بسم الله الرحمن الرحيم [ ص: 3 ] فصل :
[ بيان أن الإجارة على وفق القياس ] .
وأما الإجارة فالذين قالوا : " هي على خلاف القياس " قالوا : هي بيع معدوم ; لأن المنافع معدومة حين العقد ، ثم لما رأوا الكتاب قد دل على جواز إجارة الظئر للرضاع بقوله : { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } قالوا : إنها على خلاف القياس من وجهين :
أحدهما : كونها إجارة .
والثاني : أن الإجارة عقد على المنافع ، وهذه عقد على الأعيان ، ومن العجب أنه ليس في القرآن ذكر إجارة جائزة إلا هذه ، وقالوا : هي على خلاف القياس ، والحكم إنما يكون على خلاف القياس إذا كان النص قد جاء في موضع يشابهه بنقيض ذلك الحكم ، فيقال : هذا خلاف قياس ذلك النص ، وليس في القرآن ولا في السنة ذكر فساد إجارة شبه هذه الإجارة ، ومنشأ وهمهم ظنهم أن مورد عقد الإجارة لا يكون إلا منافع هي أعراض قائمة بغيرها ، لا أعيان قائمة بنفسها ، ثم افترق هؤلاء فرقتين : فقالت فرقة : إنما احتملناها على خلاف القياس لورود النص ; فلا نتعدى محله .
وقالت فرقة : بل نخرجها على ما يوافق القياس ، وهو كون المعقود عليه أمرا غير اللبن ، بل هو إلقام الصبي الثدي ووضعه في حجر المرضعة ، ونحو ذلك من المنافع التي هي مقدمات الرضاع ، واللبن يدخل تبعا غير مقصود بالعقد ، ثم طردوا ذلك في مثل ماء البئر والعيون التي في الأرض المستأجرة ، وقالوا : يدخل ضمنا وتبعا ، فإذا وقعت قالوا : إنما وردت الإجارة على مجرد إدلاء الدلو في البئر وإخراجه ، وعلى مجرد إجراء العين في أرضه ، مما هو قلب الحقائق ، وجعل المقصود وسيلة والوسيلة مقصودة ; إذ من المعلوم أن هذه الأعمال إنما هي وسيلة إلى المقصود بعقد الإجارة ، وإلا فهي بمجردها ليست مقصودة ، ولا معقودا عليها ، ولا قيمة لها أصلا ، وإنما هي كفتح الباب وكقود الدابة لمن اكترى دارا أو دابة . [ ص: 4 ] ونحن نتكلم على هذين الأصلين الباطلين : على أصل الإجارة على نفس العين والبئر لسقي الزرع والبستان ، وعلى أصل من جعل إجارة الظئر ونحوها على خلاف القياس ، فنقول وبالله التوفيق : [ ليس للعقود ألفاظ محدودة ] من جعل الإجارة على خلاف القياس
أما الأصل الأول فقولهم : " إن الإجارة بيع معدوم ، وبيع المعدوم باطل " دليل مبني على مقدمتين مجملتين غير مفصلتين ، قد اختلط في كل منهما الخطأ بالصواب ; فأما المقدمة الأولى - وهي كون الإجارة بيعا - إن أردتم به البيع الخاص الذي يكون العقد فيه على الأعيان لا على المنافع فهو باطل ، وإن أردتم به البيع العام الذي هو معاوضة إما على عين وإما على منفعة فالمقدمة الثانية باطلة ; فإن ينقسم إلى بيع الأعيان وبيع المنافع ، ومن سلم بطلان بيع المعدوم فإنما يسلمه في الأعيان ، ولما كان لفظ البيع يحتمل هذا وهذا تنازع الفقهاء في بيع المعدوم على وجهين ، والتحقيق أن المتعاقدين إن عرفا المقصود انعقدت بأي لفظ من الألفاظ عرف به المتعاقدان مقصودهما ، وهذا حكم شامل لجميع العقود ، فإن الشارع لم يحد لألفاظ العقود حدا ، بل ذكرها مطلقة ، فكما تنعقد العقود بما يدل عليها من الألفاظ الفارسية والرومية والتركية فانعقادها بما يدل عليها من الألفاظ العربية أولى وأحرى ، ولا فرق بين النكاح وغيره ، وهذا قول جمهور العلماء الإجارة : هل تنعقد بلفظ البيع ؟ كمالك ، وهو أحد القولين في مذهب وأبي حنيفة . أحمد
قال شيخنا : بل نصوص لا تدل إلا على هذا القول ، وأما كونه لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح والتزويج فإنما هو قول أحمد ابن حامد وأتباعه ; وأما قدماء أصحاب والقاضي فلم يشترط أحد منهم ذلك ، وقد نص أحمد على أنه أحمد أنه يعقد النكاح ، قال إذا قال : " أعتقت أمتي وجعلت عتقها صداقها " : وهذا يدل على أنه لا يختص النكاح بلفظ ; وأما ابن عقيل ابن حامد فطرد أصله وقال : لا ينعقد حتى يقول مع ذلك : " تزوجتها " وأما القاضي فجعل هذا موضع استحسان خارجا عن القياس ; فجوز النكاح في هذه الصورة خاصة بدون لفظ الإنكاح والتزويج ، وأصول الإمام ونصوصه تخالف هذا ; فإن من أصوله أن العقود تنعقد بما يدل على مقصودها من قول أو فعل ، ولا يرى اختصاصها بالصيغ . أحمد
ومن أصوله أن الكناية مع دلالة الحالة كالصريح كما قاله في الطلاق والقذف وغيرهما ، والذين اشترطوا لفظ الإنكاح والتزويج قالوا : ما عداهما كناية فلا يثبت حكمها إلا بالنية وهي أمر باطن لا اطلاع للشاهد عليه ; إذ الشهادة إنما تقع على المسموع ، لا على المقاصد والنيات ، وهذا إنما يستقيم إذا كانت ألفاظ الصريح والكناية ثابتة بعرف الشرع وفي عرف المتعاقدين ، [ ص: 5 ] والمقدمتان غير معلومتين ; أما الأولى فإن الشارع استعمل لفظ التمليك في النكاح فقال : { } { ملكتكها بما معك من القرآن صفية وجعل عتقها صداقها } ، ولم يأت معه بلفظ إنكاح ولا تزويج ، وأباح الله ورسوله النكاح ورد فيه الأمة إلى ما تتعارفه نكاحا بأي لفظ كان ، ومعلوم أن تقسيم الألفاظ إلى صريح وكناية تقسيم شرعي ، فإن لم يقم عليه دليل شرعي كان باطلا ، فما هو الضابط لذلك ؟ وأما المقدمة الثانية فكون اللفظ صريحا أو كناية أمر يختلف باختلاف عرف المتكلم والمخاطب والزمان والمكان ، فكم من لفظ صريح عند قوم وليس بصريح عند آخرين ، وفي مكان دون مكان وزمان دون زمان ، فلا يلزم من كونه صريحا في خطاب الشارع أن يكون صريحا عند كل متكلم ، وهذا ظاهر . وأعتق
[ جوز الشارع ] المعاوضة على المعدوم
والمقصود أن قوله : " إن الإجارة نوع من البيع " إن أراد به البيع الخاص فباطل ، وإن أراد به البيع العام فصحيح ، ولكن قوله : " إن هذا البيع لا يرد على معدوم " دعوى باطلة ; فإن الشارع جوز المعاوضة على المعدوم ، فإن قستم بيع المنافع على بيع الأعيان فهذا قياس في غاية الفساد ; فإن المنافع لا يمكن أن يعقد عليها في حال وجودها ألبتة ، بخلاف الأعيان ، وقد فرق بينها الحس والشرع ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يؤخر العقد على الأعيان التي لم تخلق إلى أن تخلق كما نهى عن بيع السنين وحبل الحبلة والثمر قبل أن يبدو صلاحه والحب حتى يشتد ، ونهى عن الملاقيح والمضامين ونحو ذلك ، وهذا يمتنع مثله في المنافع ; فإنه لا يمكن أن تباع إلا في حال عدمها ، فهاهنا أمران : أحدهما : يمكن إيراد العقد عليه في حال وجوده وحال عدمه ، فنهى الشارع عن بيعه حتى يوجد وجوز منه بيع ما لم يوجد تبعا لما وجد إذا دعت الحاجة إليه ، وبدون الحاجة لم يجوزه .
والثاني : ما لا يمكن إيراد العقد عليه إلا في حال عدمه كالمنافع ; فهذا جوز العقد عليه ولم يمنع منه .
فإن قلت : أنا أقيس أحد النوعين على الآخر ، وأجعل العلة مجرد كونه معدوما .
قيل : هذا قياس فاسد ; لأنه يتضمن التسوية بين المختلفين ، وقولك : " إن العلة مجرد كونه معدوما " دعوى بغير دليل .
بل دعوى باطلة ، فلم لا يجوز أن تكون العلة في الأصل كونه معدوما يمكن تأخير بيعه إلى زمن وجوده ؟ وعلى هذا التقدير فالعلة مقيدة بعدم خاص ، وأنت لم تبين أن العلة في الأصل مجرد كونه معدوما ; فقياسك فاسد ، وهذا كاف في بيان فساده بالمطالبة ، ونحن نبين بطلانه في نفسه ، فنقول : ما ذكرناه علة مطردة ، وما ذكرته علة منتقضة ، فإنك إذا عللت بمجرد العدم ورد عليك النقض بالمنافع كلها وبكثير من [ ص: 6 ] الأعيان وما عللنا به لا ينتقض ، وأيضا فالقياس المحض وقواعد الشريعة وأصولها ومناسباتها تشهد لهذه العلة ; فإنه إذا كان له حال وجود وعدم كان في بيعه حال العدم مخاطرة وقمار ، وبذلك علل النبي صلى الله عليه وسلم المنع حيث قال : { } وأما ما ليس له إلا حال واحد والغالب فيه السلامة فليس العقد عليه مخاطرة ولا قمارا ، وإن كان فيه مخاطرة يسيرة فالحاجة داعية إليه ، ومن أصول الشريعة أنه إذا تعارضت المصلحة والمفسدة قدم أرجحهما ، والغرر إنما نهي عنه لما فيه من الضرر بهما أو بأحدهما ، وفي المنع مما يحتاجون إليه من البيع ضرر أعظم من ضرر المخاطرة ; فلا يزيل أدنى الضررين بأعلاهما . أرأيت إن منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق ؟
بل قاعدة الشريعة ضد ذلك ، وهو دفع أعلى الضررين باحتمال أدناهما ; ولهذا لما نهاهم عن المزابنة لما فيها من ربا أو مخاطرة أباحها لهم في العرايا للحاجة ; لأن ضرر المنع من ذلك أشد من ضرر المزابنة ، ولما حرم عليهم الميتة لما فيها من خبث التغذية أباحها لهم للضرورة ، ولما حرم عليهم النظر إلى الأجنبية أباح منه ما تدعو إليه الحاجة للخاطب والمعامل والشاهد والطبيب ، فإن قلت : فهذا كله على خلاف القياس . [ القياس الفاسد أصل كل شر ]
قيل : إن أردت أن الفرع اختص بوصف يوجب الفرق بينه وبين الأصل فكل حكم استند إلى هذا الفرق الصحيح فهو على خلاف القياس الفاسد ، وإن أردت أن الأصل والفرع استويا في المقتضي والمانع واختلف حكمهما فهذا باطل قطعا ، ليس في الشريعة منه مسألة واحدة ، والشيء إذا شابه غيره في وصف وفارقه في وصف كان اختلافهما في الحكم باعتبار الفارق مخالفا لاستوائهما باعتبار الجامع ، وهذا هو القياس الصحيح طردا وعكسا ، وهو التسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين .
وأما التسوية بينهما في الحكم مع افتراقهما فيما يقتضي الحكم أو يمنعه فهذا هو القياس الفاسد الذي جاء الشرع دائما بإبطاله ، كما أبطل قياس الربا على البيع ، وقياس الميتة على المذكى ، وقياس المسيح عيسى صلى الله عليه وسلم على الأصنام ، وبين الفارق بأنه عبد أنعم عليه بعبوديته ورسالته ، فكيف يعذبه بعبادة غيره له مع نهيه عن ذلك وعدم رضاه به ؟ بخلاف الأصنام ; فمن قال : " إن الشريعة تأتي بخلاف القياس الذي هو من هذا الجنس " فقد أصاب ، وهو من كمالها واشتمالها على العدل والمصلحة والحكمة ، ومن سوى بين الشيئين لاشتراكهما في أمر من الأمور يلزمه أن يسوي بين كل موجودين لاشتراكهما في مسمى الوجود ، وهذا من أعظم الغلط ، والقياس الفاسد الذي ذمه السلف ، وقالوا : أول من قاس إبليس ، وما عبدت [ ص: 7 ] الشمس والقمر إلا بالمقاييس ، وهو القياس الذي اعترف أهل النار في النار ببطلانه حيث قالوا : { تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين } وذم الله أهله بقوله : { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } أي يقيسونه على غيره ويسوون بينه وبين غيره في الإلهية والعبودية ، وكل بدعة ومقالة فاسدة في أديان الرسل فأصلها من القياس الفاسد ، فما أنكرت الجهمية صفات الرب وأفعاله وعلوه على خلقه واستواءه على عرشه وكلامه وتكليمه لعباده ورؤيته في الدار الآخرة إلا من القياس الفاسد ، وما أنكرت القدرية عموم قدرته ومشيئته وجعلت في ملكه ما لا يشاء وأنه يشاء ما لا يكون إلا بالقياس الفاسد ، وما ضلت الرافضة وعادوا خيار الخلق وكفروا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وسبوهم إلا بالقياس الفاسد ، وما أنكرت الزنادقة والدهرية معاد الأجسام وانشقاق السماوات وطي الدنيا وقالت بقدم العالم إلا بالقياس الفاسد ، وما فسد ما فسد من أمر العالم وخرب ما خرب منه إلا بالقياس الفاسد ، وأول ذنب عصي الله به القياس الفاسد ، وهو الذي جر على آدم وذريته من صاحب هذا القياس ما جر ، فأصل شر الدنيا والآخرة جميعه من هذا القياس الفاسد ، وهذه الحكمة لا يدريها إلا من له اطلاع على الواجب والواقع وله فقه في الشرع والقدر .