المثال الثاني عشر : وقد تقدم ذكره مجملا فنذكره ههنا مفصلا - رد الجهمية من ثمانية عشر نوعا : أحدها : التصريح بالفوقية مقرونة بأداة " من " المعينة لفوقية الذات نحو : { النصوص المتنوعة المحكمة على علو الله على خلقه وكونه فوق عباده يخافون ربهم من فوقهم } الثاني : ذكرها مجردة عن الأداة كقوله { وهو القاهر فوق عباده } الثالث : التصريح بالعروج إليه نحو { تعرج الملائكة والروح إليه } وقول النبي صلى الله عليه وسلم { } . فيعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم
الرابع : التصريح بالصعود إليه كقوله { إليه يصعد الكلم الطيب } الخامس : التصريح برفعه بعض المخلوقات إليه كقوله { بل رفعه الله إليه } وقوله { إني متوفيك ورافعك إلي } السادس : التصريح بالعلو المطلق الدال على جميع مراتب العلو ذاتا وقدرا وشرفا ، كقوله : { وهو العلي العظيم } { وهو العلي الكبير } { إنه علي حكيم } السابع : التصريح بتنزيل الكتاب منه كقوله : { تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم } { تنزيل من حكيم حميد } { قل نزله روح القدس من ربك بالحق } وهذا يدل على شيئين : على أن القرآن ظهر منه لا من غيره ، وأنه الذي تكلم به لا غيره ، الثاني : على علوه على خلقه وأن كلامه نزل به الروح الأمين من عنده من أعلى مكان إلى رسوله .
الثامن : التصريح باختصاص بعض المخلوقات بأنها عنده ، وأن بعضها أقرب إليه من بعض ، كقوله : { إن الذين عند ربك } وقوله : { وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون } ففرق بين من له عموما ومن عنده من مماليكه وعبيده خصوصا ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الكتاب الذي كتبه الرب تعالى على نفسه { } التاسع : التصريح بأنه سبحانه في السماء ، وهذا عند إنه عنده على العرش أهل السنة على أحد وجهين : إما أن تكون " في " بمعنى " على " ، وإما أن يراد بالسماء العلو ، لا يختلفون في ذلك ، ولا يجوز حمل النص على غيره ; العاشر : التصريح بالاستواء مقرونا بأداة " على " مختصا بالعرش الذي هو أعلى المخلوقات مصاحبا في الأكثر لأداة " ثم " الدالة على الترتيب والمهلة ، وهو بهذا السياق صريح في معناه الذي لا يفهم المخاطبون غيره من العلو والارتفاع ، ولا يحتمل غيره ألبتة ; الحادي عشر : التصريح برفع الأيدي إلى الله سبحانه [ ص: 216 ] كقوله صلى الله عليه وسلم { } . إن الله يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرا
الثاني عشر : التصريح بنزوله كل ليلة إلى السماء الدنيا ، والنزول المعقول عند جميع الأمم إنما يكون من علو إلى أسفل . الثالث عشر : الإشارة إليه حسا إلى العلو كما أشار إليه من هو أعلم به وما يجب له ويمتنع عليه من أفراخ الجهمية والمعتزلة والفلاسفة في أعظم مجمع على وجه الأرض يرفع أصبعه إلى السماء ، ويقول : اللهم اشهد ، ليشهد الجميع أن الرب الذي أرسله ودعا إليه واستشهده هو الذي فوق سماواته على عرشه ; الرابع عشر : التصريح بلفظ " الأين " الذي هو عند الجهمية بمنزلة " متى " في الاستحالة ، ولا فرق بين اللفظين عندهم ألبتة ، فالقائل " أين الله " و " متى كان الله " عندهم سواء ، كقول أعلم الخلق به ، وأنصحهم لأمته ، وأعظمهم بيانا عن المعنى الصحيح بلفظ لا يوهم باطلا بوجه " أين الله " في غير موضع . الخامس عشر : شهادته التي هي أصدق شهادة عند الله وملائكته وجميع المؤمنين لمن قال " إن ربه في السماء " بالإيمان ، وشهد عليه أفراخ جهم بالكفر ، وصرح بأن هذا الذي وصفته من أن ربها في السماء إيمان فقال في كتابه في باب عتق الرقبة المؤمنة وذكر حديث الأمة السوداء التي سودت وجوه الشافعي الجهمية وبيضت وجوه المحمدية ، فلما وصفت الإيمان قال : { } وهي إنما وصفت كون ربها في السماء ، وأن أعتقها فإنها مؤمنة محمدا عبده ورسوله ; فقرنت بينهما في الذكر ; فجعل الصادق المصدوق مجموعهما هو الإيمان .
السادس عشر :
إخباره سبحانه عن فرعون أنه رام الصعود إلى السماء ليطلع إلى إله موسى فيكذبه فيما أخبر به من أنه سبحانه فوق السماوات ، فقال : { يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا } فكذب فرعون موسى في إخباره إياه بأن ربه فوق السماء ، وعند الجهمية لا فرق بين الإخبار بذلك وبين الإخبار بأنه يأكل ويشرب . وعلى زعمهم يكون فرعون قد نزه الرب عما لا يليق به وكذب موسى في إخباره بذلك ; إذ من قال عندهم : إن ربه فوق السماوات فهو كاذب ، فهم في هذا التكذيب موافقون لفرعون مخالفون لموسى ولجميع الأنبياء ، ولذلك سماهم أئمة السنة " فرعونية " قالوا : وهم شر من الجهمية ; فإن الجهمية يقولون : إن الله في كل مكان بذاته ، وهؤلاء عطلوه بالكلية ، وأوقعوا عليه الوصف المطابق للعدم المحض ، فأي طائفة من طوائف بني آدم أثبتت الصانع على أي وجه كان قولهم خيرا من قولهم .
السابع عشر :
إخباره صلى الله عليه وسلم { موسى وبين الله ويقول له موسى : ارجع إلى ربك فسله التخفيف ، فيرجع إليه ثم ينزل إلى موسى فيأمره بالرجوع إليه سبحانه ، فيصعد إليه سبحانه ثم ينزل من عنده إلى موسى } ، عدة مرار . أنه تردد بين
الثامن عشر : إخباره تعالى عن نفسه [ ص: 217 ] وإخبار رسوله عنه أن المؤمنين يرونه عيانا جهرة كرؤية الشمس في الظهيرة والقمر ليلة البدر ، والذي تفهمه الأمم على اختلاف لغاتها وأوهامها من هذه الرؤية رؤية المقابلة والمواجهة التي تكون بين الرائي والمرئي فيها مسافة محدودة غير مفرطة في البعد فتمتنع الرؤية ولا في القرب فلا تمكن الرؤية ، لا تعقل الأمم غير هذا ، فإما أن يروه سبحانه من تحتهم - تعالى الله - أو من خلفهم أو من أمامهم أو عن أيمانهم أو عن شمائلهم أو من فوقهم ، ولا بد من قسم من هذه الأقسام إن كانت الرؤية حقا ، وكلها باطل سوى رؤيتهم له من فوقهم كما في حديث الذي في المسند وغيره { جابر سلام قولا من رب رحيم } ثم يتوارى عنهم ، وتبقى رحمته وبركته عليهم في ديارهم } ، ولا يتم إنكار الفوقية إلا بإنكار الرؤية ، ولهذا طرد بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور ، فرفعوا رءوسهم ، فإذا الجبار قد أشرف عليهم من فوقهم ، وقال : يا أهل الجنة سلام عليكم ثم قرأ قوله : { الجهمية أصلهم وصرحوا بذلك ، وركبوا النفيين معا ، وصدق أهل السنة بالأمرين معا ، وأقروا بهما ، وصار من أثبت الرؤية ونفى علو الرب على خلقه واستواءه على عرشه مذبذبا بين ذلك ، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء .
فهذه أنواع من الأدلة السمعية المحكمة إذا بسطت أفرادها كانت ألف دليل على علو الرب على خلقه واستوائه على عرشه ; فترك الجهمية ذلك كله وردوه بالمتشابه من قوله : { وهو معكم أينما كنتم } ورده زعيمهم المتأخر بقوله : { قل هو الله أحد } وبقوله : { ليس كمثله شيء } . ثم ردوا تلك الأنواع كلها متشابهة ، فسلطوا المتشابه على المحكم وردوه به ، ثم ردوا المحكم متشابها ; فتارة يحتجون به على الباطل ، وتارة يدفعون به الحق ، ومن له أدنى بصيرة يعلم أنه لا شيء في النصوص أظهر ولا أبين دلالة من مضمون هذه النصوص ; فإذا كانت متشابهة فالشريعة كلها متشابهة ، وليس فيها شيء محكم ألبتة ، ولازم هذا القول لزوما لا محيد عنه إن ترك الناس بدونها خير لهم من إنزالها إليهم ، فإنها أوهمتهم وأفهمتهم غير المراد ، وأوقعتهم في اعتقاد الباطل ، ولم يتبين لهم ما هو الحق في نفسه ، بل أحيلوا فيه على ما يستخرجونه بعقولهم وأفكارهم ومقايسهم ، فنسأل الله - مثبت القلوب تبارك وتعالى - أن يثبت قلوبنا على دينه وما بعث به رسوله من الهدى ودين الحق ، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ; إنه قريب مجيب .