؟ وما عدا الأنواع المذكورة فمختلف فيه ، أيقع فيه الربا أم لا
والربا من أكبر الكبائر قال تعالى { : الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا } .
وقال تعالى { : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله } .
ومن طريق أنا مسلم هارون بن سعيد الأيلي أنا أخبرني ابن وهب عن سليمان بن بلال ثور بن زيد عن أبي الغيث عن " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { أبي هريرة } . اجتنبوا السبع الموبقات قيل : يا رسول الله ، وما هن ؟ قال : الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات
ومن طريق أنا مسلم أنا عثمان بن أبي شيبة - عن جرير - هو ابن عبد الحميد المغيرة بن مقسم أنا إبراهيم - هو النخعي - عن علقمة بن قيس عن قال { ابن مسعود } . لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله
[ ص: 403 ] قال : فإذا أحل الله تعالى البيع وحرم الربا فواجب طلب معرفته ليجتنب ، وقال تعالى { أبو محمد وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه } .
فصح أن ما فصل لنا بيانه على لسان رسوله عليه السلام من الربا ، أو من الحرام ، فهو ربا وحرام ، وما لم يفصل لنا تحريمه فهو حلال ، لأنه لو جاز أن يكون في الشريعة شيء حرمه الله تعالى ثم لم يفصله لنا ، ولا بينه رسوله عليه السلام لكان تعالى كاذبا في قوله تعالى { : وقد فصل لكم ما حرم عليكم } وهذا كفر صريح ممن قال به ، ولكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عاصيا لربه تعالى إذ أمره بالبيان فلم يبين فهذا كفر متيقن ممن أجازه .
وممن قال : لا ربا إلا في الأصناف المذكورة : ، طاوس ، وقتادة ، وعثمان البتي ، وجميع أصحابنا . وأبو سليمان
واختلف الناس في هذا ، فقالت طائفة : إن هذه الأصناف الستة إنما ذكرت لتكون دلالة على ما فيه الربا مما سواها مما يشبهها في العلة التي حيثما وجدت كان ما وجدت فيه ربا .
ثم اختلفوا في تلك العلة ، وكل طائفة منها تبطل علة الآخرين أو تنفيها فقالت طائفة : هي الطعم ، واللون - : روينا من طريق عن ابن وهب قال : سئل يونس بن يزيد عن ابن شهاب ؟ فقال الحمص بالعدس اثنان بواحد يدا بيد : كل شيء خالف صاحبه باللون ، والطعم ، فلا أراه إلا شبه الطعام - وقال ابن شهاب : وبلغني عن ابن وهب ، ابن مسعود ، ويحيى بن سعيد الأنصاري ، مثله . وربيعة
قال : فنظرنا في هذا فوجدناه قولا بلا دليل فسقط - وقد بين أبو محمد أنه رأي منه والرأي إذا لم يسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهو خطأ بلا شك . ابن شهاب
وقالت طائفة : هي وجوب الزكاة ، كما روينا من طريق عن ابن وهب عبد الجبار بن عمر عن : أنه كان لا يرى بأسا بالتفاحتين بالتفاحة ، والخوخ مثل ذلك . ربيعة بن أبي عبد الرحمن
[ ص: 404 ] وكل ما لم تجز فيه الزكاة ، فنظرنا في هذا فوجدناه أيضا قولا بلا دليل ، ووجدنا الملح لا زكاة فيه ، والربا يقع فيه بالنص ، فبطل .
قال : وما يعجز من قلد علي في هذا عما قدر عليه ربيعة ، مالك ، بزيادتهم في علتهم ، كما قال والشافعي : علة الربا الطعم ، والتثمين . الشافعي
وقول : علة الربا الادخار فيما يؤكل ، والتثمين . مالك
فهل هذا إلا كقول من قلد : علة الربا بما فيه الزكاة والملحية ؟ وهل هي إلا دعوى كدعوى كلاهما بلا برهان ؟ ربيعة
وقالت طائفة بغير ذلك - : كما روينا من طريق أنا عبد الرزاق عن عبد الله بن كثير سألت شعبة الحكم بن عتيبة عمن اشترى خمسة عشر جريبا من أرض بعشرة أجربة ؟ فقال : لا بأس به - وكرهه ولا ندري ما علته في ذلك ، ولعلها الجنس ، فلم يجز التفاضل في جنس واحد ، كائنا ما كان والله أعلم ، إلا أنها دعوى ليست غيرها أصح منها ، ولا هي بأضعف من غيرها . حماد بن أبي سليمان
وقد روي مثله عن ، وهو أنه جعل علة الربا تقارب المنفعة في الجنس الواحد ، أو الجنسين . سعيد بن جبير
وقد روينا من طريق الحجاج بن المنهال أنا عن الربيع بن صبيح قال : إذا اختلف النوعان فلا بأس إذا كان يدا بيد ، واحدا باثنين . محمد بن سيرين
قال : وهذه أعم العلل فيلزم من قال منهم : بالعلة العامة أن يقول بها - وقال المالكيون : أبو محمد هي الاقتيات ، والادخار في الجنس ، فما كان يدخر مما يكون قوتا في الأكل ، فالربا فيه نقدا ونسيئة ، وما كان لا يقتات ولا يدخر ، فلا يدخل الربا فيه يدا بيد - وإن كان جنسا واحدا - لكن يدخل فيه الربا في النسيئة إذا كان جنسا واحدا ، وهذه هي علة المتقدمين منهم ، ثم رغب عنها المتأخرون منهم ; لأنهم وجدوها تفسد عليهم ، لأن الثوم ، أو البصل ، والكراث ، والكرويا ، والكزبرة ، والخل ، والفلفل - نعم ، والملح الذي جاء فيه النص ليس منه شيء يكون قوتا أصلا ، بل بعضه يقتل إذا أكل منه نصف وزن ما يؤكل مما يتقوت به ، كالملح ، والفلفل ، فلو أن إنسانا أكل رطل فلفل في جلسة لقتله بلا شك ، وكذلك الملح ، والخل الحاذق ، وكذلك [ ص: 405 ] الثوم - ووجدوها تفسد عليهم أيضا في اللبن ، والبيض ، فإنهما لا يمكن ادخارهما ، والربا عندهم يدخل فيهما ، ووجدوها أيضا تفسد عليهم في الكمون ، والشونيز ، والحلبة الرطبة ، والكزبرة ، والكرويا ، ليس شيء من ذلك قوتا ، والربا عندهم في كل ذلك ، فلما رأوا هذه العلة كذلك ، وهي علة من قلدوه دينهم اطرحوها ، ولم تكن عليهم مؤنة في استخراج غيرها بآرائهم لتستقيم لهم آراؤهم في الفتيا عليها ؟ فقال بعضهم : إنما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلى القوت ، وهو البر ، وأدون القوت ، وهو الملح ، ليدل على أن حكم ما بينهما كحكمهما . علة الربا
قال : هذا كذب على النبي صلى الله عليه وسلم مجرد بلا كلفة ، وما ندري كيف ينشرح صدر مسلم لإطلاق مثل هذا على الله تعالى ، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم ؟ أبو محمد
ولو أطلق هذا المطلق مثله على سائس حماره بغير أن يخبره به عن نفسه لكان كاذبا مجرحا بذلك ، فكيف على الله تعالى وعلى نبيه عليه السلام ؟ اللهم لك الحمد على عظيم نعمتك في تنفيرنا عن مثل هذا وشبهه .
ثم لم يرض سائرهم هذه العلة وقالوا : ليس الملح دون الأقوات ، بل الحاجة إليه أمس منها إلى الثوم ، والحلبة الرطبة ، والشونيز ، فارتادوا غيرها ، كمن يتحكم في بيدر تمره ، ويأخذ ما استحسن ويترك ما لم يستحسن .
فقالوا : العلة في الربا مختلفة ، فمنها الاقتيات ، والادخار ، كما قال أسلافهم قياسا على البر والشعير - ومنها الحلاوة ، والادخار ، كالزبيب والتين ، والعسل قياسا على التمر - ومنها التأدم ، والادخار قياسا على الملح ، وهذا تعليل استصنعه لهم ، وهذا تعليل يفسد عليهم ; لأن السلجم والباذنجان ، والقرع ، والكرنب ، والرجلة ، والقطف ، والسلق ، والجزر ، والقنبيط ، واليربز إدام الناس في الأغلب . محمد بن عبد الله بن صالح الأبهري
وكثير من ذلك يدخر ولا يقع الربا فيه عندهم : كاللفت ، والجزر ، والباذنجان ، بل كل ذلك يجوز منه اثنان بواحد يدا بيد من جنس واحد ، فاطرح بعضهم هذه العلة ولم تعجبه لما ذكرنا فزاد فيها بأن قال : ومنها الحلاوة ، والادخار مما يتفكه به ويصلح للقوت - فلم يرض غيره منهم هذه العلة وقال : ليست بشيء ; لأن الفلفل ، والثوم ، [ ص: 406 ] والكرويا ، والكمون ، ليس شيء منها يتفكه به ولا يصلح للقوت ، ولا يتأدم به ، ولا هو حلو .
وأيضا : فإن العناب والإجاص المزبب ، والكمثرى المزبب والمخيطاء كلها يتفكه به ويصلح للقوت ، ولا يدخل الربا في شيء منه عندهم - فاحتاج إلى استعمال علة أخرى ، فقال : العلة هي الاقتيات ، والادخار ، وما يصلح به الطعام المتقوت به ليصح له فيما ظن إدخال : الكمون ، والكرويا ، والبصل ، والثوم ، والكراث ، والفلفل ، والخل ، فيما يقع فيه الربا قياسا على الملح ; لأن الطعام يصلح بكل ذلك .
قال : وهذه أفسد العلل التي ذكروا ، وإن كانت كلها فاسدة ، واضحة البرهان ، برهان ذلك - : أن إصلاح الطعام بما ذكرنا من التوابل ، والخضراوات ، والخل ، لا يشبه إصلاحه بالملح أصلا ; لأن الطعام المطبوخ إن لم يؤكل أصلا ، ولا يقدر عليه أحد ، إلا من قارب الموت من الجوع أو خافه ، وإما إصلاحه بالتابل ، والخضراوات المذكورة فما بالطعام إلى شيء منه حاجة إلا عن بذخ وأشر . أبو محمد
وأيضا : فإن كل ذي حس سليم في العالم يدري بضرورة الحس أن إصلاح الطعام بالكرويا ، والكمون ، والفلفل ، والكزبر ، والشونيز ، كإصلاحه بالدارصيني ، والخولنجان ، والقرفة ، والسنبل ، والزعفران ، ولا فرق ، بل إصلاحه بهذه أطيب له وأعبق ، وأصلح منه بتلك ، والربا عندهم لا يدخل في هذه ، وبلا شك أن الضرورة في إصلاح الطعام بالماء أشد وأمس ، والربا عندهم لا يدخل في الماء بالماء - وما نعلم لهم علة غير ما ذكرنا .
وهذه العلل كلها ذكر بعضها عبد الله بن أبي زيد القيرواني ، وذكر سائرها ابن القصار ، وعبد الوهاب بن علي بن نصر في كتبهم مفرقة ومجموعة .
قال : وكلها فاسد بما ذكرنا من التخاذل ، وبأنها موضوعة مستعملة - ويقال لهم : ما الفرق بين علتكم هذه وبين من قال : بل علة الربا ما كان ذا سنبل قياسا على البر ، والشعير ، وما كان ذا نوى قياسا على التمر ، وما كان طعمه ملحيا قياسا على الملح ، وما كان معدنيا قياسا على الذهب ، والفضة . أبو محمد
[ ص: 407 ] فإن قالوا : لم يقل بهذا أحد ؟ قلنا : ولا قال بعللكم أحد قبلكم .
فإن قال قائل : هذه أيضا يكون مثلكم ، وأيضا : فمن أين خرج لكم أن تعللوا البر ، والشعير ، والتمر ، والملح ؟ ولا تعللون الذهب ، والفضة ، وكلها جاء النص به سواء ، فمن أين هذا التحكم يا هؤلاء ؟ وهل هذا إلا شبه اللعب ؟ وليس هذا مكان دعوى إجماع ، فقد علل الحنفيون الذهب والفضة بالوزن ، وعللوا الأصناف الأربعة بالكيل .
قال : وغيرهم لم يعلل شيئا من ذلك ، ولا بد من تعليل الجميع والقياس عليه ، أو ترك تعليل الجميع وترك القياس عليه ، والاقتصار على ما جاء به النص فقط ، وهذا ما لا مخلص لهم منه أصلا . علي
وقد أجهدنا أنفسنا في أن نجد لنظارهم شيئا يقوون به شيئا من هذه العلل يمكن إيراده - وإن كال شغبا - فما قدرنا عليه في شيء من كتبهم .
وجهدنا أن نجد لهم شيئا نورده - وإن لم يوردوه - كما نفعل بهم وبكل من خالفنا ، فإنهم وإن كانوا لم ينتبهوا له فلا يبعد أن ينتبه له منتبه فيشغب به ، فما قدرنا على ذلك .
وأيضا : فإننا لم نجد في تعليله المذكور الذي عليه بنى أقواله في الربا سلفا ألبتة ، لا من صاحب ; ولا من تابع ، ولا من أحد قبله ، ولهم تخاليط عظيمة في أقوالهم في الربا ، فقد تقصيناها في غير هذا المكان ، ولم نذكرها ههنا ; لأنه كتاب مختصر ، لكن يكفي من إيرادها : أن ينظر كل ذي فهم كيف تكون أقوال بنيت على هذه القواعد وفروع أنشئت من هذه الأصول ؟ وبالله تعالى التوفيق . لمالك