فصل :
[ ربا الفضل ]
وأما فتحريمه من باب سد الذرائع ، كما صرح به في حديث ربا الفضل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : { أبي سعيد الخدري لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين ; فإني أخاف عليكم الرما } والرما هو الربا ، فمنعهم من ربا الفضل لما يخافه عليهم من ربا النسيئة ، وذلك أنهم إذا باعوا درهما بدرهمين ، ولا يفعل هذا إلا للتفاوت الذي بين النوعين - إما في الجودة ، وإما في السكة ، وإما في الثقل والخفة ، وغير ذلك - تدرجوا بالربح المعجل فيها إلى الربح المؤخر ، وهو عين ربا النسيئة ، وهذه ذريعة قريبة جدا ; فمن حكمة الشارع أن سد عليهم هذه الذريعة ، ومنعهم من بيع درهم بدرهمين نقدا ونسيئة ; فهذه حكمة معقولة مطابقة للعقول ، وهي تسد عليهم باب المفسدة .
[ وآراء العلماء في ذلك ] الأجناس التي يحرم فيها ربا الفضل
فإذا تبين هذا فنقول : الشارع نص على تحريم ربا الفضل في ستة أعيان ، وهي الذهب ، والفضة ، والبر ، والشعير ، والتمر ، والملح ، فاتفق الناس على تحريم التفاضل فيها مع اتحاد الجنس ، وتنازعوا فيما عداها ; فطائفة قصرت التحريم عليها ، وأقدم من يروى هذا عنه ، وهو مذهب أهل الظاهر ، واختيار قتادة في آخر مصنفاته مع قوله بالقياس ، قال : لأن علل القياسيين في مسألة الربا علل ضعيفة ، وإذا لم تظهر في علة امتنع القياس . ابن عقيل
وطائفة حرمته في كل مكيل وموزون بجنسه ، وهذا مذهب عمار في ظاهر مذهبه وأحمد ، وطائفة خصته بالطعام وإن لم يكن مكيلا ولا موزونا ، وهو قول وأبي حنيفة ورواية عن الإمام الشافعي ، وطائفة خصته بالطعام إذا كان مكيلا أو موزونا ، وهو قول أحمد [ ص: 105 ] ورواية عن سعيد بن المسيب وقول أحمد ، وطائفة خصته بالقوت وما يصلحه ، وهو قول للشافعي ، وهو أرجح هذه الأقوال كما ستراه . مالك
وأما الدراهم والدنانير ، فقالت طائفة : العلة فيهما كونهما موزونين ، وهذا مذهب في إحدى الروايتين عنه ومذهب أحمد ، وطائفة قالت : العلة فيهما الثمنية ، وهذا قول أبي حنيفة الشافعي ومالك في الرواية الأخرى ، وهذا هو الصحيح بل الصواب ، فإنهم أجمعوا على جواز إسلامهما في الموزونات من النحاس والحديد وغيرهما ; فلو كان النحاس والحديد ربويين لم يجز بيعهما إلى أجل بدراهم نقدا ; فإن ما يجري فيه الرد إذا اختلف جنسه جاز التفاضل فيه دون النساء ، والعلة إذا انتقضت من غير فرق مؤثر دل على بطلانها . وأحمد
وأيضا فالتعليل بالوزن ليس فيه مناسبة ، فهو طرد محض ، بخلاف التعليل بالثمنية ، فإن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات ، والثمن هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال ، فيجب أن يكون محدودا مضبوطا لا يرتفع ولا ينخفض ; إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن نعتبر به المبيعات ، بل الجميع سلع ، وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة ، وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة ، وذلك لا يكون إلا بثمن تقوم به الأشياء ، ويستمر على حالة واحدة ، ولا يقوم هو بغيره ; إذ يصير سلعة يرتفع وينخفض ، فتفسد معاملات الناس ، ويقع الخلف ، ويشتد الضرر ، كما رأيت من فساد معاملاتهم والضرر اللاحق بهم حين اتخذت الفلوس سلعة تعد للربح فعم الضرر وحصل الظلم ، ولو جعلت ثمنا واحدا لا يزداد ولا ينقص بل تقوم به الأشياء ولا تقوم هي بغيرها لصلح أمر الناس ، فلو أبيح ربا الفضل في الدراهم والدنانير - مثل أن يعطي صحاحا ويأخذ مكسرة أو خفافا ويأخذ ثقالا أكثر منها - لصارت متجرا ، أو جر ذلك إلى ربا النسيئة فيها ولا بد ; فالأثمان لا تقصد لأعيانها ، بل يقصد التوصل بها إلى السلع ، فإذا صارت في أنفسها سلعا تقصد لأعيانها فسد أمر الناس ، وهذا معنى معقول يختص بالنقود لا يتعدى إلى سائر الموزونات .