المبحث الأول
الحيل والفرق بينها وبين المخارج والمعاريض
المطلب الأول: تعريف الحيل
- الحيل لغة
اسـم من الاحتيال، وهو من الواو، وكذلك الحـيل والحول، ويقال: لا حيل ولا قوة إلا بالله لغة في لا حول ولا قوة. والحول والحيل والحول والحيلة والحويل والمحالة والاحتيال والتحول والتحيل، كل ذلك الحذق وجودة النظر والقدرة على التصرف. والحيلة من الحول ولكن قلب واوه لانكسار ما قبله [1] .
وعليه فإطلاقات الحيل هـي:
1- تطلق الحيلة ويراد بها الحذق وجودة النظر والقدرة على التصرف، لأن فاعلها يتحول بها من حال إلى حال، وكل من حاول الوصول إلى أمر أو الخلاص منه فما يحاوله حيلة يتوصل بها إليه، وهي بهذا المعنى لا تشعر بمدح ولا ذم ولا تتقيد بخفاء أو ظهور وسيلتها أو غايتها. [ ص: 125 ] 2- تطلق ويراد بها الطرق الخفية، التي يتوصل بها إلى بلوغ المراد بحيث لا يفطن لها إلا بنوع من الذكاء.
3- تطلق الحيلة ويراد بها الطرق الخفية، التي يتوصل بها إلى الغرض المذموم شرعا أو عقلا أو عادة. وهو الإطلاق الغالب في عرف الناس.
4- تطلق الحيلة في عرف بعض الفقهاء والمحدثين على الحيلة المذمومة شرعا، وهي الطرق والوسائل الخفية التي تستحل بها المحارم وتسقط بها الواجبات، وكل ما تضمن إسقاط حق الله تعالى أو الآدمي.
5- تطلق أيضا في عرف بعض الفقـهاء على الحيل المشـروعة وهي ما اصطلح عليها بعضهم بالمخارج.
- الحيل اصطلاحا
لقد اختلف العلماء في الحيل بناء على اختلافهم في تعريفها، منهم من توسع فيها ومنهم من ضيق في ذلك، ومن هـذه التعاريف ما يلي: [2] :
عرفها السرخسي بقوله: «ما يتخلص به الرجل من الحرام، أو يتوصل به إلى الحلال من الحيل فهو حسن» [3] .. ثم بين المراد بالحيل غير المشروعة فقال: «وإنما يكره ذلك أن يحتال في حق الرجل حتى يبطله، أو في باطل [ ص: 126 ] حتى يموهه، أو في حق حتى يدخل فيه شبهة، فما كان على هـذا السبيل فهو مكروه، وما كان على السبيل الذي قلنا أولا فلا بأس به، لأن الله تعالى قال: ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) [4] .
وعرفها ابن تيمية ، بعد أن ذكر معناها اللغوي والعرفي، بقوله: «وصارت في عرف الفقهاء إذا أطلقت قصـد بها الحيل التي يستحل بها المحارم كحيل اليهود، وكل حيلة تضـمنت إسقاط حق الله أو الآدمي فهي تندرج فيما يسـتحل به المحارم» [5] .. كما عرفها أيضا بقوله: «الحيلة أن يقصد سـقوط الواجب أو حل الحرام بفعل لم يقصد من جعل ذلك الفعل له أو ما شـرع» [6] . ثم قام بشـرح هـذا التعريف وبين المراد منه بقوله: «فهو يريد تغيير الأحكام الشرعية بأسباب لم يقصد بها ما جعلت تلك الأسباب له، وهو يفعل تلك الأسباب لأجل ما هـو تابع لها لا لأجل ماهو المتبوع المقصود بها، بل بفعل السبب لما ينافي قصده من حكم السبب، فيصير بمنـزلة من طلب ثمرة الفعل الشرعي ونتيجته، وهو لم يأت بقوامه وحقيقته، فهذا خداع لله واستهزاء بآيات الله وتلاعب بحدود الله» [7] .
وعرفها ابن القيم بقوله: «ثم غلب عليها بالعرف استعمالها في سلوك الطرق الخفية التي يتوصل بها الرجل إلى حصول غرض حيث لا يتفطن لها إلا بنوع من الذكاء والفطن، وهذا أخص من موضوعها في أصل اللغة، وسواء كان المقصود أمرا جائزا أو محرما» [8] . [ ص: 127 ] وعرفها القرطبي عند ما تناول تفسير قوله تعالى: ( لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ) (النساء: 98) بقوله: «الحيلة لفظ عام لأنواع أسباب التخلص» [9] .
وعرفها ابن قدامة بقوله: «والحيل كلها محرمة غير جائزة في شيء من الدين، وهو أن يظهر عقدا مباحا يريد به محرما، مخادعة وتوسـلا إلى فعل ما حرم الله، واستباحة محظوراته، أو إسقاط واجب، أو دفع حق ونحو ذلك» [10] . كما عرفها ابن حجر بقوله: «الحيلة ما يتوصل به إلى مقصود بطريق خفي» [11] .
وعرفها الحموي بقوله: «كل حيلة يحتال بها الرجل ليتخلص بها عن الحرام أو ليتوصل بها إلى حلال فهي حسنة » [12] .
أما الشاطبي فعرفها بقوله: «التحيل قلب الأحكام الثابتة شرعا إلى أحكام أخر بفعل صحيح الظاهر لغو في الباطن، كانت الأحكام من خطاب التكليف أو من خطاب الوضع» [13] .. [ ص: 128 ] وقال أيضا: «تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شـرعي وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر» [14] ، وقال هـي: «ما هـدم أصلا شرعيا وناقض مصلحة شرعية، فإن فرضنا أن الحيلة لا تهدم أصلا شرعيا ولا تناقض مصلحة شرعية شهد الشرع باعتبارها فغير داخلة في النهي ولا هـي باطلة»[15] .
كما عرفها ابن عاشور بقوله: «اسم التحيل يفيد معنى إبراز عمل ممنوع شرعا في صورة عمل جائز، أو إبراز عمل غير معتد شرعا في صورة عمل معتد به لقصد تفصيلي من مؤاخذته، فالتحيل شرعا هـو ما كان المنع فيه شرعيا والمانع الشارع» [16] .
ثم أورد بعد ذلك توضيحا بين فيه أن الحيل المشروعة، التي هـي سعي إلى عمل مأذون في صورة غير صورته، أو بإيجاد وسائله ليست تحيلا بل هـي تدبير أو حرص أو ورع [17] . فكأن ابن عاشور لا يرتضي تسمية هـذه الطرق والوسائل بالحيل، لأنها مشروعة، وكأن لفظ الحيل عنده يخص الحيل الممنوعة وغير المشروعة. [ ص: 129 ] من خلال هـذه المجموعة من التعاريف يمكن ملاحظة مايلي:
أصحاب هـذه التعاريف يمكن تصنيفهم إلى ثلاثة أقسام: قسم تناول الحيل بالمعنى العام المرادف للمعنى اللغوي وهو أن الحيل مطلق الوسائل، بحيث تكون مرة عبارة عن الوسائل الجائزة المؤدية إلى الجائز، ومرة الوسائل المحظورة المؤدية إلى محظور، ومرة الوسائل المحظورة المؤدية إلى جائز، وأخيرا الوسائل الجائزة المؤدية إلى محظور. فالأنواع الثلاثة الأولى متفق عليها بين العلماء، أما النوع الرابع وهو ما وقع فيه الخلاف بينهم بين مجوز ومانع، وهي الوسـيلة الجـائزة المؤدية إلى محظور. فبالتالي الحيل عندهم هـي كل ما يتوصل به إلى مقصود بطريق خفي سـواء كانت هـذه الوسـيلة شرعية أو غير شرعية، وسواء كان المتوسل إليه أو المقصود شرعيا أو غير شرعي، هـذا ما ذهب إليه ابن القيم والقرطبي وابن حجر .
والقسم الثاني تناول الحيل بالمعنى الخاص وهي الحيل الممنوعة التي تؤدي إلى هـدم مقصد شرعي وقلب حكم شرعي، كما ذهب إليه ابن تيمية والشاطبي وابن عاشور .
وقسم ثالث اعتبر الحيل تصرفا مشروعا، وجائزا، لأنها طريق للتخلص من الحرام أو الوصول إلى الحلال وقالوا عنها: إنها حسنة، كما ذهب إلى ذلك السـرخسي والحموي ، إلا أنهم لم يضعوا ضوابط للوسـائل التي تتخذ للتخلص من الحرام أو التوصـل إلى الحلال، وهذا ما جعل بعض العلماء يردها مطلقا كابن تيمية ؛ لأن الوسـيلة إذا كانت غير مشروعة [ ص: 130 ] والقصد غير مشروع والمآل فيه قلب للأحكام فهذا يجعل هـذا الفعل لغوا وباطلا، أما لو وضعت ضوابط واضحة ككون الوسيلة مشروعة، والقصد مشروع والمآل فيه تحقيق مصلحة راجحة، لما اختلف في ذلك، لذلك قال البوطي : «واعلم أن مصدر الشبهة في القول بالحيلة هـو عدم تحرير المقصود بالحيل الشرعية من جهة، وعدم تحرير معنى صحتها من جهة أخرى» [18] .
الحيلة في اصطلاح الفقهاء أخص من تعريفها اللغوي، بحيث خصت بنوع من الحيلة التي تؤدي إلى تحقيق غرض غير مشروع، وعليه فقد لجأ بعض الفقهاء إلى إطلاق مصطلح آخر على الحيل التي تؤدي إلى تحقيق ما هـو مشروع وهو «المخرج»، بمعنى المخرج من الضيق والحرج، وكان أول من استعمل هـذا المصطلح الإمام أبو الحسن الشيباني، فسمى كتابه «المخارج من الحيل»، والذين اختاروا هـذا المصطلح «المخارج» جعلوه من باب الرخصة، ودافعوا عنه حيث قالوا: إنما هـو استعمال للذكاء وجودة الفهم في فهم دين الله لإخراج من وقع في بلية وضيق بوجه مشروع [19] .
والوسيلة في الحيل تكون مشروعة، أما إذا تم التوسل بوسيلة غير مشروعة لتحقيق غرض غير مشروع فلا يعد هـذا الفعل من التحيل، وإنما هـو صريح في معاندته للشارع من جهتين ظاهرا وباطنا؛ من جهة اتخاذ الفعل [ ص: 131 ] غير المشروع، ومن جهة مخالفة الشارع فيما قصد [20] . وهذا الفعل أولى بالمنع لحرمة الوسيلة والغاية.
التحيل بمعناه الأصولي الذي يقع باطلا لا يتحقق إلا إذا كانت الوسيلة مشروعة والقصد غير مشروع لتحقيق غرض غير مشروع وهو ما لم يقرره الشارع. فبالتالي تتعارض فيه مصلحة الأصل مع مفسدة المآل، فلم تعتبر الأولى واعتبرت الثانية، فكان حكم التذرع بالتحيل منعا ترجيحا لمفسدة المآل التي تهدم مقاصد الشريعة على مصلحة الأصل التي توخاها المتحيل [21] .
الباعث أو القصد في الحيل يكون غير مشروع ولو كانت الوسيلة المعتمد عليها مشـروعة، كما أن المآل غير مشروع وهو قلب الأحكام وتهديم مقاصد الشرع. أما إذا كان القصد والباعث حسنا، بمعنى أن المكلف لا يقصد به تغيير الحكم فلا يعد حيلة.
الذين تناولوا الحيلة بالمعنى العام، الذي يقارب معناها اللغوي، كأنهم أرادوا بيان المعنى الحقيقي للحيلة قبل أن يصير لها معنى آخر في عرف الفقهاء، وأنه ما يتوصل به إلى مقصـود بطريق خفي سواء كان حسـنا أو سيئا، ثم الملاحظ في تعاريف هـؤلاء أن أكثرهم يردفها بالمعنى الذي [ ص: 132 ] صارت إليه الحيلة وهو ما عرفها به الفقهاء من كونها سلوك الطرق الخفية لإسقاط واجب أو حل حرام.
أما الذين تناولوها بالمعنى الخاص فيبدو أن غرضهم من ذلك هـو بيان حدود هـذه الحيل وضوابطها وتمييزها عن الحيل المشروعة أو ما اصطلح عليها بعض الفقهاء بالمخارج، وذلك لكي لا يقع اللبس بينها وبين غيرها، وبالتالي تكون صورتها واضحة.
والخلاصة أن الحيلة معتبرة بالأمر المحتال بها عليه إطلاقا ومنعا، مصلحة ومفسدة، طاعة ومعصية. فإن كان المقصود أمرا حسنا كانت الحيلة حسنة، وإن كان قبيحا كانت الحيلة قبيحة، وإن كان طاعة وقربة كانت الحيلة عليه كذلك، وإن كانت معصية وفسوقا كانت الحيلة عليه كذلك [22] ، فالقصد بالحيلة إذا كان هـو التخلص من الحرام بقلب الحكم تحقيقا لمصلحة راجحة وكانت بوسائل مشروعة فهي حيلة مشروعة.