الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        المطلب الثاني: حكم الوسائل

        لقد شاع على ألسنة بعض العلماء أن حكم الوسائل هـو حكم ما أفضت إليه، غير أن المحقق في هـذه المسألة يجد أن الوسيلة لا تأخذ حكم ما أفضت إليه بإطلاق وإلا كانت الغاية تبرر الوسيلة دائما؛ وذلك إذا كان المقصد مطلوبا، ووجد أن وسيلته محرمة مثلا، فهل تتحول الوسيلة من حكم التحريم إلى حكم الجواز بناء على أن الوسيلة تأخذ حكم ما أفضت إليه؟ هـذا ما لم يقل به العلماء، وإنما قال به المتمسكون بشعار الغاية تبرر الوسيلة مطلقا [1] .

        ولقد تعرض ابن الشاط لهذه المسألة، ولو ليس بالتفصيل، لكن اعترض على القرافي الذي قرر أن للوسيلة حكم ما تفضي إليه من تحريم وتحليل، فرأى ابن الشاط أن الإطلاق في هـذه المسألة غير مسلم به، ويصحح القول بعدم لزومه، فيقول: «ما قاله -أي القرافي– من أن حكم الوسائل حكم ما أفضـت إليه من وجوب وغيره ... مبني على قاعدة أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. والصـحيح أن ذلك غير لازم فيما لم يصـرح الشـرع بوجوبه» [2] .

        كما أن البرهاني أشار إلى ذلك، لكنه عندما قال: إن القرافي استدرك على كلامه بحيث يعرض صورة يخالف فيها حكم الوسيلة حكم المقصد، [ ص: 93 ] وذلك عند قول القرافي : «كلما سقط اعتبار المقصد سقط اعتبار الوسيلة، فإنها تبع له في الحكم، وقد خولفت هـذه القاعدة في الحج في إمرار الموسى على رأس من لا شعر له، مع إنه وسيلة إلى إزالة الشعر فيحتاج إلى دليل يدل على أنه مقصود في نفسه...» [3] لم يوفق في ذلك -البرهاني- لأن قول القرافي: «فإنها تبع له في الحكم» المراد منه من حيث وجود المقصد أو عدمه؛ لذلك قال: «كلما سقط اعتبار المقصد سقط اعتبار الوسيلة، فهي تبع له في الحكم» فهو ليس بصدد بيان حكم المقصد فتخلف عنه حكم الوسيلة.

        أما الاستدراك الصحيح للقرافي على ما أورده من أن حكم الوسيلة تابع لحكم المقصد هـو في قوله: «قد تكون وسيلة المحرم غير محرمة إذا أفضت إلى مصلحة راجحة» وقد وفق البرهاني في ذلك.

        وعليه، فما ذهب إليه القرافي لا تناقض فيه، وذلك لأنه بين أن الأصل في الوسائل أن تكون تابعة لمقاصدها في الأحكام من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما لا يتم الحرام إلا به فهو حرام وهكذا ... . لكن هـناك حالات لا تطرد فيها هـذه القاعدة، فتتخلف عنها كما بين ذلك العز قبله عند قوله: كما أنه قد يحدث أن تكون الوسائل المفضية إلى المصالح مفاسد ومع ذلك يؤمر بها أو تباح ليس لكونها مفاسد وإنما لأنها تفضي إلى مصالح أعظم من تلك المفاسد، كما أنه قد يحدث أن تكون الوسائل المفضية إلى [ ص: 94 ] المفاسد مصالح ومع ذلك نهى الشرع عنها ليس لكونها مصالح وإنما لأنها تفضي إلى مفاسد أعظم من تلك المصالح يقول العز : «وربما كانت أسباب المصالح مفاسد فيؤمر بها لا لكونها مفاسد بل لكونها مؤدية إلى المصالح، وذلك كقطع الأيدي المتآكلة حفظا للأرواح، وكالمخاطرة بالأرواح في الجهاد ... وربما كانت أسباب المفاسد مصالح فنهى الشرع عنها لا لكونها مصالح بل لأنها تؤدي إلى المفاسد وذلك كالسعي في تحصيل اللذات المحرمات والشبهات المكروهات ... فإنها مصالح نهى عنها لا لكونها مصالح بل لأنها تؤدي إلى المفاسد» [4] .

        غير أنه يجب ملاحظة أمر وهو أن هـناك حالات تكون فيها وسيلة المحرم غير محرمة، إذا أدت إلى مصلحة راجحة، وقد مثل العز لذلك بالمعاونة على الإثم والعدوان والفسوق والعصيان فهذا جائز لا من جهة كونها معصية، بل من جهة كونها وسيلة إلى مصلحة راجحة على مفسدة المعاونة، لأن المفسدة المرجوحة مطروحة وملغى اعتبارها عند معارضتها للمصلحة الراجحة، ومثلها أيضا ما يبذل في افتكاك الأسارى فإنه حرام على آخذيه مباح لباذليه، ومنها أن يريد الظالم قتل إنسان مصادرة على ماله، ويغلب على ظنه أنه يقتله إن لم يدفع إليه ماله، فإنه يجب عليه بذل ماله فكاكا لنفسه [5] ، [ ص: 95 ] وهو ما ذهب إليه القرافي بقوله: «قد تكون وسيلة المحرم غير محرمة إذا أفضت إلى مصلحة راجحة كالتوسل إلى فداء الأسارى بدفع المال للكفار الذي هـو محرم عليهم الانتفاع به ... وكدفع المال للمحارب حتى لا يقع القتل بينه وبين صاحب المال ... لرجحان ما يحصل من المصلحة على المفسدة» [6] .

        لذلك فقد ذكر علماء الأصول حكم الوسائل وأنه متوقف على حكم المقاصد التي تفضي إليها، يقول العز : «وللوسائل أحكام المقاصد، فالوسيلة إلى أفضل المقاصد هـي أفضل الوسائل، والوسيلة إلى أرذل المقاصد هـي أرذل الوسائل» [7] ، وهو ما أكده ابن القيم عند تناوله لقاعدة سد الذرائع فقال: «لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها، كانت أسبابها تابعة لها معتبرة بها، فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها، ووسائل الطاعات والقربات في محبتها والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غاياتها، فوسيلة المقصود تابعة للمقصود، وكلاهما مقصود، لكنه مقصود قصد الغايات، وهي مقصودة قصد الوسائل» [8] .

        وعليه، فتكون الوسيلة إلى المطلوب مطلوبة وتكون درجة طلبها بحسب قوة المطلوب فإذا كان المطلوب واجبا، كانت الوسيلة واجبة، وإذا كان المطلوب جائزا كانت الوسيلة جائزة، وإذا كان المطلوب مستحبا كانت [ ص: 96 ] الوسيلة مستحبة، فتكون بذلك وسيلة المطلوب تابعة له، وهي مقصودة قصد الوسائل، وما تفضي إليه مقصود قصد الغايات.

        كما أن الوسـيلة إلى الممنـوع ممنوعة، وتكون درجة منعها بحسب ما تفضي إليه من مقاصد فاسدة، وهذا ما يوضحه العز بن عبد السلام بقوله: «للمصالح والمفاسد أسباب ووسائل، وللوسائل أحكام المقاصد من الندب والإيجاب والتحريم والكراهة والإباحة، ورب وسيلة أفضل من مقصودها، كالمعارف والأحوال وبعض الطاعات فإنها أقل من ثوابها، والإعانة إلى المباح أفضل من المباح، لأن الإعانة عليه موجبة لثواب الآخرة وهو خير وأبقى من منافع المباح» [9] .

        ويمكن تلخيص حكم الوسائل بناء على أقسامها كما يلي [10] :

        1- الوسيلة المفضية إلى مصلحة وهي مصلحة، وهي ستة أنواع:

        أ- الوسيلة المباحة المؤدية إلى المباح حكمها: الإباحة، كالكسب الحلال.

        ب- الوسـيلة المباحة المؤدية إلى مطلوب حكمها: مطلوبة، كالكسب الحلال لدفع غائلة الجوع.

        ج- الوسـيلة المطـلوبة المؤدية إلى مطلوب حكمها: مطلوبة، كالوضوء للصلاة. [ ص: 97 ] د- الوسيلة المطلوبة المؤدية إلى مباح حكمها: مطلوبة، كالسعي إلى الحج إذا رافقته نية التجارة.

        2- الوسيلة المفضية إلى المفسدة وهي مفسدة: وحكمها المنع، سواء كانت في مرتبة الكراهة أو الحرمة، كالسعي بالفساد بين الناس المؤدي إلى الفتنة. فإذا كانت الوسيلة مكروهة وتؤدي إلى حرام، فهي ممنوعة، كترك السلام إذا كان يؤدي إلى القطيعة بين المسلمين. وإذا كانت وسيلة محرمة وتؤدي إلى مكروه فهي ممنوعة، كترك طلب العلم المفروض مما يؤدي إلى الجهل بمكروهات العبادات مثلا. وأما الوسيلة المكروهة المؤدية إلى مكروه، فحكمها المنع، كالجهل بمكروهات الصلاة مما يؤدي إلى الوقوع فيها.

        3- الوسيلة المفضية إلى المصلحة وهي مفسدة: حكمها المنع تغليبا لأنه الأصل، ومع ذلك لابد من النظر إليها من خلال حالتين:

        أ- حالة الضرورة وحكمها الجواز، وذلك من باب الضرورات تبيح المحظورات ، والضرورة تقدر بقدرها .

        ب- الحالات العادية وحكمها المنع؛ لأن الغاية لا تبرر الوسيلة فيها، فالسرقة من أجل الإنفاق محرمة.

        4- الوسيلة المفضية إلى المفسدة وهي مصلحة: الأصل في الوسيلة التي هـي مصلحة أن لا تؤدي إلى مفسدة، لأن الوسـيلة المطلوبة عادة لا تؤدي إلى مكروه ولا إلى محرم، إلا إذا اكتنفتها عوارض وظروف خارجية، كتأخير الصـلاة إلى وقت الكراهة وهو اصـفرار الشـمس، فيطالب [ ص: 98 ] المكلف بأدائها ولو في وقت الكراهة، وهذه الكراهة لا تتعلق بأصـل الطلب وإنما لما رافق الفعل من تأخير. فإذا كانت الوسيلة مباحة وتؤدي إلى مكروه فحكمها الكراهة، ككراهية اللهو المباح إذا أدى إلى مكروه، وإذا كانت الوسيلة مباحة وتؤدي إلى محرم فهي محرمة، كاللهو إذا أدى إلى تضييع الصلاة مثلا. أما الوسيلة المندوبة، التي تؤدي إلى محرم، فحكمها التحريم، كإطالة الصلاة إلى خروج وقتها مثلا. أما إذا كانت الوسيلة واجبة وتؤدي إلى محرم، فالأصل أن لا يكون ذلك، كما تم بيانه، لكن مع ذلك إذا قدر وحدث، فلابد من الموازنة بين مصلحة الواجب ومفسدة المحرم، فتقدم المصلحة الراجحة على المفسدة المرجوحة، أو تدفع المفسدة الراجحة ولا تجلب المصلحة المرجوحة، أما إذا تساوتا غلب جانب الاحتياط في درء المفاسد، فيقدم إنقاذ الغرقى على أداء الصلاة الواجبة مثلا.

        والوسيلة المفضية إلى المفسدة وهي مصلحة لها عدة صور:

        أ- وسيلة مباحة تؤدي قطعا أو كثيرا غالبا أو غير غالب إلى فعل محرم كالنوم، أو السفر، إذا كانا يؤديان إلى تضييع حق، أو فرض، فحكمها المنع (على اختلاف بين العلماء في الوسـيلة المباحة التي تؤدي كثيرا غير غالب إلى محرم، كبيوع الآجال) ، سـواء تعلق الأمر بضـروري كترك الفروض أو حاجي كأكل الربا في البيع والشراء أو كمالي ككشف العورة.

        ب- وسيلة مباحة تؤدي نادرا إلى فعل محرم، كسائر تصرفات الناس العادية، من حيث كونها محتملة الأداء إلى المحرمات لو وجهت إلى ذلك وحكمها الجواز لأنه لا اعتبار للندرة أمام الغلبة. [ ص: 99 ] ففي هـذه الحالات، فإن التقسيم العقلي يقتضي أن تكون الوسيلة المباحة لها ثماني صور وذلك باعتبار درجة الإفضاء (قطعي، كثير غالب، كثير غير غالب، ونادر) ، وباعتبار المفسدة التي تفضي إليها هـذه الوسيلة، عامة أو خاصة.

        ج- وسيلة مندوبة تؤدي إلى المحرم قطعا، أو كثيرا غالبا، أو غير غالب (على اختلاف بين العلماء في الوسيلة المندوبة التي تؤدي كثيرا لا غالبا إلى ممنوع) ، كالسفر للحج النافلة، أو الاعتكاف في المسجد، إذا كانا يغضبان الوالدين، أو يضيعان حق الأولاد، فحكمها المنع؛ لأن التحريم يترجح على الندب، إذ ما اجتمع الحلال والحرام إلا غلب الحرام الحلال؛ ولأن الاحتياط يقتضي الأخذ بالتحريم لأن اعتناء الشرع بدفع المفاسد قبل جلب المصالح.

        د- وسيلة مندوبة تؤدي نادرا إلى المحرم كإهداء الجار المسلم العنب، والتصدق على المساكين بالمال، من جهة كونهما وسيلتين إلى صنع الخمر وشربه والإنفاق في وجوه الحرام، وحكمها الجواز.

        وفي هـذه الحالة أيضا الوسيلة المندوبة تكون لها ثماني صور باعتبار درجة الإفضـاء ونوع المفسـدة التي تفضي إليها. وسـواء كانت الوسـيلة مباحة أو مندوبة، فإذا كان الإفضاء إلى المفسدة قطعيا أو كثيرا غالبا أو كثيرا غير غالب [11] ، فحكمها المنع، لأنها ليست في مستوى الحاجة ولا مستوى الضرورة. أما الوسيلة المباحة أو المندوبة والمؤدية إلى مفسدة نادرا فحكمها الجواز. [ ص: 100 ] ه- وسيلة واجبة تؤدي قطعا أو كثيرا أو غالبا أو غير غالب إلى فعل محرم، كطاعة الوالدين، أو طاعة الزوج، إذا أدى امتثال أمرهما أو أمره إلى معصية. في هـذه الحالة منهم من يرى منعها بمجرد تعارض الواجب بالمحرم تغليبا لجانب درء المفسدة على جلب المصلحة، احتياطا، غير أن الأولى النظر إلى موقع الوسيلة في هـذه الحالة بين المصالح الضرورية، والحاجية، والكمالية.

        وعليه، فالوسيلة الواجبة المتعلقة بضروري، فإذا كانت تؤدي إلى محرم يتعلق بكمالي فحكمها الجواز، وعدم المنع، كمن يدفع عن نفسه الموت بالدخول على الغير. وكذلك الحكم إذا كانت تؤدي إلى محرم يتعلق بحاجي، وقد مثل العز بن عبد السلام على ذلك بمن يدفع عن نفسه الموت بأكل مال الغير، المحتاج إليه من غير ضرورة، وكذا من أكره بالقتل على إتلاف مال الغير، يجوز له إتلافه لأن حرمة المال أخف من حرمة النفس، وفوات النفس أعظم من فوات مال الغير [12] . والأصل في هـذا أن جانب الضروريات يترجح على جانب الحاجيات والكماليات.

        أما إذا كانت تؤدي إلى محرم يتعلق بضروري فإنه ينبغي أن نلاحظ أخطر المفسدتين، فتدفع بأقلها خطرا، ومثل لذلك العز كأن يدفع الإنسان الموت عن نفسه بموت غيره، كأن يهدد بالقتل إن لم يقتل غيره، فهنا يحرم القتل ويدرأ بالصبر، لإجماع العلماء على تحريم القتل، واختلافهم في الاستسلام للقتل، فوجب تقديم درء المفسدة المجمع على وجوب درئها على درء المفسدة المختلف [ ص: 101 ] في وجوب درئها [13] . ومثلها لو هـاج البحر على ركاب السفينة بحيث يتعين التخفيف عنها لنجاتها، لم يجز إلقاء أحد من الركاب لا بقرعة ولا بغيرها؛ لأن الجميع مستوون في العصمة، وقتل من لا ذنب له محرم [14] .

        أما الوسـيلة الواجبة الكمالية التي تفضي إلى محرم يتعلق بأمر حاجي أو ضروري، تمنع إعمالا للقاعدة: ما اجتمع الحلال والحرام إلا غلب الحرام الحلال، ولاختلاف الرتبة بين الوسـيلة الكمـالية والمتوسـل إليه الحاجي أو الضروري، مثاله الكذب إذا أدى إلى جلب مصلحة أو درء مفسدة، وقد أورد العز أمثلة على الوسيلة الواجبة الكمالية كالكذب لإصلاح العشرة بين الزوجين، أو للإصلاح بين الناس لعموم المصلحة فيجوز [15] أما إذا كانت تفضي إلى محرم يتعلق بأمر كمالي، فلا بد من الترجيح فيها بحسب المقال والحال، فقد تمنع، وقد تباح بناء على درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.

        أما الوسيلة الحاجية التي تفضي إلى محرم يتعلق بالكمالي فحكمها الجواز، كهجرة المرأة من ديار الكفر إلى ديار الإسلام، يجب عليها ولو أدى ذلك إلى خروجها وحدها. وتمنع إذا كانت تؤدي إلى محرم يتعلق بالضروري كهجرة المرأة من ديار الكفر إذا أدى خروجها إلى الفتك بها. أما إذا كانت [ ص: 102 ] تؤدي إلى محرم يتعلق بالحاجي، فإن الحكم يرجع إلى الراجح بين الأمرين، مع الاحتياط دائما في رعاية المصلحة وجلبها، ودرء المفسدة.

        وفي هـذه الحالات أيضا تراعى درجة الإفضاء (قطعي، كثير غالب، كثير غير غالب، نادر) في الوسيلة الواجبة التي تفضي إلى محرم، وكذا نوع المفسدة (عامة، أو خاصة) ، بالإضافة إلى ما ذكر من مرتبة الوسائل (ضرورية، حاجية وتحسينية) ، ومرتبة ما تفضي إليه من مفسدة (في مرتبة الضروريات، أو الحاجيات أو التحسينيات) . وبذلك تكون صور الوسيلة الواجبة التي تفضي إلى محرم، بالاعتبارات المذكورة اثنان وسبعون صورة [16] ، ذكرنا أهمها لأن أكثرها يشترك في حكم واحد، والله أعلم.

        ومن العلماء من لم يكتف ببيان حكم الوسائل بل تجاوز ذلك إلى بيان الأجر عليها وعلاقة ذلك بالمشقة كما ذهب إلى ذلك العز بن عبد السلام حيث قال: «يختلف أجر وسائل الطاعات باختلاف فضائل المقاصد ومصالحها، فالوسيلة إلى المقاصد أفضل من سائر الوسائل، فالتوسل إلى معرفة الله تعالى ومعرفة ذاته وصفاته أفضل من التوسل إلى معرفة أحكامه، والتوسل إلى معرفة أحكامه أفضل من التوسل إلى معرفة آياته، والتوسل بالسعي إلى الجهاد أفضل من التوسل بالسعي إلى الجمعات ... وكلما قويت [ ص: 103 ] الوسيلة في الأداء إلى المصلحة كان أجرها أعظم من أجر ما نقص عنها» [17] ، كما يترتب الإثم والعقاب «كلما قويت الوسيلة في الأداء إلى المفسدة كان إثمها أعظم من إثم ما نقص عنها» [18] .

        كما بين العز بن عبد السلام أن الأجر على الوسائل يتوقف أيضا على مدى المشقة المتعلقة بها وقت تحصيلها «وكذلك مشاق الوسائل في من يقصد المساجد والحج والغزو من مسافة قريبة، وآخر يقصد هـذه العبادات من مسافة بعيدة، فإن ثوابهما يتفاوت بتفاوت الوسيلة، ويتساويان من جهة القيام بسنن هـذه العبادات وشرائطها وأركانها، فإن الشرع يثيب على الوسائل إلى الطاعات كما يثيب على المقاصد مع تفاوت أجور الوسائل والمقاصد» [19] .

        بناء على ما مر يمكن رصد الملاحظات المختصرة الآتية:

        1- الحكم على الوسائل يتوقف على مرتبتها (ضرورية، حاجية، تحسينية) ، وعلى درجة الإفضاء، ومرتبة ما تفضي إليه، أي مرتبة الوسيلة، والمتوسل إليه والإفضاء، ونوع الإفضاء.

        2- تترتب الوسائل بترتب المصالح.

        3- الذرائع سدا وفتحا وسائل للمقاصد، لذلك فالنظر إليها يتوقف على القصد وما تئول إليه، وبحسب الأثر المترتب عليها. [ ص: 104 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية