابن حبان ، عن عطاء عن عبيد بن عمير عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) [2] فقال الله جل ثناؤه: ( ... هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ... ) (الحج:78) ،
وقال: ( ... يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ... ) (البقرة:185) ،
وقال: ( فاتقوا الله ما [ ص: 122 ] استطعتم ... ) (التغابن:16) . وهذا مجال واسع من مجالات التيسير في الدين فيه من الفوائد الكثيرة والصور البديعة ما يجعله يصل إلى النفس، ويمنحها الأمن والاطمئنان. ويدخل في هـذا الباب أدعية أخرى جامعة تحمل على المجاز والاستعارة، وتقدم صورا جمالية تتمـكن من النفس وتتغلغل فيها، لما تشعه من مقاصد دلالية عميقة الإبلاغ والتأثير والإثارة،
كما في قوله تعالى: ( ... رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي ) (طه:25-28) .
ومن الأدعية الجامعة التي تمثل ما ينطوي عليه الدعاء القرآني من أسلوب في منتهى الجمال والبهاء، وما يحتويه من بلاغة لفظية وصوتية تتناغم في النفس الإنسانية، وتعبر عن قيمها، وما يعتريها من أحوال وتحولات،
قوله تعالى: ( ... ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) (البقرة:201) .
ولا يخفى ما في الآية من تجانس تام بين حسنة الدنيا وحسنة الآخرة، ومن مطابقة وتقابل بين الدنيا والآخرة تترك في نفس الداعي أثرا بليغا، وتثير لديه حافزا لبلوغ دلالات ومقاصد هـذه الحسنة.
وأمثلة ذلك كثيرة، منها التجانس المختلف في الوزن والتركيب الذي يضفي على الدعاء أنواعا من اللطف والجمال تتردد في النفس في مثل قوله تعالى:
( ... رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين ) (المؤمنون:29) ، وقوله [ ص: 123 ] عز وجل في دعاء ينضح بالتفاؤل والابتهال والتضرع, وتنساب عباراته المركزة انسيابا عميقا في النفس: ( ... ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين ) (المؤمنون:109) .
فبالإضافة إلى التجانس غير التام بين ( وارحمنا ) و ( الراحمين ) توافقت الفواصل وتوحدت في حرف نون الجماعة الممتد في الزمن، لاكتساب دلالات الوحدة والانتماء للجماعة، وترددت لتستقر في النفس، وتؤثر فيها.
ونختم هـذه الجملة من النماذج بهذا الدعاء الجامع الذي يختصر العلاقة بين الله تعالى وعبده، علاقة التوبة والاستغفار والافتقار والرجاء والرحمة، في قوله تعالى على لسانيونس ، عليه السلام : ( ... لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) (الأنبياء:87) .
وكثيرة هـي الأدعية القرآنية، التي تجمع بين عمق المعاني وجلالها ورونق بيانها ودقته وبين انتظام ألفاظها وأصواتها وتناسقها الدالة على المعاني الواسعة والمتنوعة.