فحوى عملية عولمة التربية والثقافة
وآليات فعلها
يقصد بالثقافة ببساطة وعمومية: جميع طرائق الحياة المشتركة التي طورها الناس في المجتمع، سواء على مستوى طرائق التفكير والتصرف والشعور، التي يعبر عنها مثلا في الدين واللغة والقانون والسلطة والفن والعادات، أو على مستوى المنتجات المادية وأساليبها مثل المنازل والملابس والأدوات وأساليب ووسائل العمل [1] . وينسحب هذا المعنى على الثقافة بوصفها سلوكا متعلما ينتقل إلى الناشئ بطريقة اجتماعية مشتركة يمارسها الشعب أو جزء معين منه.
وتخصيصا لمعنى الثقافة باعتبارها عملية متعلمة، ولأغراض هذه الدراسة تعرف الثقافة حسب ما ذهب إليه "غيرنـز" بأنها: "نظام من التصورات الموروثة، التي يعبر عنها بأشكال رمزية والتي بواسطتها يتواصل البشر، ويطورون معرفتهم عن الحياة، ومواقعهم من الحياة.. ودور الثقافة هو [ ص: 62 ] إسقاط المعنى على العالم وجعله مفهوما. وبذلك فالثقافة تتألف من الرموز [2] الناقلة للمعنى" [3] .
كيف تحدث عولمة التربية؛ حتى تؤسس العولمة قواعدها في البلاد العربية والعالم الثالث؟ وكيف تمارس آليات عولمة التربية فعلها في البلاد العربية؛ حتى تغدو عولمة التربية منطلقا أو سبيلا لعولمة الثقافة والمجالات الأخرى؟
وللإجابة عن هذه التسـاؤلات بداية يمكن القول: إن العولمة ما كان لها أن تتم وتنعقد شروط قيـامها إلا من خـلال تغيـير فكر المتلقي لها، أي من خلال تشكيل الوعي والوجدان، واقتناع الناس بها وتقبلهم لها. بمعنى أن مدخلها هو النظام الثقافي للفكر الجمعي للجماعة أو المجتمع، فهي تستهدف السيطرة على الإدراك لتشكيل الوعي الفردي ثم الجماعي [ ص: 63 ] واستلابه [4] ، عندها تأخذ العولمة طريقها لاختراق الثقافة وتفكيكها تمهيدا لطمسها والحلول محلها.
وتفسير ذلك: لما كانت الثقافة أداة الحفاظ على المجتمع واستمرار حياته من أبعاده الفكرية والمادية، والتربية أداة الثقافة، نشرا وتجديدا؛ فإنها المدخل العملي لعولمة الثقافة، أي أن عولمة التربية هي السبيل لعولمة الثقافة، ومن ثم وضع الأسس لعولمة المجالات الأخرى، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، حتى وإن سبقت عولمة المجالات المادية عولمة الثقافة؛ لأن العناصر المادية تكون أسرع من العناصر الفكرية، غير أن استمرار عولمة العناصر المادية يتوقف على حدوث تغيرات في الفكر الجمعي للثقافة؛ كي تصبح العناصر المادية جزءا من البناء الاجتماعي القائم.
والحقيقة التي لا خلاف عليها هي أن انتقال العناصر الثقافية -المادية منها والفكرية- بين الثقافات أمرا طبيعيا، بل وضروريا؛ لتفاعل الثقافات ونموها وازدهارها، والمعروف أن العناصر المادية تكون أسرع انتقالا بين الثقافات -كما أسلفنا- وتحدث تحولات داخل الثقافة قد تصل إلى ثوابت الثقافة، ومرد ذلك أنه لما كانت العناصـر المـادية هي نتاج البناء الفوقي أو العناصر الفكرية للثقافة وأحد مظاهرها، فإنه عند انتقالها إلى ثقافة أخرى تتوارى مضامينها الفكرية، والأيديولوجية، ولا تظهر لمستهلكها؛ لأنه ليس [ ص: 64 ] بحاجة لأن يتفحص مضمونها طالما أنها تؤدي وظيفتها وتشبع رغباته المادية، وخاصة لدى عامة الشعب، ولكنها بأثرها الفكري المتضمن فيها تحدث تغيرا سلوكيا، وتعدل قيما، وتبدل مفاهيم، وخصوصا إذا طال أمد استهلاك منتجات الثقافات الأخرى، وذلك بتعديل وتحوير العناصر الفكرية، التي تبدأ من الشكل أو المظهر الخارجي، وتظل تتراكم تدريجيا محدثة تحولات كيفية ما تلبث أن تصل إلى لب الثقافة، بمعنى أنها تكون قد أحدثت تغيرا في البناء الفكري في مفاهيم المعاني والمعرفة، وأنماط السلوك والعلاقات والقيم، أي أن العولمة تترسخ في الوعي عن طريق وسائل نشر الثقافة؛ حتى تصبح جزءا من الواقع الحياتي للمجتمع.
أما كيف يتم عولمة التربية فالشرح الآتي يوضح ذلك.
الثابت أن عملية التربية تتم من خلال اتصال الكائن البشري بالمحيط الذي يعيشه، ويحتك به ويتفاعل معه، حتى يكون عضوا مندمجا فيه. والاتصال، بوصفه عملية اجتماعية، تنشأ بالضرورة لنقل ثقافة المجتمع إلى أعضائه الجدد وتكوين شخصية المجتمع الدالة عليه وتجديدها.. ولقد تطورت عملية الاتصال عبر العصور التاريخية والحضارات، وأخذت أشكالا وصورا تدرجت من السهل إلى الصعب، ومن البساطة إلى التعقيد، ومن الفرد إلى المجتمع، ومن الذات إلى الآخر [5] . [ ص: 65 ]
وبطبيعة الحال فأول صور الاتصال تتم بواسطة الثقافة الشفوية من خلال اللغة المنطوقة والصورة المكتوبة، ومن خلال مجموعة الأقوال والأفعال التي يمر بها الطفل وردود أفعاله إزاءها.. وعن طريق الاتصال تنتقل إلى الطفل العناصر الثقافية أثناء احتكاكه بما يسمع ويشاهد، محاولا الاستجابة للجماعة بأن يسلك في ضوء ما تتوقعه الجماعة منه. أي أنه حول ما يسمع ويشاهد إلى رموز ومعان فكرية؛ بناء على ما أدركه ووعاه، وذلك بأن يعمد إلى جعل رموز ومضامين المواقف التي يمر بها سبيلا لمحاكاتها بالأقوال والأفعال المماثلة، أو السلوك المنتظر منه، ثم ما تلبث صور الاتصال تنتقل إلى الثقافة المكتوبة (المقروءة) الأكثر تجريدا، التي يحصل فيها القارئ على المعاني والأفكار من الرموز المكتوبة دون الاستعانة بالرموز المنطوقة، وبدون صوت أو تحريك شفاه. أي أن البصر والعقل هما العنصران الأساس في أدائها، بمعنى تشترك في أدائها الوظائف العضوية (الفسيولوجية) والقدرات الذهنية (العقلية)، غير أن القراءة الصامتة يحصل من خلالها القارئ على أفكار ومعان ومفردات ودلالات أكثر من القراءة الجهرية [6] .
وبذلك، فالاتصال يشير إلى الطريقة التي تنتقل بواسطتها المعلومات والأفكار محملة برموز ومعاني ودلالات بين الناس في الأوساط الاجتماعية التي يتفاعلون داخلها، ووفقا لأنظمة العلاقات الاجتماعية القائمة، سواء أكانت بين شخصين، أم بين جماعتين، أم بين جماعات المجتمع، أم بين المجتمع [ ص: 66 ] القومي ومجتمعات أخرى. وفحوى عملية الاتصـال هو مشاركة شخصين أو أكثر في الخبرة، أو بين طرف يرغب في نقل معلومات أو خبرات إلى طرف آخر يحتاجها، أو إلى آخرين لتحقيق غاية معينة، أو لإتمام عمليات التفاعلات الاجتماعية والاقتصادية والتربوية والإعلامية..الخ [7] .
وثمة فرق بين الاتصال والاتصالات، حيث يقصد "أدوارد سابير" بالاتصال العمليات الأولية المتمثلة في السلوك الشعوري واللاشعوري الذي يقوم عليه الاتصال. ويشمل أربع عمليات هي: اللغة، والإيماء بأوسع المعاني، وتقليد السلوك الظاهر للآخرين، والإيماء الاجتماعي. في حين يطلق على الاتصالات: الوسائل الثانوية وتشمل: الأدوات والنظم التي تساعد على الاتصال كالتخاطب بالإشارة، والنداء بالنفير، والتلفزيون، والفيلم.. الخ [8] .
وفي حين شكلت العمليات الأولية -كما يري سابير- أساسا في الحضارات التاريخية، شكلت الوسائل الثانوية أساسا للاتصالات في الحضارات المتقدمة، حيث تطورت الوسائل الثانوية إلى فنون مادية متطورة؛ كونها تشترك في خاصيتين، أولاهما: أنها تقوم بالاتصال اللغوي في المواقف المختلفة دون المشاركة فيه أو الحضور وجها لوجه، ومنها: الاتصال بالإيحاء والحركة مثل: فنون التصوير والسينما والتلفزيون. وثانيهما: أن الفنون [ ص: 67 ] الثانوية أخذت تنفذ العمليات الأولية للتقليد والإيحاء الاجتماعي بوسائل غير مباشرة. فمثلا لا يقوم التلفزيون بالاتصال بنفسه، وإنما يقوم بذلك عندما يقوم به شخص، أو مرسل لاستقبال رموزه [9] .
ويبدو مما تقدم أن الاتصال: هو العملية. والاتصـالات هي الوسائل أو تقنية الاتصالات التي تنفذ هذه العملية. وتشمل تقنية الاتصالات الحديثة: الوسائل السمعية، والوسائل البصرية، والوسائل السمعية البصرية التي تستخدم أساليب ووسائل (تقنية) متعددة تتعدد بحسب نوع الاتصال، والهدف منه، والأجهزة المستخدمة، وطبيعة مصدره، وما توظف من مثيرات حسية لزيادة التأثير في المتلقي لها وتفاعله معها.
والواضح أن لتقنيات الاتصالات والإعلام والمعلوماتية خصائص فريدة؛ ما يجعلها تتميز على وسائل الاتصالات الشفوية والمقروءة. فأجهزة الشاشة تخاطب حاستي السمع والبصر، وعرض الصورة والصوت في آن واحد فوق أنها تتجاوز حواجز المكان والزمان، وأنها سريعة وفاعلة، فهي تعطي قوة في الإقناع [10] . ولأنها تخاطب أحاسيس الناس ومشاعرهم، وتعمل في اتجاه واحد؛ فلها تأثير سريع وسهل في تكوين الاتجاهات والعادات وأساليب الحياة الجديدة. وهي لذلك لها قوة في التغيير الثقافي. [ ص: 68 ]
وبما أن تقنية الاتصالات والإعلام والمعلومات مصممة لكل الناس كبارا وصغارا، ومتنوعة البرامج، وتصل إلى غرف النوم، وهي تنـقل وجهة نظر أو أيديولوجية المنتجين لها، فلها قدرة فائقة على اختراق الثقافات التقليدية، بدءا من إثارة الشبهات حول القيم والعادات والتقاليد، ومرورا بزعزعة اليقين فيها، وفي جدوى مسايرتها للتغيرات الحاصلة، وانتهاء باستبدالها بثقافة جديدة؛ ذلك أن اختراقها لبعض عناصر الثقافة التقليدية - والثقافة: نظام متماسك ومتفاعل الأجزاء- كاف لتفكيك أجزاء البناء الكلي للثقـافة، عندها ينفرط عقد الثقافة، فيدب الوهن والضعف فيها، وتأخذ في التحلل والزوال.
ويمكن تفسير ذلك من خلال ثقافة العولمة المعتمدة على ثقافة الصورة السمعية البصرية. فطالما أن الاتصال المعاصر أصبح معظمه يتم عن طريق الصورة السمعية البصرية، وأن الصورة حلت محل الثقافة الشفوية والمقروءة؛ فقد غدت ثقافة الصورة السمعية البصرية الواسطة الرئيسة لفهم العالم والعيش فيه، أي باتت وسيلة لتشكيل وعي الإنسان المعاصر وتكوين شخصيته في إطار ثقافة العولمة.
أما كيف تعمل الصورة لتشكيل الشخصية المعاصرة، فيمكن القول: إن الصورة تعتمد على الحواس لنقل العالم الخارجي إلى العقل من خلال لغة الشكل والصورة. ولأن الصورة لا ترتبط بواقع حقيقي، فإنها لذلك تتجاوز حدود الوقع المدرك اللحظي لاستـدعاء الواقع الخيالي الرمزي ومعايشته [ ص: 69 ] كما لو كان واقعا حقيقيا [11] ، وذلك بغرض ترجمة الصور الحسية إلى مدركات عقلية، حيث يقوم العقل أو التفكير البصري بالعمليات الإدراكية متحركا عبر إطار زماني مفتوح متحررا من قيود المكان، لإجراء التمثيلات الداخلية للمدركات الخارجية؛ بناء على خبرات الشخص الحسية.
والتمثيل، عموما، هو العملية التي يقوم بها الإدراك لاستخلاص المعرفة، وجعلها في متناول العقل، بناء على استدعاء المعلومات من الذاكرة لإعادة البناء المعرفي من خلال دمج مفردات وعناصر كثيرة تبعا لما يتطلبه موقف التمثيل، حيث يقوم الإدراك بمشابـهة الواقع الحقيقي بصورة تكون مطابقة أو قريبة، في شكله العقلي، من الصورة الأصلية العيانية، وذلك بإحلال شيء محل شيء آخر، أو يرمز له ببديل آخر [12] شبيه بالخبرة الإدراكية الأصلية، حتى يكون الشخص على وعي ذاتي بها.
وبذلك يقوم العقل بتحويل الصور الحسية إلى صور عقلية تبدو أصلية تماثل ما هو موجود في الواقع الحقيقي، أي أن العقل مثلها برموز؛ كي تبدو واقعية له.
وفي عصر ثقافة الصورة السمعية البصرية غدا الاتصال عبر تقنيات الاتصالات والإعلام والمعلومات واسطة لتقديم المعلومات وتشكيل الجانب [ ص: 70 ] الأكبر من شخصية الإنسان المعـاصر، بمعـنى أن الصورة السمعية البصرية في عصر العولمـة هيمنت على الواقع، وصارت المحاكاة والمماثلة التي يقوم بها عقل الإنسان السبيل لتشـكيل الوعـي ونمـو الشخصية؛ على أساس أنها أصبحت مصدرا رئيسا لمعلومات الشخص المعاصر وخبراته وتصوراته عن الواقع، وتمده بأنماط التفكير والقيم وأساليب الحياة، وتكسبه القدرات العقلية والوجدانية.
وبما أن الصورة السمعية البصرية متحررة من قيود الزمان والمكان، وتطلق العنان للتفكير بعيدا عن أحكام خاصة بالواقع المعاش؛ فإن الصور غير المحددة الأصل أصبحت مكتفية بذاتـها دون الرجـوع إلى الواقع الحقيقي، أو الواقع الموجود، وبالتالي صار إنتاج العقل للتمثيلات المعرفية لا تمثل أصلا محددا؛ لأن الصورة السمعية البصرية المركبة التي تنتجها الوسائط المتعددة أكثر واقعية من الصور الواقعية، بل غدت الصور تنتج واقعا جديدا خلابا وجذابا يدفع المرء إلى الانبهار به، وحلما يتمناه [13] .
وفي هذا السياق يعتبر "بودريان" العالم أنه مجرد صور نقلا عن صور؛ لأن الصورة أصبحت ذات أصول متعددة. وهيمنة الصورة على الواقع جعل العالم مجموعة عمليات تحاكي الصور غير ذات الأصل المحدد [14] . لذلك أخذ الواقع يتآكل ويفقد نفسه تدريجيا أمام عالم الصور المتخيلة والوهمية؛ حتى [ ص: 71 ] صار صعبا التمييز بين المتخيل والواقعي؛ لأن كل ما هو متخيل صار جزءا من الواقع، وكل ما هو واقعي يصبح مكونا صغيرا في ما هو متخيل [15] .
والمثير في تقنية الاتصالات والإعلام والمعلومات أنها غيرت طبيعة الاتصال، ومحتواه وأساليبه ووسائله، وزمنه ومكانه، والغاية النهائية منه. إذ بتطور تقنية الاتصالات والإعلام والمعلوماتية تم تشبيك العالم وجعله قرية كونية واحدة، أخذت فيه تقنية الاتصالات والإعلام والمعلومات تحل محل التواصل القديم، وصارت أكثر انتشارا وأقوى تأثيرا؛ لذلك تراجع التواصل المباشر بين شخصين، أو بين أطراف تتفاعل في الوسط الاجتماعي كما كان يحصل في السابق، وبالتالي أخذ العالم المادي يتلاشى، وتقلصت -إلى حد كبير- التجربة الحية واللقاء المحسوس، وضاقت علاقات التفاعل الحميمة والمشاعر الإنسانية الدافئة ليحل محلها اتصال لامادي بارد ومن بعيد، وبذلك انفصل الفرد عن الواقع المادي، وربط بعالم لا مادي، بأفراد وجماعات بعيده عنه يتفاعل معها من بعد من خلال الصور السمعية البصرية المتلاحقة، التي لا تتطلب أكثر من تحريك العينيين والإصغاء لإدراك هذا الواقع البعيد المتخيل لإغناء العقل دون التفكير في دلالاتها.
ويؤدي تكثيف الاتصال على الصور الحسية أو المشاهد البصرية السمعيـة من بعيد كوسيلـة للاتصـال والتفكير، إلى تغييب عقل الناشئ أو الشخص عن رؤية الواقع، الذي أتت منه الصور السمعية البصرية، [ ص: 72 ] ويضعف قدرات العقل على تفحص مضمون الاتصال وتحليله ونقده؛ لأن تراجع الوجود المادي في تجربة الشخص، وبين معارفه وتجاربه تقل أكثر فأكثر [16] ؛ مما يدفع الشخص لاستبدال العلاقات الأصلية الحية بالتمثيلات المتخيلة أو الصور الذهنية المنمطة، التي تصيغ أشكال التفاعل بين البشر؛ كون الصور -عموما- أكانت ثابتة أو متحركة تعكس زاوية جزئية عن المكان أو الواقع، ذلك أن الصور هي تمثيل للواقع، وليست الواقع ذاته [17] .
وبذلك فالصورة "لها قدرة هائلة على طمس الواقع، أو قل قتل المقدرة الجدلية للتمثيلات الواقعية، والتي تشكل وسائط -مفهومة وجلية ومتطورة- للواقع" [18] ، على أسـاس أن التمثيل للواقع الخيـالي الرمزي يكون أكثر تأثيرا من الواقع الحقيقي؛ كون الواقع الخيالي يخضع لتأويل الشخص وما يريد أن يضفيه عليه، أما الواقع الحقيقي فهو محدد سلفا وإمكانية تأويله محدودة للغاية. [ ص: 73 ]
والذي يحدث هنا أن الواقع الخيالي أو الرمزي أو البعيد يصبح مألوفا ومعياريا؛ لأن الواقع أو المكان الذي تقدمه تقنية الاتصالات والإعلام يمثل واقعا رمزيا يغاير الواقع المادي الحقيقي؛ وبذلك تؤسس تقنية الاتصالات والإعلام واقعا رمزيا يتحدد بمدى اقترابه أو بعده من الواقع الحقيقي بناء على نوع الاتصال، والظروف التي يعيشها هذا الشخص أو ذاك؛ ليغدو بعد ذلك الواقع (اللامادي الرمزي) هو الحقيقة الرمزية لتكوين صور ذهنية نمطية متحيزة، أو مخادعة، أو ناقصة، أو جزئية عن ذلك الواقع اللامادي [19] من ناحية، ثم أن وعي الشخص بحدود الزمن يعكس صورا من التداخل بين الأزمنة؛ ما يجعله يعايش أزمنة متعارضة في بناء ثقافته وسلوكه، وبناء الذات الفردية الاجتماعية [20] .
وحصيلة هذا الوضع بالنسبة للشخص أن العلاقة بين الصور الذهنية الخيالية المنمطة والواقع المادي أو الحقيقي تنتفي؛ نتيجة لتلاشي المسافات بين عالم الصورة وعالم الواقع، كون التمثيلات المتخيلة الوهمية تحل محل الواقع المادي أو تمنعه من الظهور؛ لأن الرموز والإشارات من بعد تأخذ في تشكيل وعي الأفراد ومشاعرهم من خلال تقديم أنماط جامدة من التواصل يتم تداولها عبر العالم عن أساليب حياة الناس والعلاقات بينهم، وعن العمل والسياسة والفن والقيم. وهذا الواقع المتخيل يعيد إنتاج نفسه بصورة [ ص: 74 ] متكررة، وبصورة نمطية متلاحقة؛ حتى لا يتاح للعقل تفحصه وإثباته؛ كون هذا الواقع المتخيل يعيد إنتاج نفسه بأعداد لا نهاية لها، ودون الإشارة إلى سبب الإعادة أو مرجعية تحكم عليها [21] .
ثم إن التواصل من بعد، أو عبر التقنيات الحديثة لا يقيم علاقة بين الشخص والجماعات والعالم، سواء من الناحية المعرفية، أو من الناحية الجمالية، أو من الناحية الأخلاقية؛ كون معاني الصور كثيرة، وكل شخص يفسرها بناء على خبراته السابقة، وما يحب أن يضفيه خياله عليها، وبالتالي تخلو من المشاعر العاطفية واللقاءات الحميمة والتفاعلات الذاتية المتبادلة الصريحة والضمنية؛ مما يجعل التفاعل ملتبسا ويفقده طابعه القيمي الواضح وأساسه الأخلاقي.
ومن جهة أخرى، فالتواصل من بعد يجعل الواقع الحقيقي يتلاشى ويفقد أهميته، ومن ثم يقل ارتباط الشخص بالأرض وبالواقع الحقيقي الذي يعيشه وبهمومه، وبتراجع التزامه بالقيم ومسايرته لأنماط الثقافة الوطنية، ويفقد الماضي قيمته لديه مقابل تزايد اهتمامه بالمستقبل.
وحيث إن العولمة تستهدف النشء والشباب في المقام الأول؛ كون الحصانة الداخلية لديهم لم تتكون بعد، فإن تقنية الاتصالات والإعلام والمعلومات، التي تحاصرهم منذ نعومة أظفارهم، ومعظم أوقات حياتهم هي [ ص: 75 ] التي تكون شخصية موجهة؛ حتى تفكر وتسلك وفق توقعات الآخرين، تبدأ بالمحاكاة والتقليد، وتنتهي بتمثل الشخصية من الخارج.
وكون تقنية الاتصالات والإعلام والمعلومات يقف خلفها النظام الرأسمالي العالمي، المحكوم بمنطق الربح على ما عداه، وتحتكرها الدول الرأسمالية الكبرى عبر شركاتها العملاقة لنشر الثقافة الاستهلاكية؛ فإن هذه التقنيات تؤدي وظائف تجارية وترفيهية وثقافية واتصالية، دعم ذلك وجسده حدوث نقلة نوعية للبنى الاتصالية الاقتصادية؛ نتيجة اندماج ثورة الاتصالات بثورة الاقتصاد، وتمثل ذلك [22] :
- تعميم تقنيات الاتصال المكتوبة والسمعية البصرية، وتحويل مستوى العلاقات بين شرائح المجتمع من العمودي إلى الأفقي، وتحويل الاتجاه الاتصالي من الرأس إلى القاعدة بمضمون سيادي آمر يسمح بتفاعل كل الحضور كما لو كان يحدث في المجتمعات التقليدية.
- تحول البحث في مضمون المنتج ومادته إلى الشكل أو المظهر المرئي؛ بتقديم تفاصيل المنتج وجودة الشكل على مضمونه.
- تحول قيمة الرأسمال مما هو مادي صلب وثابت كالمصانع والبضائع إلى ما هو لا مادي نقدي سيال، وقابل للتحويل كهدف لتراكم رأس المال. [ ص: 76 ]
- مكن تحول الاتصال من البطيء والمكشوف إلى الاتصال السريع والسري الانتقال من الاقتصاد المادي إلى الاقتصاد اللامادي؛ وهذا يجعل من الاتصال شبكة من العلاقات والمعارف، ويعطي هيمنته لتقنية الاتصالات على ما سواها.
يتضح مما تقدم أن عولمة البلاد العربية والعالم الثالث هي عملية تتأسس في الفكر، وهذه في جوهرها عملية تربوية أساسا. فإذا كان الاتصال هو العملية التي بموجبها يتعلم الكائن البشري كيف يعلم نفسه ويكون شخصيته بالصورة التي يريدها في إطار ثقافة مجتمعه، فإن الاتصال لا يتم ولا يؤدي نتائجه المنتظرة إلا بواسطة عملية التربية، المدرسية واللامدرسية، وما ينشأ بينهما من أوجـه تعـاون وتكامل؛ بحيث إذا طغـت إحداهما على الأخرى تولت الدور الأكبر، وأخذت تهمش الأخرى؛ نتيجة لما بينهما من نواح اختلاف.
ونظرا لتطور تقنية الاتصالات والإعلام والمعلومات، حتى غدت منظومة عالمية تربط كل أجزاء العالم؛ فإنها صارت تقوم بالعديد من وظائف التربية المدرسية، وتتغلب عليها في بعض الأحيان، وتتولى الدور الرئيس في التربية اللامدرسية وتكاد تحيدها في كثير من الأحيان.
وبالنظر إلى مدى تغلغل تقنية الاتصالات والإعلام والمعلومات في البلاد العربية، ومستوى هيمنتها على تربية النشء والشباب العربي، وتشكيل شخصياتهم، يمكن القول: إن نظم التربية العربية خاضعة للعولمة، تمارس فعلها [ ص: 77 ] فيها بأوزان وصـور مختلفـة، ويتبدى ذلك في عدة مظاهر، سيتم تناولها في حينها.
وفي ضوء ما سبق، فإن ما تهدف إليه عولمة التربية العربية هو فرض نموذج تربوي موحد في البلاد العربية مماثل لما هو قائم في الدول الرأسمالية الكبرى، بنظام تربوي واحد، وبمناهج تعليمية موحدة، وبأساليب ووسائل مشتركة؛ كي يعيد هذا النموذج إنتاج الحضارة الغربية في بلاد العرب، وذلك باستنساخ أجيال مقطوعة الصلة بعقيدتها وخصوصيتها الذاتية، وبتكوين الإنسان العربي اللامنتمي الفاقد لمقوماته الحضارية الأصيلة؛ حتى يتوحد مع نموذج الحياة الغربية بكل أبعادها الأيديولوجية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والنفسية والأخلاقية وطرائق التفكير ونمط الذوق والعواطف والمشاعر، ومن ثم ذوبان الأمة العربية الإسلامية في الحضارة الغربية وتوحدها معها في نهاية المطاف. [ ص: 78 ]