الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        المطلب الأول: تعريف الوسائل والذرائع

        لتأصيل أي مصطلح لابد من التعريج على إطلاقاته في اللغة ووجه ارتباطها بالمعنى الاصطلاحي ليتضح المراد منه، ويتضح بعض معالمه مما يفيد الباحث في جمع متعلقات الموضوع.

        الفرع الأول: تعريف الوسائل

        - الوسائل لغة

        قال ابن منظور [1] : الوسيلة والواسلة من وسل وهي المنـزلة عند الملك، والدرجة والقربة، ووسل إلى الله تعالى توسيلا: عمل عملا تقرب به إليه، كتوسل. والواسل، الواجب والراغب إلى الله تعالى. وتوسل إليه بوسيلة إذا تقرب إليه بعمل، وتوسل إليه بكذا تقرب إليه بحرمة آصرة تعطفه عليه.

        والوسيلة: الوصلة والقربى، وجمعها وسائل،

        قال الله سبحانه وتعالى: ( أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ) (الإسراء:57) ،

        وفي حديث الأذان (أخرجه البخاري) : ( آت محمدا الوسيلة ) وهي [ ص: 27 ] في الأصل ما يتوصل به إلى الشيء ويتقرب به، والمراد في الحديث القرب من الله تعالى، وقيل هـي الشفاعة يوم القيامة، وقيل هـي منـزلة من منازل الجنة.

        والتوسيل والتوسل واحد، وهو أيضا السرقة، يقال أخذ فلان إبلي توسلا أي سرقة، قال لبيد :

        بلى كل ذي دين إلى الله واسل [2] .

        وتطلق الوسيلة على الذريعة إلى الشيء [3] ، فقد جاء في مختار الصحاح بأن الذريعة هـي الوسيلة، وقد تذرع فلان بذريعة أي توسل بوسيلة، والجمع الذرائع [4] ، وقتل ذريع أي سريع. والذريعة مثل الدريئة وهي جمل يختل به الصيد يمشي الصياد إلى جنبه فيستتر به ويرمي الصيد إذا أمكنه، وذلك الجمل يسيب أولا مع الوحش حتى تألفه.

        والذريعة أيضا السبب إلى الشيء، وأصله من ذلك الجمل، يقال فلان ذريعتي إليك أي وسيلتي ووصلتي الذي أتسبب به إليك. كما تطلق على السبب وهو ما يتوصل به إلى غيره،

        ومنه قوله تعالى: ( وآتيناه من كل شيء سببا فأتبع سببا ) (الكهف:84-85) .

        وتذرع بذريعة : توسل بوسيلة [5] . [ ص: 28 ] والذريعة أيضا حلقة يتعلم عليها الرمي [6] .

        وقال الجرجاني: «الوسـيلة ما يتقرب به إلى الغير» [7] .

        وهو ما ذهب إليه المناوي [8] .

        كما أن أغلب الدراسات المعاصرة تسـتعمل الوسيلة بمعنى الذريعة إلى الشيء مطلقا [9] ، وهذا ما أشار إليه البرهاني بعد أن ذكر عددا من التعاريف، فقال: «بناء على ما تقدم نستطيع أن نوجز معنى الذريعة في كل ما يتخذ وسيلة إلى غيره» [10] .

        - الوسائل اصطلاحا

        عرفها العز بن عبد السلام والقرافي بقولهما: «الوسـائل هـي الطرق المفضية إلى المقاصد» [11] .

        وعرفها ابن القيم بقوله: «ما كان وسيلة وطريقا إلى الشيء» [12] . [ ص: 29 ] وعرفها ابن كثير بقوله: «هي التي يتوصل بها إلى تحصيل المقصود» [13] .

        كما عرفها ابن جزي بقوله: «الوسائل هـي التي يتوصل بها إلى المقاصد» [14] .. وعرفها المقري بقوله: «هي المفضية إليها أو المقاربة لها الخالية من الحكم في أنفسها» [15] .

        وعرفها ابن عاشور قائلا: «هي الأحكام التي شرعت لأن بها تحصيل أحكام أخرى، فهي غير مقصودة لذاتها، بل لتحصيل غيرها على الوجه المطلوب الأكمل، إذ بدونها قد لا يحصل المقصد، أو يحصل معرضا للاختلال والانحلال ... ويدخل في الوسائل الأسباب المعرفات للأحكام والشروط وانتفاء الموانع، ويدخل أيضا ما يفيد معنى كصيغ العقود وألفاظ الواقفين في كونها وسائل إلى تعرف مقاصدهم فيما عقدوه أو شرطوه» [16] .

        من خلال هـذه التعاريف فإن الوسائل هـي كل ما يتوصل به إلى المقاصد سواء كانت الوسائل شرعية أو غير شرعية، وسواء كانت المقاصد شرعية أو غير شرعية. [ ص: 30 ] لهذا قال العز بن عبد السلام : «اعلم أن اكتساب العباد ضربان: أحدهما: ما هـو سبب للمصالح وهو أنواع؛ أحدها ما هـو سبب لمصالح دنيوية، والثاني ماهو سبب لمصالح أخروية، والثالث ما هـو سبب لمصالح دنيوية وأخروية» [17] . فهذه هـي الوسائل الشرعية، والمكلف مأمور بها على قدر مراتبها في الحسن والرشاد.

        ثم قال: «الضرب الثاني من الاكتساب ماهو سبب للمفاسد، وهو أنواع؛ أحدها ماهو سبب لمفاسد دنيوية، والثاني ماهو سبب لمفاسد أخروية، والثالث ماهو سبب لمفاسد دنيوية وأخروية» [18] . وهذه هـي الوسائل غير الشرعية، وهي منهي عنها، والمكلف مأمور بتركها لما تفضي إليه من مفاسد.

        والملاحظ من التعريف اللغوي والتعريف الاصطلاحي للوسيلة أن هـناك ارتباطا بينهما إذ أن كل ما يتوصل به إلى الشيء مطلقا فهو وسيلة، بغض النظر عن كونه مشروعا أم لا، فالوسيلة والذريعة في اللغة مترادفتان.

        لكن هـل الوسـائل هـي الذرائع في الاصطـلاح؟ وما هـي العلاقة التي تربط بينهما؟ ومن أجل الإجابة عن هـذين السـؤالين نعمد إلى تعريف الذريعة أيضا. [ ص: 31 ]

        الفرع الثاني: تعريف الذريعة

        - الذريعـة لغة

        لا فرق بين الذريعة والوسـيلة في اللغة، كما هـو موضح أعلاه.

        - الذريعة اصطلاحا

        تطلق ويراد بها معنيان: عام، وخاص.

        فالمعنى العام يشمل كل ما يتخذ وسيلة إلى شيء آخر دون تقييدها بالمنع أو الجواز، وهو مرادف للمعنى اللغوي، فتسد إذا كانت طريقا إلى المفسدة، وتفتح إذا كانت طريقا إلى المصلحة؛ لأن موارد الأحكام قسمان:

        1- مقاصد وهي الأمور المكونة للمصالح والمفاسد في ذاتها.

        2- ووسائل وهي الطرق المفضية إلى المقاصد.

        وقد فصل العز بن عبد السلام في الوسائل وبين أنها الطرق المفضية إلى المقاصد، وعلى ذلك فالوسيلة عنده هـي الذريعة بالمعنى العام، وهو ما اختاره تلميذه القرافي فقال: «اعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها، وتكره وتندب وتباح، فإن الذريعة هـي الوسيلة» [19] .

        وعرفها ابن تيمية بقوله: «الذريعة ما كان وسيلة وطريقا إلى الشيء لكنها صارت في عرف الفقهاء عبارة عما أفضت إلى فعل محرم» [20] . وعرفها تلميذه ابن القيم بقوله: «الذريعة ما كانت وسيلة وطريقا إلى الشيء» [21] . [ ص: 32 ] أما المعنى الخاص للذريعة فهو ما قصر فيه المعنى على التذرع الممنوع، وحسم مادة الفساد أي سد الذريعة ، وبناء على هـذا المعنى عرفها القرافي بقوله: «حسم مادة وسائل الفساد دفعا لها» [22] .

        وعرفها القاضي عبد الوهاب بقوله: «الذرائع هـي الأمر الذي ظاهره الجواز إذا قويت التهمة في التطرق به إلى الممنوع» [23] .

        كما عرفها الباجي بقوله: «الذرائع هـي المسألة التي ظاهرها الإباحة ويتوصل بها إلى فعل المحظور» [24] .

        وقريب منه تعريف ابن رشد الجد إذ عرفها بقوله: «الذرائع هـي الأشياء التي ظاهرها الإباحة ويتوصل بها إلى فعل محظور» [25] ..وهو ما اختاره الشاطبي بقوله: «حقيقة الذرائع التوسل بما هـو مصلحة إلى مفسدة» [26] .

        فكل هـذه التعاريف تشير إلى منع الفعل المباح متى غلب الظن، أو تيقن منه التوصل إلى المحظور، وبالتالي فالمقصود منها تحريم الوسائل، فتدخل في دائرة الوسائل الممنوعة. [ ص: 33 ] أما القرطبي فقد ذهب إلى أن: «الذريعة عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه يخاف من ارتكابه الوقوع في ممنوع» [27] ، فالعبرة عند القرطبي مجرد الخوف من ارتكاب الممنوع، وليس بالضرورة التيقن أو غلبة الظن من ارتكابه.

        يلاحظ من خلال تعاريف العلماء أن:

        المعنى العام للذريعة هـو ما يرادف الوسيلة، وهو ما ذهب إليه العز ، والقرافي وابن القيم فيشمل التذرع الممنوع والتذرع المشروع، فالتذرع الممنوع (الوسيلة الممنوعة) هـو الطريق الموصل إلى المفسدة، أما التذرع المشروع (الوسيلة المشروعة) فهو الطريق المفضي إلى المصلحة فيسد الأول، ويفتح الثاني.

        وهذا يتفق مع المعنى اللغوي للذريعة، فالذرائع هـي مطلق الوسائل أي بمعناها العام، فكل شيء يتخذ وسيلة إلى شيء آخر بغض النظر عن كون الوسيلة جائزة، أو غير جائزة، وكون المتوسل إليه مصلحة أو مفسدة.

        فالذريعة تشمل الوسيلة الجائزة التي يتوسل بها إلى مقصد جائز، والوسيلة الجائزة التي يتوسـل بها إلى مقصد محظور، والوسيلة المحظورة التي يتوسل بها إلى مقصد جائز، والوسـيلة المحظورة، التي يتوسـل بها إلى مقصد محظور. [ ص: 34 ] وعليه فالذرائع هـي كل الوسائل الموصلة إلى المقاصد، وهذا ما عبر عنه القرافي بقوله: «اعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها، وتكره وتندب وتباح، فإن الذريعة هـي الوسيلة، فكما أن وسيلة المحرم محرمة، فوسيلة الواجب واجبة، كالسعي للجمعة، والحج.. وموارد الأحكام على قسمين؛ مقاصد وهي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها، ووسائل وهي الطرق المفضية إليها ... » [28] ، والملاحظ من كلام القرافي تضمنه الصور الأربع للذرائع السابقة الذكر، فتكون الذريعة كل وسيلة سواء كانت جائزة أم غير جائزة.

        كما اختار ابن القيم هـذا المسلك وجعل الذرائع مرادفة للوسائل فقال: «لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها، كانت طرقها، وأسبابها تابعة لها، معتبرة بها، فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها، بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها، ووسائل الطاعات والقربات في محبتها، والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غاياتها، وهي مقصودة قصد الوسائل » [29] .

        ومن المعاصرين اختار كل من الشيخ زكريا البرديسي والشيخ أبو زهرة التعبير عن الذرائع بالوسائل بناء على معناها اللغوي، [ ص: 35 ] فقال البرديسي : «الذريعة لغة الوسيلة التي يتوصل بها إلى الشيء، سواء كان حسيا أو معنويا، خيرا أو شرا. وفي اصطلاح الأصوليين هـي الموصل إلى الشيء الممنوع المشتمل على مفسدة، أو الشيء المشروع المشتمل على مصلحة» [30] .

        وقال أبو زهرة [31] مقررا أن الذرائع أربع صور: «الفعل أو القول قد يكون في ذاته محرما، واتخذ ذريعة لمحرم آخر أكبر، فينال حظه» ، ومثل لهذه الصورة بقوله: «كالنميمة يقصد بها التحريض على القتل» . وأما الصورة الثانية فقال عنها: «وإذا كان الأمر في ذاته جائزا مطلوبا، ولكنه يؤدي إلى محرم فإن تحريمه يتفاوت بتفاوت مقدار إفضائه إلى ذلك المحرم» ، وأما الثالثة فعبر عنها بقوله: «وهناك صور أخرى تكون الوسيلة طريقا للمطلوب، كتيقن الزواج طريقا لتحصين الفرج» ، وأما الصـورة الأخيـرة فقال عنها: «ولكن إذا كانت الوسـيلة ممنوعة لذاتها وهي تؤدي حتما إلى مطلوب أو حق وإقامة عدل، فهل تكون مطلوبة أو تستمر على حرمتها، كشهادة الزور لإثبات حق قد أنكره المدعى عليه» [32] .

        أما الذريعة بالمعنى الخاص - وهي سد الذريعة أو الوسائل الممنوعة- هـي منع الجائز الذي يؤدي إلى فعل محظور، أي منع الوسيلة المباحة التي تفضي إلى الحرام فيكون سد الذريعة بمعنى تحريم الوسيلة الجائزة التي تفضي إلى الحرام أي التذرع الممنوع. [ ص: 36 ] فالذريعة بالمعنى الخاص ترادف قاعدة [33] سد الذرائع، وقد اتفقت كل التعاريف على ذلك، وإن اختلفت عباراتها أو عبارات أصحابها.

        الذريعة بالمعنى الخاص يشترط فيها أن تكون الوسيلة فيها فعلا مباحا جائزا، لذلك فإن الوسيلة التي تتضمن مفسـدة في نفسها، وهي جزء من ماهيتها، فلا يصـح أن تدرج ضمن الذرائع بالمعنى الخاص، وإنما هـي من الذرائـع بالمعنى العام، كالقتل والظلم وغيرها، لتضـمنها على المفاسـد في نفسها.

        لذلك فابن القيم لما ذكر أقسام الوسائل المرادفة للذرائع بالمعنى العام جعل أول قسم منها هـو : «أن يكون وضعه للإفضاء إليها كشرب المسكر المفضي إلى مفسدة السكر، وكالقذف المفضي إلى مفسدة الفرية، والزنا المفضي إلى اختلاط المياه وفساد الفراش، ونحو ذلك، فهذه أفعال وأقوال وضعت مفضية لهذه المفاسد وليس لها ظاهر غيرها» [34] .. وقد علق الشيخ [ ص: 37 ] أبو زهرة على ذلك وبين أن هـذا لا يستقيم [35] ، وأن هـذه الأمثلة التي ذكرها ابن القيم هـي مفاسد في أنفسها، لذلك فهي ليست من الذرائع [36] .

        والملاحظ من هـذه التعاريف أن أصحابها يطلقون لفظ الذريعة ويريدون به الذريعة بالمعنى الخاص، وكان الأحرى بهم تسـميتها «سد الذريعة» لتستقيم تعاريفهم، وذلك لأن الذرائع تشمل الوسائل الجائزة التي تفضي إلى جائز، والوسائل الجائزة التي تفضي إلى ممنوع، وهذه الأخيرة هـي المقصودة في الذريعة بالمعنى الخاص أو سد الذريعة. كما أنهم عند وضعهم لتعاريف الذريعة التي يراد بها سد الذريعة لم يبينوا أن الذرائع المرادفة للوسائل لها تعريفان اصطلاحيان؛ عام يشمل كل الوسائل، وخاص يشمل الوسيلة الجائزة المفضية إلى ممنوع، وهي التي يجب سدها. ولعل قائلا يقول: إنه غلب [ ص: 38 ] في عرف الأصوليين استعمال الذرائع مرادفة لسد الذريعة، غير أن هـذا غير صحيح وذلك من ناحيتين:

        أولاهما: أن هـناك من العلماء الذين تناولوا موضوع الذرائع بالبحث وميزوا بين المعنى العام والمعنى الخاص، من أمثال العـز بن عبد السـلام وابن القيم ، فنجدهم عند تناولهم للذرائع يقصدون بها مطلق الوسائل وهي الموصلة إلى المقاصد مطلقا، وعليه فلا يمكن القول: إنه جرى على ذلك عرف العلماء.

        وثانيتهما: أن العلماء الذين يطلقون لفظ الذرائع ويريدون به سد الذرائع أي الوسائل الممنوعة فقط، عندما يتناولون تقسيمها يوردون تقسيم الذرائع بالمعنى العام المرادف لمطلق الوسائل ولا يكتفون بأقسام سد الذريعة؛ فيذكرون وسائل مباحة وتفضي إلى المباح، ووسائل مباحة تفضي إلى الممنوع وغيرها.

        وفي ختام هـذا المبحث يمكن تعريف الوسائل عامة، والوسائل في الاصطلاح الأصولي خاصة، وهي الوسائل الشرعية المراد بحثها في هـذا الكتاب كما يلي:

        الوسـائل هـي: كل الطرق، سواء كانت شرعية أو غير شرعية، وتفضي إلى مقاصد سواء كانت شرعية أو غير شرعية.

        والوسـائل الشرعية هـي: كل الطرق الشـرعية، سواء كانت واجبة أو مندوبة أو مباحة وتفضي إلى مقاصد شرعية. [ ص: 39 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية