ولما كانت هذه الأمور موجبة لرفعته، فكان حينئذ أبعد شيء عن السجن لو كان الناس متمكنين من جري أمورهم على حسب السديد من عقولهم، أخبر تعالى أنهم خالفوا داعي السداد واستبدلوا الغي بالرشاد، لحكمه بأن السجن سبب عظيم لصرف كيدهن عنه وإثبات العز والمكنة له، ففعلوا - مع علمهم بأن ذلك ظلم وسفه - إجابة لغالب أمر الله وإظهارا لعلي قدره بمخالفة العوائد مرة بعد مرة، وهدم سداد الأسباب كرة إثر كرة; فقال: "ثم" لهذا المعنى، وهو أنهم كان ينبغي أن يكونوا [من -] سجنه في [ ص: 78 ] غاية البعد "بدا" أي ظهر بعد الخفاء كما هي عادتهم لهم والبداء في الرأي: التلون فيه لظهور ما لم يكن ظهر منه.
ولما كان [ذلك -] الظهور في حين من الدهر تلونوا بعده إلى رأي آخر، أدخل الجار دلالة على ذلك فقال: من بعد ما رأوا أي رؤيتهم الآيات القاطعة ببراءته القاضية بنزاهته من قد القميص وشهادة الشاهد وغير ذلك.
ولما كان فاعل "بداء" رأي، فسره بقوله مؤكدا، لأنه لا يصدق أن الإنسان يفعل ما ظهر له المانع منه: ليسجننه فيمكث في السجن حتى حين أي إلى أن تنسى تلك الإشاعة، ويظهر الناس أنها [لو -] كانت تحبه ما سعت في سجنه، وقيل: إن ذلك الحين سبع سنين، قيل: كان سبب ذلك أنها قالت للعزيز: إن هذا قد فضحني في الناس وهو يعتذر إليهم ويصف الأمر كما يحب، وأنا محبوسة، فإما أن تأذن لي فأخرج فأعتذر كما يعتذر، وإما أن تسويه بي ] في السجن; قال أبو حيان : قال رضي الله عنهما: [ ص: 79 ] فأمر به فحمل على حمار وضرب أمامه بالطبل، ونودي عليه في أسواق ابن عباس مصر أن يوسف العبراني أراد سيدته، فهذا جزاءه أن يسجن! قال أبو صالح : ما ذكر رضي الله عنهما هذا الحديث إلا بكى - انتهى. وهذا دليل على قوله ابن عباس إن كيدكن عظيم
قال الإمام فخر الدين الرازي في كتاب اللوامع: وعلى الجملة فكل أحوال يوسف عليه الصلاة والسلام لطف في عنف، ونعمة في طي بلية ونقمة، ويسر في عسر، ورجاء في يأس، وخلاص بعد لات مناص، وسائق القدر ربما يسوق القدر إلى المقدور بعنف، وربما يسوقه بلطف، والقهر والعنف أحمد عاقبة وأقل تبعة - انتهى.