[ ص: 149 ] 3 - باب رد اليمين
قال : اختلف الناس في المدعى عليه يرد اليمين على المدعي . أبو جعفر
فقال قوم : لا يستحلف المدعي ، وقال آخرون : بل يستحلف فإن حلف استحق ما ادعى بحلفه ، وإن لم يحلف لم يكن له شيء .
واحتجوا في ذلك بما قد رويناه في غير هذا الموضع عن سهل بن أبي حثمة في القسامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للأنصار : تبرئكم يهود بخمسين يمينا ؛ فقالوا : كيف نقبل أيمان قوم كفار ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتحلفون ، وتستحقون ؟
فقالوا : قد رد رسول الله صلى الله عليه وسلم الأيمان التي جعلناها في البدء على المدعى عليهم فجعلها على المدعين .
فكان من الحجة عليهم لأهل المقالة الأولى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال : أتبرئكم يهود بخمسين يمينا لم يكن من اليهود رد الأيمان على الأنصار فيردها النبي صلى الله عليه وسلم فيكون ذلك حجة لمن يرى رد اليمين في الحقوق .
إنما قال : أتبرئكم يهود بخمسين يمينا ؟ فقالت الأنصار : كيف نقبل أيمان قوم كفار ؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أتحلفون ، وتستحقون ؟
فقد يجوز أن يكون كذلك حكم القسامة ، ويجوز أن يكون ذلك على النكير منه عليهم إذ قالوا : كيف نقبل أيمان قوم كفار ؟ فقال لهم : أتحلفون وتستحقون ؟ كما قال : أيدعون ويستحقون ؟
فلما احتمل هذين الوجهين لم يكن لأحد أن يحمله على أحدهما دون الآخر إلا ببرهان يدله على ذلك .
فنظرنا فيما سوى هذا الحديث من الآثار المروية فإذا قد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ، ولكن اليمين على المدعى عليه . ابن عباس
فثبت بذلك أن المدعي لا يستحق بدعواه دما ، ولا مالا ، وإنما يستحق بها يمين المدعى عليه خاصة .
هذا حديث ظاهر المعنى ، ولا لنا أن نحمل ما خفي علينا معناه من الحديث الأول على ذلك .
وأما وجه ذلك من طريق النظر فإنا رأينا المدعي الذي عليه أن يقيم الحجة على دعواه لا تكون حجته تلك حجة جارة إلى نفسه مغنما ، ولا دافعة عنها مغرما .
فلما وجبت اليمين على المدعى عليه فردوها على المدعي فإن استحلفنا المدعي جعلنا يمينه حجة له ، وحكمنا له بحجة كانت منه هو بها جار إلى نفسه مغنما ، وهذا خلاف ما تعبد به العباد فبطل ذلك .
فإن قال قائل : إنما نحكم له بيمينه ، وإن كان بها جارا إلى نفسه ؛ لأن المدعى عليه قد رضي بذلك .
قيل له : وهل يوجب رضا المدعى عليه زوال الحكم عن جهته ؟
أرأيت لو أن رجلا قال : ما ادعى على فلان من شيء فهو مصدق ، فادعى عليه درهما فما فوقه ، هل يقبل ذلك منه ؟ [ ص: 150 ] أرأيت لو قال : قد رضيت بما شهد به زيد علي لرجل فاسق أو لرجل جار إلى نفسه بتلك الشهادة مغنما شهد زيد عليه بشيء هل يحكم بذلك عليه ؟
فلما كانوا قد اتفقوا أنه لا يحكم عليه بشيء من ذلك ، وأن رضاه في ذلك ، وغير رضاه سواء ، وأن الحكم يجب في ذلك ، وإن رضي إلا بما كان يجب لو لم يرض كان كذلك أيضا يمين المدعي لا يجب له بها حق على المدعى عليه ، وإن رضي المدعى عليه به بذلك .
والحكم بيمينه بعد رضاه بها كحكمها قبل ذلك .
فثبت بما ذكرنا بطلان رد اليمين على المدعى عليه ، وهذا كله قول ، أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، رحمة الله تعالى عليهم . ومحمد