وأما قوله تعالى : وأمنا فإنه وصف البيت بالأمن ، والمراد [ ص: 90 ] جميع الحرم كما قال الله تعالى : هديا بالغ الكعبة والمراد الحرم لا الكعبة نفسها ؛ لأنه لا يذبح في الكعبة ولا في المسجد ؛ وكقوله : والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد قال : " وذلك أن الحرم كله مسجد " . ابن عباس
وكقوله تعالى : إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا والمراد والله أعلم منعهم من الحج وحضورهم مواضع النسك ، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم حين بعث بالبراءة مع رضي الله عنه : علي منبئا عن مراد الآية ؟ وقوله تعالى في آية أخرى : وأن لا يحج بعد العام مشرك أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا وقال حاكيا عن إبراهيم عليه السلام : رب اجعل هذا بلدا آمنا يدل ذلك على أن الحرم ؛ ولأن وصفه البيت بالأمن اقتضى جميع الحرم لما كانت متعلقة بالبيت جاز أن يعبر عنه باسم البيت لوقوع الأمن به وحظر القتال والقتل فيه ؛ وكذلك حرمة الأشهر الحرم متعلقة بالبيت ، فكان أمنهم فيها لأجل الحج وهو معقود بالبيت . حرمة
وقوله : وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا إنما هو حكم منه بذلك لا خبر .
وكذلك قوله تعالى : رب اجعل هذا بلدا آمنا ومن دخله كان آمنا كل هذا من طريق الحكم ، لا على وجه الإخبار بأن من دخله لم يلحقه سوء ؛ لأنه لو كان خبرا لوجد مخبره على ما أخبر به ؛ لأن أخبار الله تعالى لا بد من وجودها على ما أخبر به ، وقد قال في موضع آخر : ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم فأخبر بوقوع القتل فيه ؛ فدل أن الأمر المذكور إنما هو من قبل حكم الله تعالى بالأمن فيه وأن لا يقتل العائذ به واللاجئ إليه .
وكذلك كان حكم الحرم منذ عهد إبراهيم عليه السلام إلى يومنا هذا ، وقد كانت العرب في الجاهلية تعتقد ذلك للحرم وتستعظم القتل فيه على ما كان بقي في أيديهم من شريعة إبراهيم عليه السلام ؛ حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن حنبل قال : حدثنا الوليد بن مسلم قال : حدثنا الأوزاعي يحيى ، عن أبي سلمة ، عن قال : لما فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم أبي هريرة مكة قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين ، وإنما أحلت لي ساعة من نهار ثم هي حرام إلى يوم القيامة ، لا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها ولا تحل لقطتها إلا لمنشدها فقال : يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقبورنا وبيوتنا . فقال صلى الله عليه وسلم : إلا الإذخر العباس . إن الله حبس عن
حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا قال : حدثنا أبو داود عثمان بن أبي [ ص: 91 ] شيبة قال : حدثنا ، عن جرير منصور ، عن مجاهد ، عن وطاوس في هذه القصة : " ولا يختلى خلاها " . وقال : ابن عباس مكة يوم خلق السموات والأرض ، لم تحل لأحد قبلي ولم تحل لي إلا ساعة من نهار . إن الله حرم
وروى عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري أبي شريح الكعبي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مكة ولم يحرمها الناس ، فلا يسفكن فيها دم وإن الله أحلها لي ساعة من نهار ولم يحلها للناس . وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله حرمها يوم خلق السموات والأرض وحظر فيها سفك الدماء ، وأن حرمتها باقية إلى يوم القيامة . وأخبر أن من تحريمها تحريم صيدها وقطع الشجر والخلا . إن الله تعالى حرم
فإن قال قائل : ما وجه استثنائه الإذخر من الحظر عند مسألة وقد أطلق قبل ذلك حظر الجميع ومعلوم أن العباس لا يجوز ؟ قيل له : يجوز أن يكون الله تعالى خير نبيه صلى الله عليه وسلم في إباحة الإذخر وحظره عند سؤال من يسأله إباحته ، كما قال تعالى : النسخ قبل التمكين من الفعل فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم فخيره في الإذن عند المسألة ومع ما حرمه الله تعالى من حرمتها بالنص والتوقيف ، فإن من آياتها ودلالاتها على توحيد الله تعالى واختصاصه لها ما يوجب تعظيمها ما يشاهد فيها من أمن الصيد فيها وذلك أن سائر بقاع الحرم مشبهة لبقاع الأرض ويجتمع فيها الظبي والكلب فلا يهيج الكلب الصيد ولا ينفر منه ، حتى إذا خرجا من الحرم عدا الكلب عليه وعاد هو إلى النفور والهرب وذلك دلالة على توحيد الله سبحانه وتعالى .
وعلى تفضيل إسماعيل عليه السلام وتعظيم شأنه ، وقد روي عن جماعة من الصحابة الحرم وشجره ووجوب الجزاء على قتله أو قطعه حظر صيد