[ ص: 243 ] فصل في الطلاق، وتقسيمه إلى سني وبدعي، وبيان أن الطلاق البدعي لا يقع
من كلام شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية مما كتبه في القلعة بدمشق في آخر عمره رحمة الله عليه [ ص: 244 ] [ ص: 245 ] بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين.
وقال شيخنا الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله، ونقلته من خطه.
فصل
الطلاق منقسم إلى طلاق سنة مأذون فيه، وطلاق بدعة منهي عنه بالكتاب والسنة والإجماع، ولكن تنازع الناس في الطلاق المحرم المنهي عنه هل يقع أم لا.
واتفقوا على أن أن يطلق واحدة في طهر لم يصبها فيه، وكذلك إذا الطلاق السني المباح فهذا وهذا جائز بالنص والإجماع، ولكن طلقها حاملا قد تبين حملها، فيه قولان، وهو نزاع لفظي. والصغيرة التي لم تحض والآيسة ليس في حقهما طلاق بدعة من حيث الوقت. هل يسمى طلاق الحامل طلاق سنة، أو لا يسمى سنة إلا طلاق من تحيض؟
وأما العدد ففيه نزاع مشهور، وأكثر السلف على أنه لا يحل له أن يطلق إلا طلقة واحدة، وهو مذهب مالك وهو ظاهر مذهب وأبي حنيفة، الذي رجع إليه - وهو اختيار أكثر أصحابه - بعد أن كان يجوز الثلاث، كما هو قول أحمد وهو اختيار الشافعي، وقد بسط الكلام على هذه المسائل في مواضع . [ ص: 246 ] الخرقي،
والذي تبين كما لا يلزم سائر العقود التي تنقسم إلى حلال وحرام، كالنكاح الحرام والبيع الحرام، إذا كان التحريم لحق الله، كالنكاح في العدة وبيع الخمر ونحوها من المحرمات، وأما إذا كان النهي لحق آدمي فلو رضي جاز، مثل بيع المعيب المدلس، دلالة الكتاب والسنة عليه وأصول الشرع أن الطلاق المحرم لا يلزم وبيع المصراة، والاشتراء منهم، ونحو ذلك. فهنا أيضا العقد غير لازم، لكن المظلوم يخير بين الفسخ والإمضاء، فهو موقوف على رضاه، وقد أعطى النهي حقه، فإن المقصود إزالة المفسدة، وذلك يحصل بتمكينه من الفسخ، وإذا علم أنه مظلوم ورضي بذلك جاز، كما لو رضي في ابتداء العقد مع علمه بالعيب والتدليس، فإن هذا جائز بالنص والإجماع. وتلقي الجلب
وهذا هو الجواب في هذا الباب، فإن من الناس من جعل النهي الذي لحق آدمي يقتضي فساد العقد أيضا، وقال أبو بكر عبد العزيز بذلك في المعيب المدلس، فلما أورد عليه المصراة سكت ولم يجب.
ولو أنهم قالوا: النهي يقتضي هنا موجبه من فساد لزوم العقد، فإن العقد لا يقع لازما كلزوم العقود الصحيحة، بل للمظلوم الفسخ، لكان هذا عملا بالنصوص كلها وبالإجماع، مع طرد القاعدة.
وأما من زعم أن النهي هنا يقتضي بطلان العقد بالكلية، فهو قول فاسد مخالف للنص والإجماع، وهو قول من لم يعرف مقصود النهي، وهو إزالة الفساد بحسب الإمكان. وهو في مقابلة قول من يقول: إن النهي لا يقتضي الفساد أصلا ، ويحتج بصور متنازع فيها، كطلاق [ ص: 247 ] الحائض، إذ ليس معهم صورة منهي عنها مع أنها صحيحة لازمة، لا بنص ولا بإجماع، بل كل ما يذكر في ذلك فهو من صور النزاع، ولا نص في شيء من ذلك على أنه صحيح لازم. ولهذا لم يكن هذا القول معروفا عن أحد من السلف والأئمة، كما لم يعرف ذلك عن أحد من السلف والأئمة، وإنما قاله طائفة من أهل الكلام من والصلاة في الدار المغصوبة، المعتزلة والأشعرية ومن تبعهم، وقال هؤلاء: إن فساد العبادات والعقود لا يتلقى من خطاب الشارع بالأمر والنهي والتحليل والتحريم، وإنما يتلقى من خطاب الإخبار بقوله: إن هذا صحيح أو فاسد، أو جعله الشيء شرطا ومانعا وركنا، فيفسد العبادة أو العقد، لفوات شرطه أو ركنه أو لوجود مانعه.
وهذا كلام قوم ليسوا من أهل الاجتهاد والعلم بالأدلة الشرعية، وإنما يتكلمون في مقدرات مفروضة في الأذهان، لا وجود لها في الأعيان، فإن هذا الذي زعموا أنه هو الذي يستدل به على صحة العقود والعبادات وفسادها، لا يوجد في كلام الشارع، لا يوجد في كلامه أنه قال: هذا العقد أو العبادة تصح أو لا تصح، أو هذا ركن أو شرط أو مانع ونحو ذلك. وإنما هذه عبارات الفقهاء الذين فهموا ما فهموه من كلام الشارع، وعبروا عن ذلك بعباراتهم، ثم قد يكون ما عبروا به عن كلام الشارع حقا بالإجماع، وقد يكون فيه نزاع.