( ) كما دل عليه قوله تعالى { وفتحت مكة صلحا ولو قاتلكم الذين كفروا } أي أهل مكة { وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة } { الذين أخرجوا من ديارهم } أي المهاجرين من مكة فأضاف الدور إليهم والخبر الصحيح { فهو آمن ومن ألقى سلاحه فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن أبي سفيان } واستثناء أفراد أمر بقتلهم [ ص: 264 ] يدل على عموم الأمان للباقي ولم يسلب صلى الله عليه وسلم أحدا ولا قسم عقارا ولا منقولا ولو فتحت عنوة لكان الأمر بخلاف ذلك ، وإنما دخلها صلى الله عليه وسلم متأهبا للقتال خوفا من غدرهم ونقضهم للصلح الذي وقع بينه وبين من دخل المسجد فهو آمن ومن دخل دار رضي الله عنه قبل دخولها وفي أبي سفيان أن أسفلها فتحه البويطي عنوة وأعلاها فتحه خالد رضي الله عنهما ودخل صلى الله عليه وسلم من جهته فصار الحكم له وبهذا تجتمع الأخبار التي ظاهرها التعارض الزبير
وأما ما في فتح الباري أنه صح منه صلى الله عليه وسلم الأمر بالقتال حيث قال : { قريش وأتباعهم احصدوهم حصدا حتى توافوني بالصفا فجاءه فقال : أبيحت خضراء أبو سفيان قريش فقال : صلى الله عليه وسلم من أغلق بابه فهو آمن } وأن هذا حجة الأكثرين القائلين بالعنوة كوقوع القتال من أترون إلى أوباش وكتصريحه صلى الله عليه وسلم بأنها أحلت له ساعة من نهار ونهيه عن التأسي به في ذلك وإن تركه القسمة لا يستلزم عدم العنوة فقد يمن عليهم بدورهم بعد الفتح عنوة وإن قوله : صلى الله عليه وسلم { خالد } إلخ لا يكون صلحا إلا إذا كفوا عن القتال وظاهر الأحاديث الصحيحة أن من دخل المسجد فهو آمن قريشا لم يلتزموا ذلك ؛ لأنهم استعدوا للحرب فيجاب عنه وإن سكت عليه تلامذته وغيرهم ، أما عن الأول فبان صريح قوله حتى توافوني بالصفا أن أمره إنما كان ومن معه الداخلين من أسفلها وقد بين لخالد وغيره أنه أمرهم أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم فالأمر بالقتل فيما ذكر محمول على هذا التفصيل أي احصدوهم إن قاتلوكم ولا مانع أنه كرر قوله من أغلق بابه فهو آمن ، وأما عن الثاني فهو أن وقوع القتال من موسى بن عقبة إنما كان لمن قاتله كما أمر صلى الله عليه وسلم وبه صرح أئمة السير وبغرض أنه باجتهاد منه فلا عبرة به مع رأيه صلى الله عليه وسلم خالد
وأما عن الثالث فبأن حلها له لا يستلزم وقوع القتال منه لمن لم يقاتله وكم أحل له صلى الله عليه وسلم أشياء لم يفعلها كما يعرف ذلك بسير خصائصه صلى الله عليه وسلم ، وأما عن الرابع فهو أنا لم نجعل عدم القسمة دليلا مستقلا بل مقويا على أن لك أن تجعله مستقلا بأن تقول الأصل في عدم القسمة أنه دليل على الصلح حتى يقوم دليل على خلافه فعدمها ظاهر في الصلح وإن لم يستلزمه وما نحن فيه يكتفى فيه بالظاهر ، وأما عن الخامس فهو أن أكابرهم كفوا عن القتال ولم يقع إلا من أخلاطهم في غير الجهة التي دخل منها صلى الله عليه وسلم وقد تقرر أنه لا عبرة بها ولا بمن بها ؛ لأنهم كانوا أخلاطا لا يعبأ بهم كما أطبق عليه أئمة السير وبفرض تأهب قريش للقتال فهو لا يقتضي رد الصلح ؛ لأنه لخوف بادرة تقع من شواذ ذلك الجيش الحافل لا سيما وقد سمعوا قول سيد سعد الخزرج وحامل رايتهم بمر الظهران اليوم يوم الملحمة أي القتل وإن كان صلى الله عليه وسلم قال كذب لأبي سفيان وأخذ الراية منه وأعطاها لولده سعد قيس أو لعلي أو رضي الله عنهم للزبير
فإن قلت يؤيد العنوة قوله : صلى الله عليه وسلم ثاني يوم الفتح في خطبته لأهل مكة اذهبوا فأنتم الطلقاء قلت لا يؤيده ؛ لأن معناه فأنتم الذين أطلقهم الله بواسطة تركهم للقتال من أن يضرب عليهم أسر أو استرقاق وحينئذ فهو دليل للصلح لا للعنوة . ( فدورها وأرضها المحياة ملك تباع ) كما دلت عليه الأخبار ولم يزل الناس يتبايعونها نعم الأولى عدم بيعها وإجارتها خروجا من خلاف من منعهما في الأرض ، أما البناء فلا خلاف في حل بيعه وإجارته ، وأما خبره مكة لا تباع رباعها ولا تؤجر دورها فضعيف خلافا قيل : قوله فدورها إلخ يقتضي ترتب كونها ملكا على الصلح وليس كذلك ؛ لأن قضيته أنها وقف ؛ لأنها فيء وهو وقف ، إما بنفس حصوله [ ص: 265 ] أو إيقافه وكونها غير ملك على العنوة وليس كذلك أيضا ؛ لأن المفتوح عنوة غنيمة مخمسة والصواب أنه صلى الله عليه وسلم أقر الدور بيد أهلها على الملك الذي كانوا عليه ولا نظر في ذلك إلى أنها فتحت صلحا أو عنوة . ا هـ . للحاكم
ويرد بما يأتي أن من أنواع الصلح أن يقع على أن كل البلد لهم وهذا هو الواقع كما يشير إليه قول المعترض والصواب إلخ فيترتب على هذا الصلح أن أرضها ودورها ملك لأهلها يتصرفون فيه كيف شاءوا ولا يترتب ذلك على العنوة ؛ لأنها إذا كانت غنيمة يكون خمس خمسها للمصالح وثلاثة أخماس خمسها لجهات عامة فلا يتمكن البقية من التصرف فيها كذلك فصح التفريع في كلامه على الصلح لا على العنوة وبان أنه لا اعتراض عليه ومصر فتحت عنوة وقيل صلحا وهو مقتضى نص الأم في الوصية وحمله الأولون على أن المفتوح صلحا هي نفسها لا غير ، وإنما بقيت الكنائس بها لقوة القول بأنها وجميع إقليمها فتحت صلحا قيل ولاحتمال أنها كانت خارجة عنها ، ثم اتصلت فيه نظر ؛ لأن الكنائس موجودة بها وبإقليمها فلا يتصور حينئذ إلا القول بأن الكل صلح إلا أن يجاب بأنهم راعوا في إبقائهم قوة الخلاف كما تقرر ودمشق عنوة عند السبكي ومنقول الرافعي عن الروياني أن مدن الشام صلح وأرضها عنوة وبسطت الكلام على ذلك كأكثر بلاد الإسلام بما لا يستغنى عن مراجعته في إفتاء فيه أبلغ الرد على ظالم أراد إبطال أوقاف مصر محتجا بأنها فتحت عنوة