الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        المطلب الثاني: الفرق بين الحيل والمخارج

        - المخارج لغة

        جمع مخرج ومعناه موضع الخروج، يقال: خرج مخرجا حسنا، وهذا مخرجه [1] .

        - والمخارج اصطلاحا

        قال ابن القيم : «ما كان دائرا بين ما دل عليه الكتاب والسنة أو أحدهما أو أفتى به الصحابة بحيث لا يعرف عنهم فيه خلاف، أو أفتى به بعضهم، أو هـو خارج عن أقوالهم، أو هـو قول جمهور الأمة، أو بعضهم أو إمام من الأئمة الأربعة أو أتباعهم، وغيرهم من علماء الإسلام، ولا تخرج هـذه القاعدة التي نذكرها عن ذلك» [2] . [ ص: 133 ] وقال أيضا: «أحسن المخارج ما خلص من المآثم، وأقبح الحيل ما أوقع في المحارم، أو أسقط ما أوجبه الله ورسوله من الحق اللازم» [3] .

        يفهم من كلام ابن القيم أن المخارج دائما تكون شرعية، وهي عبارة عن كل ما يتوصل به إلى الخروج من الضيق والحرج، مع موافقة مقاصد الشرع. ولذلك من الفقهاء من كان يستعمل مصطلح المخرج بدل الحيلة لتفادي الالتباس والخلط بينهما، خاصة وأن الحيلة في العرف العام ترادف دائما الطرق الخفية التي يتوصل بها إلى إسقاط واجب، أو تحليل حرام.

        كما عدها ابن القيم القسم الثالث من أقسام الحيل [4] ، فقال عنها: «أن يحتال على التوصل إلى حق أو على دفع الظلم بطريق مباحة لم توضع موصلة إلى ذلك، بل وضعت لغيره، فيتخذها هـو طريقا إلى هـذا المقصود الصحيح، أو قد يكون وضعت له لكن تكون خفية ولا يفطن لها» [5] ، [ ص: 134 ] وليميز هـذه الحيل المشروعة أو ما اصطلح عليه بالمخارج عن غيرها، وخاصة عن القسم الثاني الذي أورده، وهو ما يكون فيه الطريق مشروعة، وتفضي إلى مشروع، قال: «الفرق بين هـذا القسم - الذي يمثل الحيل المشروعة - والذي قبله أن الطريقة في الذي قبله نصبت مفضية إلى مقصودها ظاهرا، فسالكها سالك للطريق المعهود، والطريق في هـذا القسم نصبت مفضية إلى غيره فيتوصل بها إلى ما لم توضع له» [6] .

        فالحيل عند ابن القيم منها ما هـو غير مشروع وهو كل حيلة ممنوعة لمخالفتها لمقاصد الشرع، أو لإبطالها حكما شرعيا، وحيل مشروعة وهي المخارج، حيث إنه يستعمل المصطلحين للدلالة على المشروعية، فمرة يعبر بالحيل المشروعة، وأخرى بالمخارج.

        وقد تناول الإمام الشاطبي التمييز بين الحيل غير المشروعة والمشروعة فقال: «فإذا تسـبب المكلف في إسقاط ذلك الوجوب على نفسه أو إباحة ذلك المحرم عليه بوجه من وجوه التسبب، حتى يصير ذلك الواجب غير واجب في الظاهر، أو المحرم حلالا في الظاهر أيضا، فهذا السبب يسـمى حيلة وتحيلا» [7] . [ ص: 135 ] وقال عن الحيل المشروعة: «فإذا فرضنا أن الحيلة لا تهدم أصلا شرعيا، ولا تناقض مصلحة شهد الشرع باعتبارها، فغير داخلة في النهي» [8] . ووضح ما ذهب إليه بأن الأدلة لا تقوم على إبطال كل حيلة، ولا على تصحيح كل حيلة فقال: « لا يمكن إقامة دليل في الشريعة على إبطال كل حيلة، كما أنه لا يقوم الدليل على تصحيح كل حيلة، وإنما يبطل منها ما كان مضادا لقصد الشارع خاصة، وهو الذي يتفق عليه جميع أهل الإسلام، ويقع الاختلاف في المسائل التي تتعارض فيها الأدلة» [9] .

        وجاء في معجم لغة الفقهاء أن المخارج هـي: التخلص من الحرج، كتنفيذ أمر الشارع بشكل لا يتجاوز أثره ما قصده الشارع منه، عندما يكون تنفيذه بالكيفية التي رسـمها الشارع يؤدي إلى ضرر لظرف طارئ، لا يريده الشارع من هـذا الحكم،

        ومنه قوله تعالى: ( وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث ) (ص: 44)

        وهو الذي قد يسميه الحنفية بالحيل [10] .

        أما ابن عاشور فمصطلح الحيلة عنده لا يفيد إلا معنى الحيل غير المشروعة فقط، ويرفض رفضا باتا أن تطلق على أي تصرف مأذون فيه، لذلك فالحيل المشروعة كما يسميها جمهور العلماء، أو المخارج كما يسميها بعضهم، قال [ ص: 136 ] عنها ابن عاشور : «فأما السعي إلى عمل مأذون بصورة غير صورته، أو إيجاد وسائله، فليس تحيلا، ولكنه يسمى تدبيرا أو حرصا أو ورعا» [11] .

        ثم قام بالتمثيل لكل مصطلح أطلقه على الحيل المشروعة فقال: فالتدبير مثل من هـوى امرأة فسعى لتزوجها لتحل له مخالطتها.. والحرص كركوع أبي بكرة لما دخل المسجد فوجد رسول الله راكعا، وخشي فوات الركعة، وأحب أن يكون في الصف الأول، تحصيلا لفضله، فركع ودب راكعا حتى وصل إلى الصف، فذكر ذلك للنبي فقال له: ( زادك الله حرصا ولا تعد ) [12] .. والورع مثل أن يتخذ من يوقظه إلى صلاة الصبح إذا خشي أن يغلبه النوم، كما فعل رسول الله في إحدى الغزوات في قضية بلال حين غلبته عيناه [13] ، كما في حديث الموطأ [14] .

        وعليه فالمخرج يمثل الحيلة والوسيلة الجائزة، التي تؤدي إلى جائز، ويمكن تعريف المخرج بأنه «كل ما يتوصل به إلى الخروج من الضيق والحرج بوجه شرعي سائغ» [15] ، أما الحيلة فأعم من المخرج؛ لأنها تتناول كل ما يتوصل به إلى مقصود، سواء كان شرعيا أو غير شرعي، وسواء كانت هـذه الحيلة شرعية أو غير شرعية، والوسائل أعم منهما جميعا. [ ص: 137 ] وقد مثل ابن القيم للمخارج بثمانين مثالا، وكان يطلق عليها «الحيل المشروعة» ومرة المخارج، وبين فيها المخرج من غير أن يكون حيلة محرمة [16] ، ثم بعد أن أنهى من سرد الأمثلة الخاصة بالمخارج، علق قائلا: «والمقصـود بهذه الأمثلة وأضعافها مما لم نذكره: أن الله سـبحانه أغنانا بما شرعه لنا من الحنفية السمحة، وما يسره من الدين على لسان رسوله ( وسهله للأمة عن الدخول في الآصار والأغلال، وعن ارتكاب طرق المكر والخداع، والاحتيال، كما أغنانا عن كل باطل ومحرم وضار، بما هـو نافع لنا منه من الحق والمباح النافع» [17] .

        وعليه، فالفرق بين الحيل-غير المشروعة- والمخارج هـو أن الحيل تعود على مقصود الشارع وشرعه بالنقض والإبطال؛ فغايتها محرمة، ووسائلها باطلة لا حقيقة لها، فتحصيل المقاصد المشروعة بالطرق التي جعلت موصلة إليها شيء، وتحصيل المقاصد الفاسدة بالطرق التي جعلت لغيرها شيء آخر، فالفرق بين النوعين ثابت من جهة الوسيلة والقصد والمقصود، وهي المحتال به والمحتال عليه والنية. فالمخارج طرق موصلة إلى الحلال المشروع من غير خداع في وسائلها، ولا تحريم في مقاصدها [18] .. ومن أمثلة المخارج ما روي أن الرشيد حلف بالطلاق ثلاثا إن باتت زبيدة [ ص: 138 ] -زوجته- في ملكه، ثم ندم بعدها وتحير في المخرج مما هـو فيه، فقيل له أن هـناك فتى من أصحاب الإمام -يعني أبا يوسف- منه يرجى المخرج، فدعاه وعرض عليه مسألته، فقال له: تبيت الليلة في المسجد ولا يد لأحد على المسجد لأن الله تعالى يقول: ( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا ) (الجن: 18) ، فولاه الرشيد قاضي القضاة.

        ولقد أجمل أبو زهرة القول في الحيل الشرعية أو المخارج وبين وجه مشـروعيتها وعدم منافاتها لمقاصد الشرع وكليات الدين فبين أن العمل بها لا يخرج عن كونه إما [19] :

        1- رفعا للحرج وتوسيعا لضيق وتفريجا لكربة كما هـو في الحيل الخاصة بالأيمان.

        2- توجيهات من المفتي لمن يستفتيه في العقود، والغرض منها الاحتياط لنفسه بكل أنواع الضمانات لكيلا تضيع حقوق له في المستقبل، أو لكيلا تقع به مضار بسبب العقد.

        3- التوفيق بين مقاصـد العاقدين المشـروعة التي لا إثم فيها، وبين ما يشترطه الفقهاء لصحة العقود وما يقرونه من شروط، وما لا يقرون.

        4- بيان الطريق للوصول إلى الحقوق الثابتة، ولكن يحول بينها وبين الإلزام بها بعض قواعد شرعية تثبت لحماية المبادئ المقررة في الشريعة، ولمنع عبث الناس بالأحكام الشرعية. [ ص: 139 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية