فكان قتال المسلمين فيما بينهم على وجهين : قتال البغاة ، وقتال المحاربين - فالبغاة قسمان لا ثالث لهما : إما قسم خرجوا على تأويل في الدين فأخطئوا فيه ، كالخوارج وما جرى مجراهم من سائر الأهواء المخالفة للحق .
وإما قسم أرادوا لأنفسهم دنيا فخرجوا على إمام حق ، أو على من هو في السيرة مثلهم ، فإن تعدت هذه الطائفة إلى إخافة الطريق ، أو إلى أخذ مال من لقوا ، أو سفك الدماء هملا : انتقل حكمهم إلى حكم المحاربين ، وهم ما لم يفعلوا ذلك في حكم البغاة .
فالقسم الأول من أهل البغي يبين حكمهم : ما نا هشام بن سعد الخير نا عبد الجبار بن أحمد المقرئ نا الحسن بن الحسين البجيرمي نا جعفر بن محمد الأصبهاني نا نا يونس بن حبيب نا أبو داود الطيالسي أخبرني شعبة ، أيوب السختياني وخالد الحذاء ، كلاهما قال : عن أخبرتنا أمنا عن الحسن البصري : { أم سلمة تقتلك الفئة الباغية عمار } قال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في رحمه الله : وإنما قتل أبو محمد رضي الله عنه - أصحاب عمار رضي الله عنه وكانوا متأولين تأويلهم فيه - وإن أخطئوا الحق - مأجورون أجرا واحدا : لقصدهم الخير . معاوية
[ ص: 334 ] ويكون من المتأولين قوم لا يعذرون ، ولا أجر لهم : كما روينا من طريق نا البخاري نا أبي نا عمر بن حفص بن غياث نا الأعمش خيثمة نا قال قال سويد بن غفلة : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { علي } . سيخرج قوم في آخر الزمان ، أحداث الأسنان ، سفهاء الأحلام ، يقولون من قول خير البرية ، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم ، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة
وروينا من طريق نا مسلم نا محمد بن المثنى عن محمد بن أبي عدي - عن سليمان هو الأعمش عن أبي نضرة { أبي سعيد الخدري } وذكر الحديث . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر قوما يكونون في أمته يخرجون في فرقة من الناس ، سيماهم التحالق ، هم شر الخلق ، أو من شر الخلق ، تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق
قال رحمه الله : ففي هذا الحديث نص جلي بما قلنا ، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر هؤلاء القوم فذمهم أشد الذم ، وأنهم من شر الخلق ، وأنهم يخرجون في فرقة من الناس . أبو محمد
فصح أن أولئك أيضا : مفترقون ، وأن الطائفة المذمومة تقتلها أدنى الطائفتين المفترقتين إلى الحق ، فجعل عليه السلام في الافتراق تفاضلا ، وجعل إحدى الطائفتين المفترقتين لها دنو من الحق - وإن كانت الأخرى أولى به - ولم يجعل للثالثة شيئا من الدنو إلى الحق .
فصح أن التأويل يختلف ، فأي طائفة تأولت في بغيتها طمسا لشيء من السنة ، كمن قام برأي الخوارج ليخرج الأمر عن قريش ، أو ليرد الناس إلى القول بإبطال الرجم ، أو تكفير أهل الذنوب ، أو استقراض المسلمين ، أو قتل الأطفال والنساء ، وإظهار القول بإبطال القدر ، أو إبطال الرؤية ، أو إلى أن الله تعالى لا يعلم شيئا إلا حتى يكون ، أو إلى البراءة عن بعض الصحابة ، أو إبطال الشفاعة ، أو إلى إبطال العمل بالسنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا إلى الرد إلى من دون رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إلى المنع من الزكاة ، أو من أداء حق من مسلم ، أو حق لله تعالى : فهؤلاء لا يعذرون بالتأويل الفاسد ; لأنها جهالة تامة .
[ ص: 335 ] وأما من دعا إلى تأويل لا يحل به سنة ، لكن مثل تأويل في أن يقتص من قتلة معاوية عثمان قبل البيعة : فهذا يعذر ; لأنه ليس فيه إحالة شيء من الدين ، وإنما هو خطأ خاص في قصة بعينها لا تتعدى . لعلي
ومن قام لعرض دنيا فقط ، كما فعل ، يزيد بن معاوية ، ومروان بن الحكم في القيام على وعبد الملك بن مروان ، وكما فعل ابن الزبير في القيام على مروان بن محمد ، وكمن قام أيضا عن يزيد بن الوليد مروان ، فهؤلاء لا يعذرون ، لأنهم لا تأويل لهم أصلا ، وهو بغي مجرد .
وأما من ، وإظهار القرآن ، والسنن ، والحكم بالعدل : فليس باغيا ، بل الباغي من خالفه - وبالله تعالى التوفيق . دعا إلى أمر بمعروف ، أو نهي عن منكر
وهكذا إذا - وهذا مكان اختلف الناس فيه : فقالت طائفة : إن السلطان في هذا بخلاف غيره ، ولا يحارب السلطان وإن أراد ظلما . أريد بظلم فمنع من نفسه - سواء أراده الإمام أو غيره
كما روينا من طريق عن عبد الرزاق عن معمر أن رجالا سألوا أيوب السختياني فقالوا : أتينا ابن سيرين الحرورية زمان كذا وكذا ، لا يسألون عن شيء غير أنهم يقتلون من لقوا ؟ فقال : ما علمت أن أحدا كان يتحرج من قتل هؤلاء تأثما ، ولا من قتل من أراد قتالك إلا السلطان ، فإن للسلطان نحوا . ابن سيرين
وخالفهم آخرون فقالوا : السلطان وغيره سواء ، كما روينا من طريق عن عبد الرزاق عن معمر أيوب عن قال { أبي قلابة إلى عامل له أن يأخذ الوهط فبلغ ذلك معاوية بن أبي سفيان فلبس سلاحه هو ومواليه وغلمته ، وقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من قتل دون ماله - مظلوما - فهو شهيد . عبد الله بن عمرو بن العاص } : أرسل
ومن طريق عن عبد الرزاق أخبرني ابن جريج عمرو بن دينار ، قال : { تيسر للقتال دون الوهط ، ثم قال : مالي لا أقاتل دونه وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول من قتل دون ماله فهو شهيد عبد الله بن عمرو بن العاص } . إن
[ ص: 336 ] قال : وأخبرني ابن جريج سليمان الأحول أن ثابتا مولى عمر بن عبد الرحمن أخبره ، قال : لما كان بين ، وبين عبد الله بن عمرو بن العاص عنبسة بن أبي سفيان ما كان وتيسروا للقتال ركب خالد بن العاص - هو ابن هشام بن المغيرة المخزومي - إلى فوعظه ، فقال له عبد الله بن عمرو : أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال { عبد الله بن عمرو بن العاص } قال من قتل على ماله فهو شهيد رحمه الله : فهذا أبو محمد بقية الصحابة وبحضرة سائرهم - رضي الله عنهم - يريد قتال عبد الله بن عمرو بن العاص عنبسة بن أبي سفيان عامل أخيه أمير المؤمنين إذ أمره بقبض " الوهط " ورأى معاوية أن أخذه منه غير واجب ، وما كان عبد الله بن عمرو - رحمه الله - ليأخذ ظلما صراحا ، لكن أراد ذلك بوجه تأوله بلا شك ، ورأى معاوية أن ذلك ليس بحق ، ولبس السلاح للقتال ، ولا مخالف له في ذلك من الصحابة - رضي الله عنهم وهكذا جاء عن عبد الله بن عمرو ، أبي حنيفة ، والشافعي ، وأصحابهم : أن الخارجة على الإمام إذا خرجت سئلوا عن خروجهم ؟ فإن ذكروا مظلمة ظلموها أنصفوا ، وإلا دعوا إلى الفيئة ، فإن فاءوا فلا شيء عليهم ، وإن أبوا قوتلوا ، ولا نرى هذا إلا قول وأبي سليمان أيضا . مالك
فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن نرد ما اختلفوا فيه إلى ما افترض الله تعالى علينا الرد إليه ، إذ يقول تعالى { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } .
ففعلنا : فلم نجد الله تعالى فرق في قتال الفئة الباغية على الأخرى بين سلطان وغيره ، بل أمر تعالى بقتال من بغى على أخيه المسلم - عموما - حتى يفيء إلى أمر الله تعالى { وما كان ربك نسيا } وكذلك قوله عليه السلام { } أيضا - عموم - لم يخص معه سلطانا من غيره ، ولا فرق في قرآن ، ولا حديث ، ولا إجماع ولا قياس : بين من أريد ماله ، أو أريد دمه ، أو أريد فرج امرأته ، أو أريد ذلك من جميع المسلمين . من قتل دون ماله فهو شهيد
[ ص: 337 ] وفي الإطلاق على هذا هلاك الدين وأهله ، وهذا لا يحل بلا خلاف - وبالله تعالى التوفيق .
قال رحمه الله : أبو محمد ، فإن الناس قد اختلفوا فيه : أيقتل أم لا ؟ فقال بعض أصحاب ومن أسر من أهل البغي : ما دام القتال قائما فإنه يقتل أسراهم ، فإذا انجلت الحرب فلا يقتل منهم أسير . أبي حنيفة
قال رحمه الله : واحتج هؤلاء بأن أبو محمد - رضي الله عنه - قتل عليا ابن يثربي - وقد أتي به أسيرا وقال : لا يحل أن يقتل منهم أسير أصلا ما دامت الحرب قائمة ، ولا بعد تمام الحرب - وبهذا نقول . الشافعي
برهان ذلك : أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صح عنه أنه قال { } . لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان ، أو زنى بعد إحصان ، أو نفس بنفس
وأباح الله تعالى دم المحارب ، وأباح رسول الله صلى الله عليه وسلم دم من حد في الخمر ثم شربها في الرابعة .
فكل من ورد نص بإباحة دمه : مباح الدم ، وكل من لم يبح الله تعالى دمه ولا رسوله صلى الله عليه وسلم حرام الدم بقول الله تعالى { ولا تقتلوا أنفسكم } ، وبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم { } وأما احتجاجهم بفعل إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام - رضي الله عنه - فلا حجة لهم فيه لوجوه : أحدها - أنه لا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم . علي
والثاني - أنه لا يصح مسندا إلى رضي الله عنه . علي
والثالث - أنه لو صح لكان حجة عليهم لا لهم ; لأن ذلك الخبر إنما هو في ابن يثربي ارتجز يوم ذلك ، فقال : [ ص: 338 ]
أنا لمن ينكرني ابن يثربي قاتل عليا وهند الجمل ثم ابن صوحان على دين علي
فإن قالوا : قد كان قتله - بلا خلاف - مباحا قبل الإسار ، فهو على ذلك بعد الإسار حتى يمنع منه نص ، أو إجماع ؟ قلنا لهم : هذا باطل ، وما حل قتله قط قبل الإسار مطلقا ، لكن حل قتله ما دام باغيا مدافعا ، فإذا لم يكن باغيا مدافعا : حرم قتله - وهو إذا أسر فليس حينئذ باغيا ، ولا مدافعا : فدمه حرام .
وكذلك لو ترك القتال وقعد مكانه ولم يدافع لحرم دمه - وإن لم يؤسر - وبالله تعالى التوفيق .
وإنما قال الله تعالى { فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } ولم يقل : قاتلوا التي تبقى ، والقتال والمقاتلة فعل من فاعلين ، فإنما حل قتال الباغي ، ومقاتلته ، ولم يحل قتله قط في غير المقاتلة ، والقتال ، فهذا نص القرآن - وبالله تعالى التوفيق .
فإن قالوا نقيسه على المحارب ؟ قلنا : المحارب المقدور عليه يقتل إن رأى الإمام ذلك قبل تمام الحرب وبعدها بلا خلاف في أن حكمه في كلا الأمرين سواء - وأيضا فليس يختلف أحد في أن حكم الباغي غير حكم المحارب ، وبالتفريق بين حكمهما جاء القرآن .