فصل :
[ ضمان الحدائق والبساتين ] .
وبنوا على هذا الأصل الذي لم يدل عليه دليل شرعي ، بل دل على خلافه ، وهو بيع المعدوم - بطلان ، وقالوا : هو بيع للثمر قبل ظهوره أو قبل بدو صلاحه ; ثم منهم من حكى الإجماع على بطلانه ، وليس مع المانعين [ حجة على ما ] ظنوه ، فلا النص يتناوله ولا معناه ، ولم تجمع الأمة على بطلانه ، فلا نص مع المانعين ولا قياس ولا إجماع ; ونحن نبين انتفاء هذه الأمور الثلاثة : أما الإجماع فقد صح عن ضمان الحدائق والبساتين أنه ضمن حديقة عمر بن الخطاب ثلاث سنين وتسلف الضمان فقضى به دينا كان على أسيد بن حضير أسيد ، وهذا بمشهد من الصحابة ، ولم ينكره منهم رجل واحد ، ومن جعل مثل هذا إجماعا فقد أجمع الصحابة على جواز ذلك ، وأقل درجاته أن يكون قول صحابي ، بل قول الخليفة الراشد ، ولم ينكره منهم منكر ، وهذا حجة [ ص: 11 ] عند جمهور العلماء ، وقد جوز بعض أصحاب ضمان البساتين مع الأرض المؤجرة ; إذ لا يمكن إفراد إحداهما عن الأخرى ، واختاره أحمد ، وجوز بعضهم ضمان الأشجار مطلقا مع الأرض وبدونها ، واختاره ابن عقيل شيخنا وأفرد فيه مصنفا ; ففي مذهب ثلاثة أقوال ، وجوز أحمد ذلك تبعا للأرض في قدر الثلث . مالك
قال شيخنا : والصواب ما فعله رضي الله عنه ; فإن الفرق بين البيع والضمان هو الفرق بين البيع والإجارة ، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحب حتى يشتد ولم ينه عن إجارة الأرض للزراعة مع أن المستأجر مقصوده الحب بعمله فيخدم الأرض ويحرثها ويسقيها ويقوم عليها ، وهو نظير مستأجر البستان ليخدم شجره ويسقيه ويقوم عليه ، والحب نظير الثمر ، والشجر نظير الأرض ، والعمل نظير العمل ; فما الذي حرم هذا وأحل هذا ؟ وهذا بخلاف المشتري ; فإنه يشتري ثمرا وعلى البائع مؤنة الخدمة والسقي والقيام على الشجر ; فهو بمنزلة الذي يشتري الحب وعلى البائع مؤنة الزرع والقيام عليه ; فقد ظهر انتفاء القياس والنص ، كما ظهر انتفاء الإجماع ، بل القياس الصحيح مع المجوزين ، كما معهم الإجماع القديم . عمر
فإن قيل : فالثمر أعيان ، وعقد الإجارة إنما يكون على المنافع ، قيل : الأعيان هنا حصلت بعمله في الأصل المستأجر ، كما حصل الحب بعمله في الأرض المستأجرة .
فإن قيل : الفرق أن الحب حصل من بذره ، والثمر حصل من شجر المؤجر .
قيل : لا أثر لهذا الفرق في الشرع ، بل قد ألغاه الشارع في المساقاة والمزارعة فسوى بينهما ; والمساقي يستحق جزءا من الثمرة الناشئة من أصل الملك ; والمزارع يستحق جزءا من الزرع النابت في أرض المالك ، وإن كان البذر منه ، كما ثبت بالسنة الصحيحة الصريحة وإجماع الصحابة ، فإذا لم يؤثر هذا الفرق في المساقاة والمزارعة التي يكون النماء فيها مشتركا لم يؤثر في الإجارة بطريق الأولى ; لأن إجارة الأرض لم يختلف فيها كالاختلاف في المزارعة ، فإذا كانت إجارتها عندكم أجوز من المزارعة فإجارة الشجر أولى بالجواز من المساقاة عليها ، فهذا محض القياس وعمل الصحابة ومصلحة الأمة ، وبالله التوفيق .
والذين منعوا ذلك وحرموه توصلوا إلى جوازه بالحيلة الباطلة شرعا وعقلا ، فإنهم يؤجرونه الأرض وليست مقصودة له ألبتة ، ويساقونه على الشجر من ألف جزء على جزء [ ص: 12 ] مساقاة غير مقصودة وإجارة غير مقصودة ، فجعلوا ما لم يقصد مقصودا ، وما قصد غير مقصود ، وحابوا في المساقاة أعظم محاباة ، وذلك حرام باطل في الوقف وبستان المولى عليه من يتيم أو سفيه أو مجنون ، ومحاباتهم إياه في إجارة الأرض لا تسوغ لهم محاباة المستأجر في المساقاة ، ولا يسوغ اشتراط أحد العقدين في الآخر ، بل كل عقد مستقل بحكمه ، فأين هذا من فعل أمير المؤمنين وفقهه ؟ وأين القياس من القياس والفقه من الفقه ؟ فبينهما في الصحة بعد ما بين المشرقين ؟