[ ص: 105 ] ( باب ) بالتنوين ( في صلاة النفل ) هو لغة : الزيادة ، واصطلاحا ما عدا الفرائض سمي بذلك لأنه زائد على ما فرضه الله تعالى ، ويعبر عنه بالسنة والمندوب والحسن والمرغب فيه والمستحب والتطوع فهي بمعنى واحد لترادفها على المشهور وذهب القاضي وغيره إلى أن غير الفرض ثلاثة : تطوع وهو ما لم يرد فيه نقل بخصوصه بل ينشئه الإنسان ابتداء .
وسنة وهي ما واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم . ومستحب وهو ما فعله أحيانا أو أمر به ولم يفعله ، ولم يتعرضوا للبقية لعمومها الثلاثة مع أنه لا خلاف في المعنى فإن بعض المسنونات آكد من بعض قطعا ، وإنما الخلاف في الاسم ، والصلاة أفضل عبادات البدن بعد الإسلام لخبر الصحيحين { أي الأعمال أفضل ؟ فقال : الصلاة لوقتها } لأنها تلو الإيمان الذي هو أفضل القرب وأشبه به لاشتمالها على نطق باللسان ، وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان ، ولقوله صلى الله عليه وسلم [ ص: 106 ] { استقيموا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة } رواه أبو داود ، وسماها الله تعالى إيمانا ، فقال { وما كان الله ليضيع إيمانكم } أي صلاتكم إلى بيت المقدس ، ولأنها تجمع من القرب ما تفرق في غيرها من ذكر الله تعالى ورسوله والقراءة والتسبيح واللبث والاستقبال والطهارة والسترة وترك الأكل والكلام وغير ذلك مع اختصاصها بالركوع والسجود وغيرهما ، وقيل الصوم لخبر الصحيحين { قال الله تعالى : كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به } لأنه لم يتقرب إلى أحد بالجوع والعطش إلا لله تعالى فحسنت هذه الإضافة للاختصاص ; ولأن خلو الجوف من الطعام والشراب يرجع إلى الصمدية ، لأن الصمد هو الذي لا جوف له على أحد التأويلات ، والصمدية صفة الله تعالى فحسنت الإضافة لاختصاص الصوم بصفة الله تعالى ; ولأنه مظنة الإخلاص لخفائه دون سائر العبادات فإنها أعمال ظاهرة يطلع عليها فيكون الرياء فيها أغلب ، فحسنت الإضافة للشرف الذي حصل للصوم .
وقال الماوردي : أفضلها الطواف ، ورجحه الشيخ عز الدين ، وقال القاضي : الحج أفضل ، وقال ابن عصرون : الجهاد أفضل . وقال في الإحياء : العبادات تختلف أفضليتها باختلاف أحوالها وفاعليها ، فلا يصح إطلاق القول بأفضلية بعضها على بعض كما لا يصح إطلاق القول بأن الخبز أفضل من الماء فإن ذلك مخصوص بالجائع والماء أفضل للعطشان ، فإن اجتمعا نظر للأغلب فتصدق الغني الشديد البخل بدرهم أفضل من قيام ليلة وصيام ثلاثة أيام لما فيه من دفع حب الدنيا ، والصوم لمن استحوذت عليه شهوته من الأكل والشرب أفضل من غيره .
وجزم بعضهم بأنه يلي الصلاة الصوم ثم الحج ثم الزكاة وقيل الزكاة بعدها .
والخلاف كما في المجموع في الإكثار من أحدهما مع الاقتصار على الآكد من الآخر ، وإلا فصوم يوم أفضل من ركعتين بلا شك ، وخرج بعبادات البدن عبادات القلب : كالإيمان والمعرفة والتفكر والتوكل والصبر والرضا والخوف والرجاء ومحبة الله [ ص: 107 ] تعالى ومحبة رسوله والتوبة ، والتطهر من الرذائل ، وأفضلها الإيمان ، ولا يكون إلا واجبا وقد يكون تطوعا بالتجديد ، وإذا كانت الصلاة أفضل العبادات كما مر ففرضها أفضل الفروض وتطوعها أفضل التطوع ، ولا يرد طلب العلم وحفظ غير الفاتحة من القرآن لأنهما من فروض الكفايات .
وينقسم إلى قسمين كما قال ( صلاة النفل قسمان : قسم لا يسن جماعة ) بنصبه على التمييز المحول عن نائب الفاعل : أي لا تسن فيه الجماعة ، ولو صلي جماعة لم يكره لا على الحال لفساد المعنى ، إذ مقتضاه نفي السنية حال الجماعة لا الانفراد ، وهو غير صحيح ( فمنه الرواتب مع الفرائض ) وهي السنن التابعة لها .
والحكمة فيها أنها تكمل ما نقص من الفرائض بنقص نحو خشوع كترك تدبر قراءة ( وهي ركعتان قبل الصبح ) يستحب تخفيفهما للاتباع ، وأن يقرأ فيهما بآيتي البقرة وآل عمران أو بالكافرون والإخلاص [ ص: 108 ] وأن يضطجع والأولى كونه على شقه الأيمن بعدهما ولعل من حكمته أنه يتذكر بذلك ضجعة القبر حتى يستفرغ وسعه في الأعمال الصالحة ويتهيأ لذلك فإن لم يرد ذلك فصل بينهما وبين الفرض بنحو كلام أو تحول ، ويأتي ذلك في المقضية ، وفيما لو أخر سنة الصبح عنها كما هو ظاهر لما صح من مواظبته صلى الله عليه وسلم عليهما ولخبر { ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها } وله في نيتها كيفيات : سنة الصبح ، سنة الفجر ، سنة البرد ، سنة الوسطى على القول بأنها الوسطى ، سنة الغداة ، وله أن يحذف لفظ السنة ويضيف فيقول : ركعتي الصبح ، ركعتي الفجر ، ركعتي البرد ، ركعتي الوسطى ، ركعتي الغداة ( وركعتان قبل الظهر وكذا ) ركعتان ( بعدها ) ( و ) ركعتان ( بعد المغرب ) لخبر الصحيحين { أنه صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء وركعتين بعد الجمعة } .
وذكر في الكفاية في ركعتي المغرب بعدها أنه يسن تطويلهما حتى ينصرف أهل [ ص: 109 ] المسجد ، لكن مقتضى كلام الروضة من أنه يندب فيهما الكافرون والإخلاص خلافه إلا أن يحمل على أنه بيان لأصل السنة وذاك لكمالها ( و ) ركعتان بعد ( العشاء ) للخبر المار وشمل ذلك الحاج بمزدلفة ، وإنما سن له ترك النفل المطلق ليستريح ، وليتهيأ لما بين يديه من الأعمال الشاقة يوم النحر ( وقيل لا راتبة للعشاء ) ; لأن الركعتين بعدها يجوز كونهما من صلاة الليل ، ويرد { بأنه صلى الله عليه وسلم كان يؤخر صلاة الليل ويفتتحها بركعتين خفيفتين ثم يطولها } فدل ذلك على أن تينك ليستا منها ، ونفى الوجه لما ذكر بالنسبة للتأكيد لا لأصل السنية كما يؤخذ من قوله الآتي وإنما الخلاف إلى آخره ، ومعنى تعليله بما ذكر أنه إذا جاز كونهما من صلاة الليل انتفت المواظبة المقتضية للتأكيد ( وقيل أربع قبل الظهر ) لعدم تركه صلى الله عليه وسلم لها كما رواه البخاري ( وقيل وأربع بعدها ) لخبر { من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله على النار } ( وقيل وأربع قبل العصر ) لخبر { رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعا } ( والجميع سنة ) راتبة قطعا لورود ذلك في الأحاديث الصحيحة ( وإنما الخلاف في الراتب المؤكد ) من حيث التأكيد وهو العشر الأول فقط لأنه صلى الله عليه وسلم واظب عليها أكثر من الثمانية الباقية وكان في الخبر السابق لا تقتضي تكرارا كما هو الأصح عند الأصوليين ، [ ص: 110 ] ولو اقتصر على ركعتين قبل الظهر مثلا ، ولم ينو المؤكد ولا غيره انصرف للمؤكد كما هو ظاهر لأنه المتبادر ، والطلب فيه أقوى ( وقيل ) من الرواتب غير المؤكدة ( ركعتان خفيفتان قبل المغرب ) لما يأتي ( قلت هما سنة ) غير مؤكدة ( على الصحيح ) ( ففي صحيح البخاري الأمر بهما ) ولفظه { صلوا قبل صلاة المغرب قال في الثالثة لمن شاء } كراهة أن يتخذه الناس سنة : أي طريقة لازمة .
وصح أن كبار الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يبتدرون السواري لها إذا أذن المغرب حتى إن الرجل الغريب ليدخل المسجد فيحسب أن الصلاة قد صليت من كثرة من يصليهما ، وقول ابن عمر : ما رأيت أحدا يصليهما على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم غير قادح في ذلك لأنه نفي غير محصور وعجيب ممن زعم كونه محصورا ، إذ من المعلوم أن كثيرا من الأزمنة في عهده صلى الله عليه وسلم لم يحضره ابن عمر ولا أحاط بما يقع فيه ، على أنه لو فرض الحصر فالمثبت معه زيادة علم فليقدم كما قدموا رواية مثبت صلاته عليه الصلاة والسلام في الكعبة على رواية نافيها مع اتفاقهما ، على أنهما كانا معه فيها .
مع أن مدعاه نفي الرؤية ، ولا يلزم من عدم رؤيته نفي رؤية غيره ، وبفرض التساقط يبقى معنى { صلوا قبل المغرب ركعتين } لعدم المعارض له والخبر الصحيح " بين كل أذانين " أي أذان وإقامة " صلاة " إذ هو يشملهما نصا ومن ثم أخذوا منه استحباب [ ص: 111 ] ركعتين قبل العشاء . ويستحب فعلهما بعد إجابة المؤذن ، فإن تعارضت هي وفضيلة التحرم لإسراع الإمام بالفرض عقب الأذان أخرهما إلى ما بعدها ولا يقدمهما على الإجابة فيما يظهر ، ومقابل الصحيح أنهما ليستا بسنة ، واستدل بظاهر خبر ابن عمر السابق ( وبعد الجمعة أربع ) لما مر في الخبر الصحيح ثنتان منها مؤكدتان ( وقبلها ما قبل الظهر ، والله أعلم ) أي أربع منها ثنتان مؤكدتان فهي كالظهر في المؤكد وغيره قبلها وبعدها كما صرح به في التحقيق ، وهذا هو المراد ، وإن كانت عبارته توهم مخالفتها للظهر في سنتها للمتأخرة ، وينوي بالقبلية سنة الجمعة كالبعدية ، ولا أثر لاحتمال عدم وقوعها خلافا لصاحب البيان إذ الفرض أنه كلف بالإحرام بها ، وإن شك في عدم إجزائها ، أما البعدية فينوي بها بعد فعل الظهر بعديته لا بعدية الجمعة .


