ولما كان قد أقام نفسه في ذلك بغاية الجد ، فهو يفعل فيه بالوسوسة - بنفسه ومن أطاعه من شياطين الجن والإنس - ما يفوت الحد ويعجز القوى - أشار إليه بحرف التراخي ، فقال مؤكدا : ثم لآتينهم أي : إتيانا لا بد لي منه كائنا ابتداؤه من بين أيديهم أي : مواجهة ، فأحملهم على أن يفعلوا ما يعلمون أنه خطأ " و " كائنا " من خلفهم " أي : مغافلة ، فيعملون ما هو فاسد في غاية الفساد ولا شعور لهم بشيء [ ص: 369 ] من فساده حين تعاطيه فأدلهم بذلك على تعاطي مثله وهم لا يشعرون وعن أي : ومجاوزا للجهة التي عن أيمانهم إليهم وعن أي : ومجاوزا لما عن شمائلهم أي : مخايلة ، فيفعلونه وهو مشتبه عليهم ، وهذه هي الجهات التي يمكن الإتيان منها ، ولعل فائدة (عن) المفهمة للمجاوزة وصل خطى القدام والخلف ليكون إتيانه مستوعبا لجميع الجهة المحيطة ، [وأفهمت الجهات الأربع قدحه وتلبيسه فيما يعلمونه حق علمه وما يعلمون شيئا منه وما هو مشتبه عليهم اشتباها قليلا أو كثيرا ، وهم من ترك ذكره الأعلى أنه لا قدرة له على الإتيان منه لئلا يلتبس أمره بالملائكة ، وقد ذكر ذلك في بعض الآثار كما ذكره في ترجمة ورقة بن نوفل - رضي الله عنه- ] .
ولما عزم اللعين على هذا عزما صادقا ورأى أسبابه ميسرة من الإنظار ونحوه - ظن أنه بما رأى لهم من الشهوات والحظوظ يظفر بأكثر حاجته ، فقال عاطفا على تقديره : فلأغوينهم وليتبعنني : ولا تجد أكثرهم كما هي عادة الأكثر في الخبث شاكرين فأريد به الشقاء فأغرق في الحسد ، ولو أريد بالشقي الخير لاستبدل بالحسد الغبطة [ ص: 370 ] [فطلب] أن يرتقي هو إلى درجاتهم العالية بالبكاء والندم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبذل النصيحة خضوعا لمقام الربوبية وذلا لعظيم شأنه .