. [ الإمام ] أحمد بن حنبل
وكان بها أهل السنة على الإطلاق أحمد بن حنبل الذي ملأ الأرض علما وحديثا وسنة ، حتى إن أئمة الحديث والسنة بعده هم أتباعه إلى يوم القيامة ، وكان رضي الله عنه شديد الكراهة لتصنيف الكتب ، وكان يحب تجريد الحديث ، ويكره أن يكتب كلامه ، ويشتد عليه جدا ، فعلم الله حسن نيته وقصده فكتب من كلامه وفتواه أكثر من ثلاثين سفرا ، ومن الله سبحانه علينا بأكثرها فلم يفتنا منها إلا القليل ، وجمع إمام نصوصه في الجامع الكبير فبلغ نحو عشرين سفرا أو أكثر ، ورويت فتاويه ومسائله وحدث بها قرنا بعد قرن فصارت إماما وقدوة لأهل السنة على اختلاف طبقاتهم ، حتى إن المخالفين لمذهبه بالاجتهاد والمقلدين لغيره ليعظمون نصوصه وفتاواه ، ويعرفون لها حقها وقربها من النصوص وفتاوى الصحابة ، ومن تأمل فتاواه وفتاوى الصحابة رأى مطابقة كل منهما على الأخرى ، ورأى الجميع كأنها تخرج من مشكاة واحدة ، حتى إن الصحابة إذا اختلفوا على قولين جاء عنه في المسألة روايتان ، وكان تحريه لفتاوى الصحابة كتحري أصحابه لفتاويه ونصوصه ، بل أعظم ، حتى إنه ليقدم فتاواهم على الحديث المرسل ، قال الخلال في مسائله : قلت إسحاق بن إبراهيم بن هانئ لأبي عبد الله : حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسل برجال ثبت أحب إليك أو حديث عن الصحابة والتابعين متصل برجال ثبت ؟ قال أبو عبد الله رحمه الله : عن الصحابة أعجب إلي [ ص: 24 ]
وكان فتاويه مبنية على خمسة أصول : [ أحمد بن حنبل ] أحدها : النصوص ، فإذا وجد النص أفتى بموجبه ، ولم يلتفت إلى ما خالفه ولا من خالفه كائنا من كان ، ولهذا لم يلتفت إلى خلاف أصول فتاوى في المبتوتة لحديث عمر ، ولا إلى خلافه في التيمم للجنب لحديث فاطمة بنت قيس ، ولا خلاف في استدامة المحرم الطيب الذي تطيب به قبل إحرامه لصحة حديث عمار بن ياسر في ذلك ، ولا خلافه في منع المفرد والقارن من الفسخ إلى التمتع لصحة أحاديث الفسخ ، وكذلك لم يلتفت إلى قول عائشة علي وعثمان وطلحة وأبي أيوب وأبي بن كعب في الغسل من الإكسال لصحة حديث أنها فعلته هي ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلا ، ولم يلتفت إلى قول عائشة وإحدى الروايتين عن ابن عباس أن عدة المتوفى عنها الحامل أقصى الأجلين ; لصحة حديث علي سبيعة الأسلمية ، ولم يلتفت إلى قول معاذ في توريث المسلم من الكافر لصحة الحديث المانع من التوارث بينهما ، ولم يلتفت إلى قول ومعاوية في الصرف لصحة الحديث بخلافه ، ولا إلى قوله بإباحة لحوم الحمر كذلك ، وهذا كثير جدا ، ولم يكن يقدم على الحديث الصحيح عملا ولا رأيا ولا قياسا ولا قول صاحب ولا عدم علمه بالمخالف الذي يسميه كثير من الناس إجماعا ويقدمونه على الحديث الصحيح ، وقد كذب ابن عباس من ادعى هذا الإجماع ، ولم يسغ تقديمه على الحديث الثابت ، وكذلك أحمد أيضا نص في رسالته الجديدة على أن الشافعي ، ولفظه : ما لا يعلم فيه خلاف فليس إجماعا . ما لا يعلم فيه بخلاف لا يقال له إجماع
وقال : سمعت أبي يقول : ما يدعي فيه الرجل الإجماع فهو كذب ، من ادعى الإجماع فهو كاذب ، لعل الناس اختلفوا ، ما يدريه ، ولم ينته إليه ؟ فليقل : لا نعلم الناس اختلفوا ، هذه دعوى عبد الله بن أحمد بن حنبل بشر المريسي والأصم ، ولكنه يقول : لا نعلم الناس اختلفوا ، أو لم يبلغني ذلك ، هذا لفظه
ونصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل عند الإمام وسائر أئمة الحديث من أن يقدموا عليها توهم إجماع مضمونه عدم العلم بالمخالف ، ولو ساغ لتعطلت النصوص ، وساغ لكل من لم يعلم مخالفا في حكم مسألة أن يقدم جهله بالمخالف على النصوص ; فهذا هو الذي أنكره الإمام أحمد أحمد من والشافعي ، لا ما يظنه بعض الناس أنه استبعاد لوجوده [ ص: 25 ] دعوى الإجماع
فصل .
[ الأصل الثاني فتاوى الصحابة ]
الأصل الثاني من أصل فتاوى : الإمام أحمد ، فإنه إذا وجد لبعضهم فتوى لا يعرف له مخالف منهم فيها لم يعدها إلى غيرها ، ولم يقل إن ذلك إجماع ، بل من ورعه في العبارة يقول : لا أعلم شيئا يدفعه ، أو نحو هذا ، كما قال في رواية ما أفتى به الصحابة أبي طالب لا أعلم شيئا يدفع قول ابن عباس وأحد عشر من التابعين وابن عمر عطاء وأهل ومجاهد المدينة على تسري العبد ، وهكذا قال : لا أعلم أحدا رد شهادة العبد ، حكاه عنه الإمام أنس بن مالك ، وإذا وجد الإمام أحمد هذا النوع عن الصحابة لم يقدم عليه عملا ولا رأيا ولا قياسا . أحمد
فصل [ الثالث الاختيار من فتاوى الصحابة إذا اختلفوا ]
الأصل الثالث من أصوله : ، ولم يخرج عن أقوالهم ، فإن لم يتبين له موافقة أحد الأقوال حكى الخلاف فيها ولم يجزم بقول . إذا اختلف الصحابة تخير من أقوالهم ما كان أقربها إلى الكتاب والسنة
قال في مسائله : قيل إسحاق بن إبراهيم بن هانئ : يكون الرجل في قومه فيسأل عن الشيء فيه اختلاف ، قال : يفتي بما وافق الكتاب والسنة ، وما لم يوافق الكتاب والسنة أمسك عنه ، قيل له : أفيجاب عليه ؟ قيل : لا . لأبي عبد الله
فصل [ الرابع المرسل من الحديث ]
الأصل الرابع : ، إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه ، وهو الذي رجحه على القياس ، وليس المراد بالضعيف عنده الباطل ولا المنكر ولا ما في روايته متهم بحيث لا يسوغ الذهاب إليه فالعمل به ; بل الحديث الضعيف عنده قسيم الصحيح وقسم من أقسام الحسن ، ولم يكن يقسم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف ، بل إلى صحيح وضعيف ، وللضعيف عنده مراتب ، فإذا لم يجد في الباب أثرا يدفعه ولا قول صاحب ، ولا إجماع على خلافه كان العمل به عنده أولى من القياس [ ص: 26 ] الأخذ بالمرسل والحديث الضعيف
وليس أحد من الأئمة إلا وهو موافقه على هذا الأصل من حيث الجملة ، فإنه ما منهم أحد إلا وقد قدم الحديث الضعيف على القياس .
فقدم حديث القهقهة في الصلاة على محض القياس ، وأجمع أهل الحديث على ضعفه ، وقدم حديث الوضوء بنبيذ التمر على القياس ، وأكثر أهل الحديث يضعفه ، وقدم حديث " أكثر الحيض عشرة أيام " وهو ضعيف باتفاقهم على محض القياس ; فإن الذي تراه في اليوم الثالث عشر مساو في الحد والحقيقة والصفة لدم اليوم العاشر ، وقدم حديث { أبو حنيفة } - وأجمعوا على ضعفه ، بل بطلانه - على محض القياس ، فإن بذل الصداق معاوضة في مقابلة بذل البضع ، فما تراضيا عليه جاز قليلا كان أو كثيرا . لا مهر أقل من عشرة دراهم
وقدم خبر تحريم صيد الشافعي وج مع ضعفه على القياس ، وقدم خبر جواز الصلاة بمكة في وقت النهي مع ضعفه ومخالفته لقياس غيرها من البلاد ، وقدم في أحد قوليه حديث { } على القياس مع ضعف الخبر وإرساله . من قاء أو رعف فليتوضأ وليبن على صلاته
وأما فإنه يقدم الحديث المرسل والمنقطع والبلاغات وقول الصحابي على القياس . مالك
[ الخامس ] القياس للضرورة
فإذا لم يكن عند الإمام في المسألة نص ولا قول الصحابة أو واحد منهم ولا أثر مرسل أو ضعيف عدل إلى الأصل الخامس - وهو القياس - فاستعمله للضرورة ، وقد قال في كتاب أحمد ، سألت الخلال عن القياس ، فقال : إنما يصار إليه عند الضرورة ، أو ما هذا معناه فهذه الأصول الخمسة من أصول فتاويه ، وعليها مدارها ، وقد يتوقف في الفتوى ; لتعارض الأدلة عنده ، أو لاختلاف الصحابة فيها ، أو لعدم اطلاعه فيها على أثر أو قول أحد من الصحابة والتابعين [ ص: 27 ] الشافعي
وكان شديد الكراهة والمنع للإفتاء بمسألة ليس فيها أثر عن السلف ، كما قال لبعض أصحابه : إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام .
وكان يسوغ استفتاء فقهاء الحديث وأصحاب ، ويدل عليهم ، ويمنع من استفتاء من يعرض عن الحديث ، ولا يبني مذهبه عليه ، ولا يسوغ العمل بفتواه . مالك
قال ابن هانئ : سألت أبا عبد الله عن الذي جاء في الحديث { } قال أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار رحمه الله : يفتي بما لم يسمع ، قال : وسألته عمن أفتى بفتيا يعي فيها قال : فإثمها على من أفتاها ، قلت : على أي وجه يفتي حتى يعلم ما فيها ؟ قال : يفتي بالبحث ، لا يدري أيش أصلها . أبو عبد الله
وقال أبو داود في مسائله : ما أحصي ما سمعت سئل عن كثير مما فيه الاختلاف في العلم فيقول : لا أدري ، قال : وسمعته يقول : ما رأيت مثل أحمد في الفتوى أحسن فتيا منه ، كان أهون عليه أن يقول : لا أدري . ابن عيينة
وقال في مسائله : سمعت أبي يقول : وقال عبد الله بن أحمد سأل رجل من أهل الغرب عبد الرحمن بن مهدي عن مسألة فقال : لا أدري فقال : يا مالك بن أنس تقول لا أدري ؟ قال : نعم ، فأبلغ من وراءك أني لا أدري . أبا عبد الله
وقال عبد الله : كنت أسمع أبي كثيرا يسأل عن المسائل فيقول : لا أدري ويقف إذا كانت مسألة فيها اختلاف ، وكثيرا ما كان يقول : سل غيري ، فإن قيل له : من نسأل ؟ قال : سلوا العلماء ، ولا يكاد يسمي رجلا بعينه قال : وسمعت أبي يقول : كان لا يفتي في الطلاق ، ويقول : من يحسن هذا ؟ ، ابن عيينة