[ ص: 214 ] كتاب البيوع 1411 - مسألة : - البيع قسمان    - : إما بيع سلعة حاضرة مرئية مقلبة بسلعة كذلك ، أو بسلعة بعينها غائبة معروفة موصوفة ، أو بدنانير ، أو بدراهم - : كل ذلك حاضر مقبوض ، أو إلى أجل مسمى ، أو حالة في الذمة وإن لم يقبض . 
والقسم الثاني : بيع سلعة بعينها غائبة معروفة أو موصوفة بمثلها ، أو بدنانير ، أو بدراهم - : كل ذلك حاضر مقبوض ، أو إلى أجل مسمى ، أو حالة في الذمة وإن لم يقبض . 
أما بيع الحاضر المرئي المقلب بمثله أو بدنانير أو دراهم حاضرة مقبوضة أو إلى أجل مسمى ، أو حالة في الذمة    - : فمتفق على جوازه . 
وأما بيع سلعة غائبة بعينها مرئية موصوفة معينة  ، ففيه خلاف فأحد قولي  الشافعي    : المنع من بيع الغائب جملة - وقال مرة : هو جائز وله خيار الرؤية ، وقال مرة : مثل قولنا في جواز بيع الغائب وجواز النقد فيه ولزوم البيع إذا وجد على الصفة التي وقع البيع عليها بلا خيار في ذلك . 
وأجاز  مالك  بيع الغائبات إلا أنه لم يجز النقد فيها جملة في أحد قوليه - : رواه  ابن وهب  عنه - وأجاز ابن القاسم  عنه النقد في الضياع والدور - قربت أم بعدت - وأما العروض فإنه أجاز النقد فيه إن كان قريبا ولا يجوز إن كان بعيدا . 
وقال  أبو حنيفة    : بيع الغائبات جائز موصوفة وغير موصوفة ، والنقد في ذلك جائز إلا أن الخيار للمشتري إذا رأى ما اشترى ، فله حينئذ أن يرد البيع ، وأن يمضيه سواء وجده كما وصف له ، أو وجده بخلاف ما وصف له .  [ ص: 215 ] وله الخيار أيضا في فسخ البيع أو إمضائه قبل أن يرى ما اشترى . 
ولو أشهد على نفسه أنه قد أسقط ماله من الخيار ، وأنه قد أمضى البيع والتزمه : لم يلزمه شيء من ذلك وهو بالخيار كما كان - فإذا رأى وجه الجارية التي اشترى وهي غائبة ولم يقلب سائرها فقد لزمته وسقط خياره ، ولا يردها إلا من عيب - وكذلك القول في العبد سواء سواء . 
قال : فإن اشترى دابة غائبة فرأى عجزها  لزمته وإن لم ير سائرها ولا يردها إلا من عيب - وكذلك سائر الحيوان حاشا بني آدم    . 
قال : فإن اشترى ثيابا غائبة أو حاضرة مطوية فرأى ظهورها ومواضع طيها ولم ينشرها  فقد لزمته وسقط خياره ولا يردها إلا من عيب . 
قال : فإن اشترى ثيابا هروية في جراب أو ثيابا زطية في عدل ، أو سمنا ، في زقاق ، أو زيتا كذلك ، أو حنطة في غرارة ، أو عروضا مما لا يكال ولا يوزن ، أو حيوانا ولم ير شيئا من ذلك    : فإن له خيار الرؤية حتى يرى كل ما اشترى من ذلك . 
ولو رأى جميع الثياب إلا واحدا منها أو جميع الدواب إلا واحدا منها  فله فسخ البيع إن شاء ، وسواء وجد كل ما رأى كما وصف له بخلاف ما وصف له ، إلا السمن والزيت ، والحنطة ، فإنه إن رأى بعض ذلك فكان ما لم ير منه مثل الذي رأى : فقد لزمه البيع وسقط خياره . قال : فإن ابتاع دارا فرآها من خارجها ولم يرها من داخل    : فقد لزمته وسقط خيار الرؤية ولا يردها إلا من عيب - وروي عن  زفر    : أنه لا يسقط خياره إلا حتى يرى مع ذلك شيئا من أرضها . 
وقال  أبو يوسف    : لمس الأعمى لباب الدار ولحائطها : يسقط خياره ويلزمه البيع  ، ولا يردها إلا من عيب . 
قال  أبو حنيفة  ، وأصحابه : وليس له أن يرد البيع إذا رأى ما ابتاع إلا بمحضر البائع ، فلو اشترى اثنان شراء واحد غائبا فرأياه فرد أحدهما البيع وأجازه الآخر  فلا يجوز الرد إلا أن يرداه معا .  [ ص: 216 ] قالوا : فإن أرسل رسولا ليقبض له ما اشترى فرأى الرسول الشيء المبيع وقبضه  فالمشتري باق على خياره ، فلو وكل وكيلا فرأى الوكيل الشيء المبيع وقبضه  فقد سقط خيار المشتري في قول  أبي حنيفة  ، ولم يسقط عند  أبي يوسف  ،  ومحمد    - وقال  أبو حنيفة  مرة : الخيار أيضا للبائع إذا باع ما لم ير كما للمشتري ، ثم رجع عن ذلك . 
قال  أبو محمد    : وروي في ذلك عن السلف وفي ذلك أثر ، وهو أن  عثمان  باع من  طلحة  رضي الله عنهما أرضا بالكوفة  ، فقيل  لعثمان    : إنك قد غبنت ، فقال  عثمان    : لي الخيار لأني بعت ما لم أر ، وقال  طلحة    : بل لي الخيار لأني اشتريت ما لم أر - : فحكم بينهما  جبير بن مطعم  ، فقضى : أن الخيار  لطلحة  لا  لعثمان    - وقال  ابن شبرمة    : بخيار الرؤية للبائع وللمشتري معا كما روي عن  عثمان    . 
ومن طريق  ابن أبي شيبة  نا  هشيم  عن إسماعيل بن سالم  ،  ويونس بن عبيد  والمغيرة  ، قال  إسماعيل    : عن الشعبي  ، وقال  يونس    : عن الحسن  ، وقال المغيرة    : عن  إبراهيم  ، ثم اتفقوا كلهم فيمن اشترى شيئا لم ينظر إليه كائنا ما كان  ، قالوا : هو بالخيار إن شاء أخذ وإن شاء ترك ، وقال  إبراهيم    : هو بالخيار وإن وجده كما شرط له ، وروي أيضا عن مكحول    - وهو قول الأوزاعي  ،  وسفيان الثوري    - والنقد عندهم في كل ذلك جائز . 
وخالفهم غيرهم ، كما روينا من طريق الحجاج بن المنهال  عن  حماد بن سلمة  عن  أيوب السختياني  عن  محمد بن سيرين  قال : إذا ابتاع الرجل البيع ولم يره ونعت له فوافق النعت وجب في عتقه . قال  الحجاج    : وحدثنا  حماد بن زيد  عن أيوب  عن  ابن سيرين    : إذا ابتاع البيع ولم يره فوصفه له البائع فجاء على الوصف فهو له . 
وقال الحسن    : هو بالخيار إذا رآه . 
قال  أيوب    : ولا أعلم رجلا اشترى بيعا لم يره فوصفه له البائع فوجده على ما وصفه له فرده عليه  إلا هو من الظالمين ؟ ومن طريق  ابن أبي شيبة  نا جرير  عن المغيرة  عن الحارث العكلي  فيمن اشترى  [ ص: 217 ] العدل من البر فنظر بعض التجار إلى بعضه فقد وجب عليه إذا لم ير عوارا فيما لم ينظر إليه . 
ومن طريق  شعبة  عن الحكم  ، وحماد  فيمن اشترى عبدا قد رآه بالأمس ولم يره يوم اشتراه ، قالا جميعا : لا يجوز حتى يراه يوم اشتراه . 
قال  أبو محمد    : هذا كله ما نعلمه عن المتقدمين - فأما أقوال  أبي حنيفة  التي ذكرنا فأقوال في غاية الفساد لا تؤثر عن أحد من أهل الإسلام قبله - نعني الفرق بين ما يسقط الخيار مما يرى من الرقيق ، ومما يرى من الدواب ، ومما يرى من الثياب الزطية في الوعاء ، وما يرى من الثياب التي ليست في عدل ، وما يرى من السمن ، والزيت ، والحنطة ، والدور ، وكل ذلك وساوس لا حظ لها في شيء من العقل ، ولا لها مجاز على القرآن ، ولا السنن ، ولا الروايات الفاسدة ، ولا قول أحد من السلف ، ولا من قياس - لا جلي ولا خفي - ولا من رأي له حظ من السداد ، وما كان هكذا فلا يحل لأحد القول به . 
وأما قولا  مالك  جميعا فكذلك أيضا سواء سواء ، ولا نعلمهما عن أحد قبله ، وما لهم شبهة أصلا ، إلا أن بعضهم ادعى العمل في ذلك ، وهذا باطل ; لأنهما عنه قولان كما ذكرنا كلاهما مخالف لصاحبه - فإن كان العمل على أحدهما فقد خالف العمل في قوله الآخر ، وخلاف المرء لما يراه حجة قاطعة في الدين عظيم جدا ، وليس في الممكن أن يكون العمل على كليهما . 
وأيضا : فإن تحديده جواز النقد - إن كان المبيع قريبا - ومنعه من النقد إن كان المبيع بعيدا - وهو لم يحد مقدار البعد الذي يحرم فيه النقد من القرب الذي يجوز فيه النقد عجب جدا ؟ وأي عجب أعجب ممن يحرم ويحلل ثم لا يبين لمن يتبعه العمل المحرم ليجتنبه من المحلل ليأتيه . 
واحتج بعض مقلديه في المنع من النقد في ذلك - وهو قول  الليث    - بأن قال : إن نقد في ذلك ثم وجده على خلاف ما وصف له فرد البيع كان البائع قد انتفع بالثمن مدة فصار ذلك سلفا جر منفعة ؟ قال  أبو محمد    : وهذا الاحتجاج أفسد من القول الذي احتج له .  [ ص: 218 ] ونقول لهم : نعم فكان ماذا ؟ وما صار قط سلفا جر منفعة بل هو بيع كسائر البيوع ولا فرق . ثم أين وجدتم المنع من سلف جر منفعة ؟ في أي كتاب الله عز وجل وجدتم ذلك ؟ أم في أي سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أم في أي قول صاحب ؟ ثم العجب كله أنه ليس على ظهر الأرض سلف إلا وهو يجر منفعة للمستسلف ، ولولا أنه ينتفع به ما استسلفه ، فما سمعنا بأبرد ولا بأغث من هذا القول ؟ ثم لو كان ما ذكروا لوجب بذلك إبطال جميع البيوع كلها ; لأنه لا بيع في العالم إلا وهذه العلة موجودة فيه ; لأنه لا بيع إلا وممكن أن يستحق فيرد ، أو يوجد فيه عيب فيرد به ، فهلا منعوا النقد في كل بيع من أجل ذلك ؟ لأنه إذا رد صار البائع قد رد إلى المشتري الثمن بعد أن انتفع به فيصير سلفا جر منفعة ؟ وما ندري كيف يستجيز ذو ورع أن يغر قوما من المسلمين بمثل هذا الاحتجاج الفاسد ؟ ونسأل الله العافية - فسقط هذا القول جملة .
وأما قول  الشافعي  في المنع من بيع الغائب فإن أصحابه احتجوا له بنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر ، وعن الملامسة ، والمنابذة ، لا نعلم لهم حجة غير هذا أصلا ، ولا حجة لهم فيه ; لأن بيع الغائب إذا وصف عن رؤية  ، وخبرة ، ومعرفة ، وقد صح ملكه لما اشترى ، فأين الغرر ؟ فإن قالوا : قد تهلك السلعة قبل حين البيع فيقع البيع فاسدا ؟ قلنا : وقد تستحق السلعة فيقع البيع فاسدا ولا فرق فأبطلوا بهذا النوع من الغرر كل بيع في الأرض ، فلا غرر ههنا أصلا ، إلا كالغرر في سائر البيوع كلها ولا فرق . وأما المنابذة ، والملامسة - فروينا من طريق أحمد بن شعيب   أنا محمد بن عبد الأعلى  نا  المعتمر بن سليمان    [ قال ] سمعت  عبيد الله - هو ابن عمر    - عن خبيب بن عبد الرحمن  عن  حفص بن عاصم  عن  أبي هريرة  عن النبي صلى الله عليه وسلم : { أنه نهى عن بيعتين :  [ ص: 219 ] المنابذة والملامسة   } ، وزعم أن الملامسة أن يقول الرجل للرجل : أبيعك ثوبي بثوبك ، ولا ينظر واحد منهما إلى ثوب الآخر ولكن يلمسه لمسا والمنابذة أن يقول : أنبذ ما معي وتنبذ ما معك ليشتري أحدهما من الآخر ، ولا يدري كل واحد منهما كم مع الآخر ، ونحو من ذا " . 
ومن طريق أحمد بن شعيب   أنا  أبو داود الطيالسي  نا يعقوب بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف  نا أبي عن  صالح - هو ابن كيسان    - عن ابن شهاب  أن  عامر بن سعد بن أبي وقاص  أخبره أن  أبا سعيد الخدري  رضي الله عنه قال : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الملامسة ، والملامسة لبس الثوب لا ينظر إليه - وعن المنابذة ، والمنابذة طرح الرجل ثوبه إلى الرجل قبل أن يقلبه   } . قال  أبو محمد    : وهذا حرام بلا شك ، وهذا تفسير  أبي هريرة  ،  وأبي سعيد  رضي الله عنهما ، وهما الحجة في الشريعة ، واللغة ، ولا مخالف لهما في هذا التفسير ، وليس هذا بيع غائب ألبتة ، بل هو بيع حاضر - فظهر تمويه من احتج منهم بهذين الخبرين . 
قال  علي    : إلا أن هذين الخبرين هما حجة على  أبي حنيفة  في إجازته بيع الغائب والحاضر غير موصوفين ولا مرئيين . 
قال  علي    : ومما يبطل قول  الشافعي  أنه لم يزل المسلمون يتبايعون الضياع بالصفة ; وهي في البلاد البعيدة ، قد بايع  عثمان   ابن عمر  رضي الله عنهم مالا  لعثمان  بخيبر  بمال  لابن عمر  بوادي القرى  ، وهذا أمر مشهور . 
فإن احتجوا بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عندك ؟ . 
قلنا : نعم ، والغائب هو عند بائعه لا مما ليس عنده ; لأنه لا خلاف في لغة العرب  في صدق القائل : عندي ضياع ، وعندي دور ، وعندي رقيق ومتاع - غائب وحاضر - إذا كان كل ذلك في ملكه ، وإنما ليس عند المرء ما ليس في ملكه فقط ، وإن كان في يده .  [ ص: 220 ] والبرهان على فساد قول  الشافعي  هذا هو قول الله تعالى : { وأحل الله البيع    } . وقوله تعالى : { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم    } . 
فبيع الغائب بيع داخل فيما أحله الله تعالى ، وفي التجارة التي يتراضى بها المتبايعان ، فكل ذلك حلال إلا بيعا حرمه الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في القرآن ، والسنة الثابتة . 
ومن الباطل المتيقن أن يكون الله تعالى يحرم علينا بيعا من البيوع فيجمل لنا إباحة البيع جملة ولا يبينه لنا على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم المأمور بالبيان ، هذا أمر قدمناه - ولله تعالى الحمد - لقوله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها    } . وليس في وسعنا أن نعرف ما حرم الله علينا ، وما أحله لنا ، وما أوجبه علينا ، إلا بورود النص بذلك ، وما نعلم  للشافعي  في المنع من بيع الغائبات الموصوفات سلفا . 
فإن قيل : فأين قول الحكم  ، وحماد  ، الذي رويتموه آنفا ؟ قلنا : إنهما لم يمنعا من بيع الغائب ، وإنما منعا من بيع ما لم يره المشتري يوم الشراء - وقد يراه في أول النهار ويغيب بعد ذلك - فلم يشترطا حضوره في حين عقد البيع ، ولا يحل أن يقول أحد ما لم يقل بالظن الكاذب وبالله التوفيق . 
قال  علي    : فسقطت هذه الأقوال كلها ، وبقي قول من أوجب خيار الرؤية جملة على ما روينا عن  إبراهيم  ، والحسن  ، والشعبي  ،  ومكحول  ، وأحد قولي  الشافعي  ، فوجدناهم يذكرون أثرا رويناه من طريق  وكيع  عن الحسن بن حي  عن الحسن البصري    " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { من اشترى بيعا فهو بالخيار حتى ينظر إليه   } . 
قال  أبو محمد    : وهذا مرسل ولا حجة في مرسل ، ثم لو صح لما كان لهم فيه حجة ; لأنه ليس فيه : أن له الخيار إذا وجده كما وصف له ، وظاهره قطع الخيار بالنظر ، فهو مخالف لقول  أبي حنيفة  جملة - وبالله تعالى التوفيق - .  [ ص: 221 ] 
وهذا مما تركه المالكيون ، وهم يقولون بالمرسل ; لأنهم لا يجعلون لهم خيارا قبل أن يراه أصلا . وذكروا ما روينا من طريق  سعيد بن منصور  عن  إسماعيل بن عياش  عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم  عن مكحول    " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { من اشترى شيئا لم يره فهو بالخيار إذا رآه ، إن شاء أخذه ، وإن شاء رده   } .  وإسماعيل  ضعيف ، وأبو بكر بن مريم  مذكور بالكذب ، ومرسل مع ذلك ، ثم لو صح لم يكن لهم فيه حجة ; لأنه يحتمل أن يريد له رده إن وجده بخلاف ما وصف له . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					