وقوله تعالى ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر قيل : إن فيه حذفا ، ومعناه : " إن البر بر من آمن بالله " وقيل : إنه أراد به أن البار من آمن بالله ، كقول الخنساء :
ترتع ما رتعت حتى إذا أدركت فإنما هي إقبال وإدبار
يعني مقبلة ومدبرة .وقوله تعالى : وآتى المال على حبه يعني أن البار من آتى المال على حبه . قيل فيه : إنه يعني حب المال ، كقوله تعالى : لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وقيل : إنه يعني حب الإيتاء ، وأن لا يكون متسخطا عند الإعطاء . ويحتمل أن يكون أراد على حب [ ص: 162 ] الله تعالى كقوله تعالى : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني وجائز أن يكون مراده جميع هذه الوجوه .
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ما يدل على أنه أراد حب المال ، وهو ما رواه عن جرير بن عبد الحميد عن عمارة بن القعقاع أبي زرعة ، عن قال : أبي هريرة . جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أي الصدقة أفضل ؟ فقال : أن تصدق وأنت صحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى ، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت : لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان
وحدثنا أبو القاسم عبد الله بن إسحاق المروزي قال : حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال : حدثنا قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن الثوري زبيد ، عن مرة ، عن في قوله تعالى : عبد الله بن مسعود وآتى المال على حبه قال : " أن تؤتيه وأنت صحيح تأمل العيش وتخشى الفقر " .
وقوله تعالى : وآتى المال على حبه ذوي القربى يحتمل به أن يريد به الصدقة الواجبة وأن يريد به التطوع ، وليس في الآية دلالة على أنها الواجبة ، وإنما فيها حث على الصدقة ، ووعد بالثواب عليها ؛ وذلك لأن أكثر ما فيها أنها من البر ، وهذا لفظ ينطوي على الفرض والنفل ، إلا أن في سياق الآية ، ونسق التلاوة ما يدل على أنه لم يرد به الزكاة لقوله تعالى : وأقام الصلاة وآتى الزكاة فلما عطف الزكاة عليها دل على أنه لم يرد الزكاة بالصدقة المذكورة قبلها .
ومن الناس من يقول : أراد به حقوقا واجبة في المال سوى الزكاة نحو . ويجوز أن يريد من قد أجهده الجوع حتى يخاف عليه التلف فيلزمه أن يعطيه ما يسد جوعته . وجوب صلة الرحم إذا وجده ذا ضر شديد
وقد روى عن شريك أبي حمزة ، عن عامر ، عن ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : فاطمة بنت قيس ، وتلا قوله تعالى : في المال حق سوى الزكاة ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر الآية . وروى عن سفيان عن أبي الزبير عن النبي صلى الله عليه وسلم جابر . فذكر في هذين الحديثين أن في المال حقا سوى الزكاة ، وبين في الحديث الأول أنه تأويل قوله تعالى : أنه ذكر الإبل فقال : إن فيها حقا فسئل عن ذلك ، فقال : إطراق فحلها وإعارة ذلولها ومنحة سمينها ليس البر أن تولوا وجوهكم الآية .
وجائز أن يريد بقوله : ما يلزم من في المال حق سوى الزكاة ، ويحكم به الحاكم عليه لوالديه وذوي محارمه إذا كانوا فقراء عاجزين عن الكسب . وجائز أن يريد به ما يلزمه من طعام الجائع المضطر . وجائز أن يريد به حقا مندوبا إليه لا واجبا ؛ إذ ليس قوله : " في المال حق " يقتضي [ ص: 163 ] الوجوب ، إذ من الحقوق ما هو ندب ، ومنها ما هو فرض . وحدثنا صلة الرحم بالإنفاق على ذوي المحارم الفقراء : حدثنا عبد الباقي أحمد بن حماد بن سفيان قال : حدثنا كثير بن عبيد : حدثنا بقية عن رجل من بني تميم يكنى أبا عبد الله ، عن الضبي الشعبي ، عن ، عن مسروق قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : علي . نسخت الزكاة كل صدقة
وحدثنا قال : حدثنا عبد الباقي حسين بن إسحاق التستري قال : حدثنا علي بن سعيد قال : حدثنا المسيب بن ، عن شريك عبيد المكتب ، عن عامر ، عن ، عن مسروق قال : " نسخت الزكاة كل صدقة " . علي
فإن صح هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فسائر الصدقات الواجبة منسوخة بالزكاة ، وإن لم يصح ذلك مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم لجهالة راويه فإن حديث عليه السلام حسن السند ، وهو يوجب أيضا إثبات علي ، وذلك لا يعلم إلا من طريق التوقيف ، فيعلم بذلك أن ما قاله نسخ الصدقات التي كانت واجبة بالزكاة هو بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم إياه عليه . علي
وحينئذ يكون المنسوخ من الصدقات صدقات قد كانت واجبة ابتداء بأسباب من قبل من يجب عليه تقتضي لزوم إخراجها ثم نسخت بالزكاة نحو قوله تعالى : وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه ونحو ما روي في قوله تعالى : وآتوا حقه يوم حصاده أنه منسوخ عند بعضهم بالعشر ونصف العشر ، فيكون المنسوخ بالزكاة مثل هذه الحقوق الواجبة في المال من غير ضرورة .
وأما ما ذكرنا من الحقوق التي تلزم من نحو الإنفاق على ذوي الأرحام عند العجز عن التكسب ، وما يلزم من إطعام المضطر ، فإن هذه فروض لازمة ثابتة غير منسوخة بالزكاة . وصدقة الفطر واجبة عند سائر الفقهاء ، ولم تنسخ بالزكاة مع أن وجوبها ابتداء من قبل الله تعالى غير متعلق بسبب من قبل العبد ، فهذا يدل على أن الزكاة لم تنسخ صدقة الفطر .
وقد روى الواقدي عن عبد الله بن عبد الرحمن عن عن الزهري عن عروة قالت : عائشة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر قبل أن تفرض الزكاة ، فلما فرضت الزكاة لم يأمرهم ، ولم ينههم ، وكانوا يخرجونها .
فهذا الخبر لو صح لم يدل على نسخها ؛ لأن وجوب الزكاة لا ينفي بقاء وجوب ، وعلى أن الأولى أن فرض الزكاة متقدم على صدقة الفطر ؛ لأنه لا خلاف بين صدقة الفطر السلف في أن " حم السجدة " مكية ، وأنها من أوائل ما نزل من القرآن ، وفيها وعيد تارك الزكاة عند قوله : وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون والأمر بصدقة الفطر إنما كان بالمدينة ، فدل ذلك على أن فرض الزكاة متقدم لصدقة الفطر . وقد روي عن [ ص: 164 ] ابن عمر في قوله تعالى : ومجاهد وآتوا حقه يوم حصاده أنها محكمة وأنه حق واجب عند القوم غير الزكاة .
وأما الحقوق التي تجب بأسباب من قبل العبد نحو الكفارات والنذور ، فلا خلاف أن الزكاة لم تنسخها . واليتامى المرادون بالآية هم الصغار الفقراء الذين مات آباؤهم . والمساكين مختلف فيه ، وسنذكر ذلك في سورة براءة إن شاء الله تعالى . وابن السبيل روي عن أنه المسافر ، وعن مجاهد أنه الضيف . والقول الأول أشبه ؛ لأنه إنما سمي ابن السبيل لأنه على الطريق ، كما قيل للطير الإوز : ابن ماء لملازمته له . قتادة
قال ذو الرمة :
وردت اعتسافا والثريا كأنها على قمة الرأس ابن ماء محلق