الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        المطلب الأول: أقسام الوسائل

        تقسم الوسائل إلى عدة تقسيمات، وفقا لاعتبارات مختلفة، من ذلك:

        1- من حيث قدرة المكلف عليها وعدمها

        أ- وسائل في مقدور المكلف

        والمقصود بها الوسائل التي تكون من وضع الشارع أو من وضع المكلف لكن تدخل تحت قدرته، ورتب الشارع عليها حكما من الأحكام، وقال عنها صـاحب ميزان الوصـول: «وهو ما يكون وسيلة وطريقا إلى تحصيل الفعل، وفي وسع المكلف تحصيله» [1] . فالسرقة مثلا جعلها الشارع وسيلة لقطع يد السارق، وهي من فعل المكلف، كما أن الوضوء جعله الشارع وسيلة لصحة الصلاة، وهو في مقدور المكلف، وكذا البيوع وجميع العقود والأسباب جعلها الشارع أسبابا ووسائل لتحقيق المقاصد، وهي كلها تحت مقدور المكلف.

        ب- وسائل ليست في مقدور المكلف

        وهي «ما ليس في وسع المكلف تحصيله والعمل بإطلاقه نحو الطريقة والوسيلة والقدرة من حيث الأسباب كسلامة الجوارح وسلامة العقل في العبادات» [2] ، ويمثل هـذا القسم كل الأسباب التي جعلها الشارع أمارة على وجود الحكم، مثل كون دخول [ ص: 72 ] الوقت سببا في وجوب الصلاة، وكون الاضطرار سببا لإباحة الميتة، وكون الموت سببا للميراث، فكل هـذه الأسباب، التي في حقيقتها وسائل شرعية، أي من وضع الشارع، ليست في مقدور المكلف.

        2- من حيث الثبات والتغير

        أ- وسائل ثابتة

        وهي الوسائل التي لا تخضع للتغير بسبب تغير ظروف الزمان المكان والأشخاص والأحوال، ولا يدخلها الاجتهاد، وإنما تحقق المقاصد لا يكون إلا بهذه الوسائل، وغالبا ما تكون موقوفة فتكون منصوصا عليها في القرآن أو في السنة، والمصلحة في الالتزام بهذه الوسائل ثابتة، وتفضي يقينا إلى المقصـد المرجو، بحيث إذا انخرمت أو اختلت هـذه الوسـائل ينخرم ويختل معها المقصـد، وهذا النوع من الوسـائل كثـيرا ما يتضمنه خطاب الشارع وتعاليمه، ويتناول هـذا القسم الأحكام الوضعية من أسباب وشروط وانتفاء الموانع، في مختلف العبادات خاصة، وتفاصيلها وكيفياتها التي تعد وسائل لإقامتها على الوجه المشـروع، وفي أصول الفضائل والأخلاق وقواعد الاعتقاد وغيرها، فكلها تعد وسـائل ثابتة لتحصيل مقاصدها [3] .

        ب- وسائل متغيرة (اجتهادية)

        وهي الوسائل التي تخضع لظروف الزمان والمكان، وتختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، ويتضمن هـذا [ ص: 73 ] القسم كل الوسائل الاجتهادية التي لم يرد فيها نص، وذلك في مختلف مجالات الشـريعة الظنية، فهي الوسائل: «التي تتعين طرقا إلى مقاصدها بطريق الاجتهاد المضبوط حسـب تغيرات الأوضاع، وطروء المستجدات، وطبيعة النصـوص، وملكة الفقيه والأحوال، ويكون دور المجتهد متمثلا في تحديد الوسـائل إلى المقاصـد، أو في تحديد أحسن الوسـائل إذا تعددت وتداخلت» [4] .

        ويقول الشيخ القرضاوي : «إن من أسباب الخلط والزلل في فهم السنة: أن بعض الناس خلطوا بين المقاصد والأهداف الثابتة التي تسعى السنة إلى تحقيقها، وبين الوسائل الآنية والبيئية التي تعينها أحيانا للوصول إلى الهدف المنشود، فتراهم يركزون كل التركيز على هـذه الوسائل، كأنها مقصودة لذاتها، مع أن الذي يتعمق في فهم السـنة وأسـرارها، يتبين له أن المهم هـو الهدف، وهو الثابت الدائم، والوسـائل قد تتغير بتغير البيـئة أو العصـر أو العرف أو غير ذلك من المؤثرات» [5] .

        فالوسيلة إذا فقدت قيمتها ووظيفتها، أو تيسرت وسيلة أخرى أفضل منها وأكثر تحقيقا للمقصود، كانت هـي المطلوبة، فمثلا الوسائل والصيغ التنظيمية، التي اتبعت في الزمن الأول للإسلام من أجل تنظيم الشورى [ ص: 74 ] واختيار رئيس الدولة، إنما هـي إجراءات وسيلية صرفة، مقصودها إقامة شورى حقيقية تجمع أفضل أهل العلم والرأي وأكفأ أهل الحل والعقد وأكثر الناس ثقة ومصداقية لدى عموم الأمة.

        ولا شك أن ما جرى به العمل يومئذ كان ملائما وكافيا، أما إذا جئنا إلى زماننا فوجدناه يتيح لنا تنظيم هـذه الوسائل وتنفيذ هـذه التدابير التوسلية الصرفة، في تنظيم الشورى واختيار أهلها، فلا شك في أن الأخذ بوسائل العصر وإقرار أحكامها وإحلالها محل ما جرى به العمل في الصدر الأول، عمل مشروع وتغيير غير ممنوع؛ لأن ما غيرناه لم يكن تعبدا، ولم يكن مقصودا وليس هـو مصلحة في ذاته، إنما مصلحته فيما يفضي إليه [6] .

        وعليه، فالوسائل المتغيرة هـي الوسائل المتوصل إليها عن طريق الاجتهاد، فكل المستجدات والوقائع التي يراد إيجاد أحكام لها من قبل المجتهد، فلابد له في أثناء البحث عن أحكامها أن ينظر في الوسائل المؤدية والمحققة لهذه الأحكام، أهي طرق معتبرة شرعا ويمكن اعتبارها وسائل شرعية، أو أنها وسائل محظورة أو لا بد من الحكم عليها بالحظر بناء على أنها مخالفة لمقاصد الشـرع، فينظر فيها المجتهد كما ينظر في استنباط الأحكام، أو في تنـزيلها، إذ إن هـذا الأخير -أي تنـزيل الأحكام- لابد من النظر في الوسـائل المحققة لهذه الأحكام ليصـلح تطبيقها، وبذلك تصـير [ ص: 75 ] الوسـائل المتغيرة أو الاجتهادية «موطنا رحبا لإعمال العقل والنظر، بحيث يختار منها أنجع المسالك وأقرب الطرائق، وأحسن الكيفيات إلى تحصيل المنافع والمصالح، ودرء المفاسد والمضار وفق مقصود الشارع ومراده، لأن الوسائل قد شرعت لأن بها تحصيل أحكام أخرى، فينبغي حينئذ لزوم خدمتها للمقاصد وتدعيمها لها» [7] .

        كما بين الشيخ القرضاوي أن الوسائل الاجتهادية قد لا تتعلق بالسنة فقط بل بالقرآن ذاته لو نص على وسيلة مناسبة لمكان معين وزمان معين «فلا يعني ذلك أن نقف عندها، ولا نفكر في غيرها من الوسائل المتطورة بتطور الزمان والمكان..

        ألم يقل القرآن: ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم ... ) (الأنفال:60) ،

        ومع هـذا لم يفهم أحد أن المرابطـة في وجـه الأعـداء لا تكون إلا بالخيل التي نص القرآن عليها، بل فهم كل من له عقل يعرف اللغة والشـرع: أن خيل العصـر هـي الدبابات والمدرعات ونحوها من أسلحة العصر» [8] .

        ولذلك فمن الوسائل ماهو توقيفي ولا اجتهاد فيه، كالأسباب والشروط التي وضعها الشارع، ومنها ماهو اجتهادي يختلف باختلاف الزمان والمكان والظروف والأشخاص. [ ص: 76 ]

        3- بحسب موقف العلماء منها، جوازا ومنعا:

        وهي ثلاثة أقسام [9] :

        أ- وسائل أجمعت الأمة على منعها كمن يسب الأصنام عند من يعلم من حاله أنه يسب الله تعالى عند سبها، أو كسب الرجل أبا الرجل فيسب الرجل أباه، وكمنع قبول شهادة الخصم خشية شهادة الباطل وغيرها، حيث وردت نصوص على منعها.

        ب- وسائل أجمعت الأمة على عدم منعها فحكمها الجواز، كالمنع من زراعة العنب خشية أن تستعمل للخمر، والمنع من التجاور في البيوت خشية الزنا وغيرها.

        ج- وسائل اختلف العلماء حولها، بين الجواز والمنع، ومثلوا لها ببيوع الآجال التي منعها مالك وأحمد للتهمة، وأجازها الشافعي بالنظر إلى صورة البيع الظاهر، وكالحكم بعلم القاضي هـل يمنع لأنه وسيلة للقضاء بالباطل من قضاة السوء سدا للذريعة أو لا يمنع. [ ص: 77 ]

        4- بحسب ما تفضي إليه من مفسدة:

        وهي أربعة أقسام [10] أ- أن يكون وضعه للإفضاء إلى مفسدة، كشرب الخمر المفضي إلى مفسدة السكر، والقذف المفضي إلى مفسدة الفرية، والزنا المفضي إلى مفسدة اختلاط المياه وفساد الفراش، فالمنع في هـذا القسم كراهة وتحريما بحسب درجاته في المفسدة.

        ب- أن يكون الأمر مباحا، ولكن قصد به التوسل إلى المفسدة.

        ج- وسيلة موضوعة للمباح لم يقصد بها التوسل إلى المفسدة ولكنها مفضية إليها غالبا ومفسدتها أرجح من مصلحتها، مثل تزين المتوفى عنها زوجها في زمن عدتها، وكذا سب آلهة المشركين بين ظهرانيهم.

        د- وسيلة موضوعة للمباح وقد تفضي إلى المفسدة ومصلحتها أرجح من مفسدتها.

        وقد ذكر ابن القيم أن القسمين الثاني والثالث هـما محل نظر في الشريعة في إباحتهما والمنع منهما، وصرح أن حكمهما هـو المنع، واعتمد في ذلك على استقراء نصوص الشريعة. [ ص: 78 ]

        5- بحسب مآل الوسائل وما يترتب عليها من ضرر ومفسدة

        ويمكن جعلها أربعة أقسام [11] أ- فعل مأذون فيه ولكن إفضاءه إلى المفسدة أمر قطعي، كمن حفر بئرا خلف باب الدار في الظلام بحيث يقع فيه الداخل لا بد، وشبه ذلك.. وهذا النوع من الذرائع ممنوع؛ لأن إتيان الفاعل لهذا النوع من الأعمال مع العلم بما يترتب عليه من ضرر مقطوع به.

        ب- فعل مأذون فيه، ولكن إفضاءه إلى المفسدة نادر، كمن حفر بئرا بموضع لا يؤدي غالبا إلى وقوع أحد فيه، فهذا النوع يبقى على أصل الإذن بمشروعيته، لأن المصلحة إذا كانت غالبة فلا اعتبار بالندرة في انخرامها، إذ لا توجد مصلحة خالصة من مفسدة على الجملة فالمعتبر شرعا هـو غلبة المصلحة لا ندرة المفسدة.

        ج- فعل مأذون فيه، ولكن أداءه إلى المفسدة كثير لا نادر، أي غالب، فيغلب على الظن إفضاؤه إلى المفسدة؛ كبيع السلاح لأهل الحرب، وبيع العنب إلى الخمار ونحوها، فهذا الظن الغالب يلحق بالعلم القطعي لأمور:

        - أن الظن في الأحكام العملية يجري مجرى العلم اليقيني.

        - الاحتياط يوجب الأخذ بغلبة الظن.

        - إجازة هـذا النوع فيها تعاون على الإثم والعدوان المنهي عنهما. [ ص: 79 ]

        د- فعل مأذون فيه، لكن أداءه إلى المفسـدة كثير لا غالبا، أي لم تبلغ الكثرة فيه حد غلبة الظن كبيـوع الآجال فإنها تؤدي إلى الربا كثيرا لا غالبا. إلا أن في هـذا القسم نظر:

        فإما أن ينظر إلى أصل الإذن بالبيع فيجوز، وهو ما ذهب إليه الإمام الشافعي والإمام أبو حنيفة ، وحجتهم في ذلك أن العلم أي اليقين والظن (غلبة الظن) بوقوع المفسـدة منتفيان، إذ ليس هـناك إلا احتمـال مجرد بين الوقوع وعدمه، ولا قرينة ترجح أحد الجانبيـن على الآخر، فلا يبنى المنع إلا على العلم أو غلبة الظن.

        وإما أن ينظـر إلى كثـرة المفسـدة وإن لم تكن غالبة فيحرم، وهذا ما ذهب إليه الإمام مالك والإمام أحمد ، سدا للذريعة وترجيحا لجانب المفسدة حيث إنهم نظروا إلى الواقع فوجدوا أن المفاسد المترتبة على الفعل كثيرة، وبالتالي فهي قرينة الوقوع فيجب الاحتياط لها من باب «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح» .

        كما أن بيوع الآجال تعارض أصلين فيها: أولهما هـو أن الفعل الأصل فيه الإذن، والثاني هـو صيانة الإنسان عن إيقاع الضرر بغيره، فيرجح الأصل الثاني لكثرة المفاسد فيكون المنع منها للزجر، فيخرج الفعل عن أصله الأول وهو الإذن إلى الأصل الثاني وهو المنع سدا لذرائع الفساد والشر فتمنع هـذه الوسائل. وقد استشهد المالكية بجملة من الأحاديث مفادها تحريم أمور كانت في الأصل مأذونا فيها؛ لأنها تؤدي في كثير من الأحيان إلى المفاسد، [ ص: 80 ] وإن لم تكن غالبة ولا متيقنة كتحريم الخلوة بالأجنبية، وسفر المرأة من غير ذي محرم، وبناء المساجد على المقابر حتى لا يعبد الموتى، والنهي عن البيع والسلف وغيرها [12] .

        6 - من حيث نوع المصلحة والمفسدة التي تؤدي إليها:

        أ- وسائل إلى مصلحة أو مفسدة عامة

        والمراد بها الوسائل التي تفضي إلى مصلحة أو مفسدة عامة، تعم كل أفراد المجتمع أو أغلبهم، وتنقسم إلى قسمين:

        - وسائل إلى مصلحة عامة وهي: وسيلة واجبة تؤدي قطعا إلى مصلحة عامة أو نادرا، أو كثيرا غالبا، أو كثيرا لا غالبا؛ ووسيلة مباحة تؤدي قطعا إلى مصلحة عامة أو نادرا، أو كثيرا غالبا، أو كثيرا لا غالبا.

        - وسائل إلى مفسدة عامة وهي: الوسيلة المباحة المؤدية قطعا إلى مفسدة عامة، أو كثيرا غالبا، أو كثيرا غير غالب، أو نادرا؛ والوسيلة المطلوبة المؤدية قطعا إلى مفسدة عامة، أو كثيرا غالبا، أو كثيرا لا غالبا، أو نادرا.

        ب- وسائل إلى مصلحة أو مفسدة خاصة

        وتنقسم إلى قسمين:

        - وسيلة إلى مصلحة خاصة وهي: وسيلة واجبة مؤدية قطعا إلى مصلحة خاصة، أو كثيرا غالبا، أو كثيرا لا غالبا، أو نادرا؛ ووسيلة مباحة مؤدية قطعا إلى مصلحة خاصة، أو كثيرا غالبا، أو كثيرا لا غالبا، أو نادرا. [ ص: 81 ]

        - وسيلة إلى مفسدة خاصة وهي: وسيلة مطلوبة مؤدية قطعا إلى مصلحة خاصة أو كثيرا غالبا، أو كثيرا لا غالبا، أو نادرا؛ ووسيلة مباحة مؤدية قطعا إلى مفسدة خاصة، أو كثيرا غالبا، أو كثيرا لا غالبا، أو نادرا.

        7- من حيث الحكم التكليفي والحكم عليها [13]

        أ- وسيلة واجبة

        وهي إما الوسيلة المنصوص عليها، التي لا يجوز تغييرها بغيرها، لأنها موقوفة بل الواجب العمل بها، وهي الوسيلة الوحيدة التي تفضي إلى المقصد، وقد تكون وسيلة اجتهادية غير منصوص عليها لكن المقصد لا يتحقق إلا بها، فتصير في حكم المنصوص عليها.

        ب- وسيلة مندوبة

        وهي كل وسيلة ليست واجبة لكنها موصلة إلى المقصد، لكن لا يتوقف وجود المقصد أو تحققه عليها، وإنما يستحب اتخاذ هـذه الوسيلة، طالما أن صاحبها سيؤجر على ذلك ولا يعاقب على ترك هـذه الوسيلة، وتتصور هـذه الحالة عندما تكون هـناك أكثر من وسيلة وكلها مفضية إلى المقصد وبعض هـذه الوسائل مندوب وبعضها مباح، فيكون الأولى الاعتماد على الوسيلة المندوبة لأن فاعلها مأجور على عكس الوسيلة المباحة، فصاحبها لا يؤجر على فعلها ولا يعاقب على تركها إلا إذا صار المقصد متوقف عليها، فعندها تأخذ حكما غير حكم الإباحة. [ ص: 82 ]

        ج- وسيلة مباحة

        وهي كل وسيلة صاحبها مخير بين الأخذ بها وبين تركها، ما دام تحقق المقصد لا يتوقف عليها، وذلك يتصور إذا تعددت الوسـائل إلى مقصد واحد، ومنها ماهو واجب ومنها ما هـو مندوب ومنها ما هـو مباح، فيؤخذ بما هـو أولى وهي الوسيلة الواجبة، ثم بالوسيلة المندوبة إذا انعدمت الواجبة، وإذا انعدمت الوسيلة المندوبة، ولم يبق إلا الوسائل المباحة، فصاحبها مخير بأن يأخذ بأيها شاء ما دام ذلك يحقق المقصد، وهذا عندما يكون المقصد مباحا، لأنه إذا كان في مرتبة الواجب أو في مرتبة المندوب فالأولى أن تكون الوسيلة من مرتبته، وإلا الوسيلة المباحة تتحول من هـذه الإباحة ليصير حكمها هـو حكم المقصد الذي تفضي إليه.

        د- وسـيلة مكروهة

        وهي كل وسيلة يثاب صاحبها على تركها ولا يؤثم على فعلها إذا كانت لا تفضي إلى محرم، أما إذا أفضت إلى محرم فلم تعد وسيلة مكروهة وإنما تأخذ حكم ما أفضت إليه وهي الحرمة، أما إذا كان ما تفضي إليه مكروها فهي مكروهة.

        هـ- وسـيلة محرمة

        وهي كل وسيلة إما جاء النص بتحريمها بحيث لا يجوز اتخاذها ولا يعتمد عليها في تحقيق المقصد ولو كان هـذا الأخير واجبا أو مندوبا أو مباحا، إلا للضرورة، والضرورة تقدر بقدرها، أما إذا لم يرد فيها نص بالتحريم؛ لأنها مثلا وسيلة مستحدثة فينظر إليها من جهة موافقتها لقواعد الشرع ومقاصده، فإذا وجد أنها تخالف ذلك وتناقضها حكم بتحريمها وصارت كالمنصوص عليها في الحرمة. [ ص: 83 ]

        8- من حيث كون المقصد محرما ودرجة إفضائها إليه

        أ- وسيلة واجبة تؤدي قطعا أو كثيرا غالبا، أو غير غالب إلى فعل محرم كطاعة الوالدين إذا أدى امتثال أمرهما إلى معصية.

        ب- وسيلة واجبة تؤدي نادرا إلى فعل محرم، كدفع مال الزكاة لمسلم مستور الحال فأنفقه في الحرام.

        ج- وسيلة مندوبة تؤدي قطعا أو كثيرا غالبا أو غير غالب إلى فعل محرم، كالسفر لحج النافلة إذا كان يغضب الوالدين.

        د- وسيلة مندوبة تؤدي نادرا إلى محرم، كإهداء الجار المسلم العنب من جهة كونه وسيلة إلى صنع الخمر.

        ه- وسيلة مباحة تؤدي قطعا أو كثيرا غالبا أو كثيرا غير غالب إلى فعل محرم، كالنوم إذا كان يؤدي إلى تضييع حق أو فرض.

        و- وسيلة مباحة تؤدي نادرا إلى محرم، كسائر تصرفات الناس العادية، من حيث كونها محتملة الأداء إلى المحرمات لو وجهت إلى ذلك [14] .

        9- بحسـب مقاصـد المكلف

        (وما يلزم عنها من أضرار تلحق العامل بها أو غيره)

        لقد تناول هـذا التقسيم الإمام الشاطبي [15] أثناء حديثه عن مقاصد المكلف، وذلك في المسألة الخامسة فيقول: جلب المصلحة أو دفع المفسدة إذا كان مأذونا فيه على ضربين: [ ص: 84 ]

        أحدهما: أن لا يلزم عنه إضرار بالغير.

        والثاني: أن يلزم عنه ذلك، وهذا ضربان:

        أحدهما: أن يقصـد الجالب أو الدافع ذلك الإضرار، كالمرخص في سلعته قصدا لطلب معاشه، وصحبه قصد الإضرار بالغير.

        والثاني: أن لا يقصد إضرارا بأحد، وهو قسمان:

        أحدهما:أن يكون الإضرار عاما كتلقي السلع، وبيع الحاضر للبادي، والامتناع من بيع داره، أو فدانه، وقد اضطر إليه الناس لمسجد جامع، أو غيره.

        والثاني: أن يكون خاصـا، وهو نوعان:

        أحدهما: أن يلحق الجـالب أو الدافع بمنعه من ذلك الضرر، فهو يحتاج إلى فعله، كالدافع عن نفسه مظلمة يعلم أنها تقع بغيره، أو يسبق إلى شراء طعام، علما بأنه إذا حازه استضر غيره بعدمه، ولو أخذ من يده استضر، أي لحقه الضرر.

        والثاني: أن لا يلحقه بذلك ضرر، وهو على ثلاثة أنواع:

        أحدها: أن يكون أداؤه إلى المفسدة قطعا، أعني القطع العادي، كحفر البئر خلف باب الدار في الظلام، بحيث يقع الداخل فيه قطعا وشبه ذلك.

        والثاني: ما يكون أداؤه إلى المفسـدة نادرا كحفـر البئـر بموضـع لا يؤدي غالبا إلى وقوع أحد فيه، وأكل الأغذية التي غالبها لا تضر أحدا، وما أشبه ذلك.

        والثالث: ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرا لا نادرا وهو على وجهين: [ ص: 85 ] - أن يكون غالبا كبيع السـلاح لأهل الحرب، والعنب للخـمار، وما يغش به ممن شأنه الغش، ونحو ذلك.

        - أن يكون كثيرا لا غالبا، كمسائل بيوع الآجال، فهذه ثمانية أقسام.

        وبناء على ما قرره الإمام الشاطبي ، رحمه الله، في هـذه المسألة يمكن ملاحظة عدة أمور:

        أ- الوسـيلة التي لا تلحق ضـررا بالغير تبقى على أصـل الإباحة، ولا إشـكال في اتخاذها وسـيلة متى كانت جائزة في نفسها وتفضي إلى مقصد جائز.

        ب- كل وسيلة القصد من اتخاذها إلحاق الضرر بالغير، من حيث هـو ضرر، تمنع بناء على أن لا ضرر ولا ضرار في الإسلام.

        ج- الوسيلة لو كانت فيها مصلحة لصاحبها لكنها تؤدي إلى ضرر عام لا بد من منعها بناء على أن المصالح العامة مقدمة على المصالح الخاصة.

        د- كل وسيلة إذا اتخذها صاحبها كانت له فيها نفع وألحقت ضررا بغيره، وإذا تركها لحق به ضرر وارتفع عن غيره؛ لزمه أن يتخذها من باب اعتبار الحظوظ «لأن حق الجالب أو الدافع مقدم وإن استضر غيره بذلك، لأن جلب المنفعة أو دفع المضرة مطلوب، للشارع مقصود» [16] . [ ص: 86 ] هـ- كل وسيلة لا ضرر يلحق بصاحبها عند تركها، لكن أداءها إلى الضرر بالغير قطعي فإن كانت تحقق مصلحة ومقصدا شرعيا دون أن يقصد أي ضـرر بالغير فهي وسـيلة جائزة، وأما إذا كان يعلم من لزوم الضرر بالغير باتخاذ هـذه الوسـيلة، مع أن تركه لها لا ضـرر يلحق به ففي هـذه الحالة تمنع لسببين:

        أولهما هـو كونه يعلم أن هـذه الوسيلة تلحق ضررا بالغير ولا تجلب له مصلحة إن اتخذها فهو مقصر وهذا ممنوع.

        الثاني هـو اتخاذه لهذه الوسيلة قد يكون لقصد الضرر مادام يعلم بهذا الضرر ولا ضرر يلحقه بتركها وهو غير مقصر فيكون متعمدا لقصد الضرر فيمنع منها أيضا.

        و- كل وسيلة إلحاقها للضرر بالغير نادر فهي تبقى على أصل الإباحة؛ لأن المصلحة إذا كانت غالبة فلا اعتبار لندرة المفسدة في انخرام هـذه المصلحة.

        10- من حيث الرتبة

        يمكن تقسيم الوسائل بهذا الاعتبار إلى:

        أ- وسائل ضرورية: وتشمل الوسائل الواجبة والمندوبة والمباحة، وكلها في مرتبة الضروريات، وتفضي إلى مقصد ضروري أو حاجي أو تحسيني.

        ب- وسائل حاجية: وتشمل الوسائل الواجبة والمندوبة والمباحة، وكلها في مرتبة الحاجيات، وتفضي إما إلى مقصد ضروري أو حاجي أو تحسيني. [ ص: 87 ]

        ج- وسائل تحسينية: وتشمل الوسائل الواجبة والمندوبة والمباحة، وكلها في مرتبة التحسينيات، وتفضي إلى مقصد ضروري أو حاجي أو تحسيني.

        11- من حيث رتبة المقصد الذي تفضي إليه

        يمكن تقسيمها إلى مايلي [17] أ- وسيلة إلى مقصد ضروري: إذا كان المقصد ضروريا فإن الوسيلة تأتي ضرورية كذلك أو حاجية أو تحسينية مفضية إلى هـذا المقصد الضروري.

        ب- وسيلة إلى مقصد حاجي: أما إذا كان المقصد حاجيا فالوسيلة إليه تتنوع بحسب رتبتها، فقد تكون وسيلة ضرورية، كما قد تكون حاجية، كما يمكن أن تكون تحسينية فتفضي إلى هـذا المقصد الحاجي.

        ج- وسيلة إلى مقصد تحسيني: فقد تكون الوسيلة في هـذه الصورة ضرورية أو حاجية أو تحسينية فتفضي إلى هـذا المقصد التحسيني.

        12- من حيث القصد والتحيل إلى المفسدة

        وهذا النوع يمكن جعله ثلاثة أقسام [18] :

        أ- ما هـو ذريعة مما يحتال به، كالجمع بين السلف والبيع، وكشراء البائع السلعة من مشتريها، بأقل من الثمن تارة، وبأكثر أخرى ... [ ص: 88 ]

        ب- ما هـو ذريعة لا يحتال بها، كسب الأوثان، فإنه ذريعة إلى سب الله تعالى، وكذلك سب الرجل والد غيره، فإنه ذريعة إلى أن يسب والده، وإن كان هـذان لا يقصدهما المؤمن.

        ج- ما يحتال به من المباحات في الأصل، كبيع النصاب في أثناء الحول، فرارا من الزكاة، وكإغلاء الثمن لإسقاط الشفعة.

        13- من حيث كون الوسيلة مصلحة أو مفسدة، وبحسب ما تؤدي إليه من مصلحة أو مفسدة

        وهي على أربعة أنواع [19] أ- الوسيلة المفضية إلى المصلحة وهي مصلحة، كالنوم المبكر من أجل قيام الليل.

        ب- الوسيلة المفضية إلى المفسدة وهي مصلحة، كالسفر من أجل ارتكاب معصية.

        ج- الوسيلة المفضية إلى المصلحة وهي مفسدة، كالكذب لإصلاح ذات البين.

        د- الوسيلة المفضية إلى المفسدة وهي مفسدة، كالربا من أجل زيادة المال لكنـزه. [ ص: 89 ]

        14- من حيث كون الوسيلة تعتبر وصفا مناسبا حقيقيا يفضي إلى المقصود [20] :

        وتقسم الوسيلة بهذا الاعتبار إلى:

        أ- مناسب مفض إلى أصل مقصود في الابتداء:

        وذلك مثل القضاء بصحة التصرف الصادر من الأهل في المحل تحصيلا لأصل المقصود المتعلق بالتصرف من ملك العين أو المنفعة كما في البيع والإجارة ونحوها.

        ب- مناسب مفض إلى دوام المقصود:

        وذلك كالقضاء بتحريم القتل وإيجاب القصاص على من قتل عمدا عدوانا لإفضائه إلى دوام مصلحة حفظ النفس الإنسانية المعصومة عن التعدي عليها بغير حق.

        ج- مناسب مفض إلى تكميل المقصود:

        وذلك مثل الحكم باشتراط الشهادة في النكاح، فإنه مكمل لمصلحة النكاح، وليس محصلا لأصلها لحصول المصلحة بنفس التصرف وصحته. [ ص: 90 ]

        15- من حيث النص عليها وعدمه

        تقسم الوسائل بهذا الاعتبار إلى ثلاثة أقسام، هـي:

        أ- وسائل منصوص عليها

        وهي الوسائل التي ورد فيها نص من الشارع سواء من القرآن أو من السنة، فهذه الوسائل لا يجوز تركها أو اتخاذ وسـائل أخرى مكانها، وغالبا ما يكون سبب النص عليها أن المقصد لا يتحقق إلا بها، لما لها من قوة إفضاء إليه من جهة، ومن جهة أخرى لما تتضمنه من مصلحة في نفسها، فهذه الوسائل الالتزام بها واجب، وكثيرا ما تتعلق بالأسباب والشروط وانتفاء الموانع التي نص عليها الشارع لتحقق المقاصد عن طريقها، كالوضوء للصلاة، والزوال لوجوب صلاة الظهر وغيرها.

        ب- وسائل ملغاة

        وهي الوسائل التي ورد فيها نص من الشارع على إلغائها وعدم اعتبارها، فهي لا تصلح أن تكون وسائل للمقاصد، لما تتضمنه من مفاسد أو لإفضائها إلى المفاسد، فإن لم يرد فيها نص بالإلغاء وعدم الاعتبار، لكنها تخالف مقاصد الشرع وكلياته العامة، والمفاسد المترتبة على اتخاذها طريقا إلى المقاصد كثيرة، وتربو على المصلحة المرجوة من المقصد ذاته، فهنا يحكم بإلغائها وعدم اعتبارها، ومثالها التوسل إلى الغنى بالسرقة، أو بارتكاب أي محرم آخر. [ ص: 91 ]

        ج- وسائل مسكوت عنها

        فلم يرد نص بإلغائها، كما لم يرد نص خاص باعتبارها، فهي مثلها مثل المصالح المرسلة ، فعدم ورود نص بإلغائها هـو أحد الأدلة على اعتبارها من وجه، وهذا الوجه المقصود به موافقتها لكليات الشريعة ومقاصدها وقواعدها العامة، وهذا القسم يشمل كل الوسائل الاجتهادية المختلفة والمستحدثة على حسب التطورات العلمية والتكنولوجية، وخاضعة لتغير الزمان والمكان، والأحوال وغيرها، مثالها الوسائل الطبية الحديثة، ووسائل الدعوة في هـذا العصر وغيرها.

        كما يمكن تقسيم الوسائل إلى أقسام أخرى [21] ، كتقسيمها إلى وسائل إيجابية، وهي التي تحافظ على المقصد من جهة الوجود، ووسائل سلبية وهي التي تحافظ على المقصد من جهة العدم.. كما يمكن تقسيمها إلى وسائل إلى مقاصد، ووسائل إلى وسائل.. وباعتبار آخر تقسم إلى وسـائل مأمور بها بالقصد الأول، كالجهاد لإعزاز الدين، ووسـائل مأمور بها بالقصد الثاني، أو بالتبع؛ وذلك لأنها وسيلة لتحصيل مصلحة كالكذب لإصلاح ذات البين. ووسائل منهي عنها بالقصد الأول، لأنها تنافي مقصود الشارع كالسرقة وغيرها، ووسائل منهي عنها بالقصد الثاني أو بالتبع، إذ في الأصل أنها مباحة، لكن تؤدي إلى مفسدة، كالسفر لارتكاب محرم. [ ص: 92 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية