الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فقوله: والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء نص في أن المراد ذات الإقراء. وقد تنازع الناس هل يعم لفظها لذوات الحمل والمتوفى عنها، ثم قد خص منها ذلك؟ أو لا يعم لفظها لهؤلاء؟ [ ص: 257 ] على قولين . والأول قاله بعض أهل التفسير، كما ذكره مقاتل بن سليمان، وكما روي عن الضحاك أيضا، وهو شيخ مقاتل. قالوا: إن الله استثنى من هذه الآية من لم يدخل بها، واستثنى منها ذوات الحمل، واستثنى الصغيرة والكبيرة.

فأما استثناء من لم يدخل [بها] فقد قاله غير هؤلاء، ورواه أبو داود في سننه عن ابن عباس، وتقدم القول فيه.

وأما استثناء هؤلاء وإخراجهن من الآية فقول ضعيف. والصواب أن الآية لم تشمل هؤلاء:

أما الصغيرة والكبيرة فإنهن لا يحضن، وقوله ثلاثة قروء هي الحيض التي يكون فيها طهر، فلا بد أن يكون ذلك فيمن تحيض وتطهر، ويمتنع أن يقال لمن لا قروء لها: تتربص ثلاثة قروء. فالآية لم تشمل أولئك.

ولم يقل أحد: إنه استثني منها المتوفى عنها، فإن لفظ المطلقات لا يتناول من مات عنها زوجها.

وأما أولات الأحمال فنقول: لو شملها اللفظ لكانت تحتاج أن تتربص ثلاثة قروء بعد وضع الحمل وانقضاء النفاس، فإن العادة الغالبة أن الحامل لا ترى دما، وقد تراه نادرا، والفقهاء مختلفون هل هو حيض أم لا؟ ولو قيل: هو حيض نزاع أنه لا تقضي به العدة، ثم إنها ترى النفاس، ثم تتربص ثلاثة قروء، فتبقى في العدة أكثر من [ ص: 258 ] سنة في الغالب، ومعلوم أن الله كما لم يرد ذلك بهذه الآية، فلم يدل لفظها على ذلك، لأنه قال: يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ، والتربص الانتظار، فجعل مدة التربص ثلاثة قروء، كما قال: للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر . والتربص في الموضعين من حين السبب، وهو الإيلاء أو الطلاق، فإنه لما قال: والمطلقات يتربصن كان أمرا لهن بالتربص من حين طلقهن، وإذا وجب عليها من حين الطلاق تربص ثلاثة قروء حينئذ امتنع أن يكون بين الطلاق وهذه القروء عدة أخرى كالحمل، والله تعالى أمر بطلاقها للعدة، فالعدة التي هي القروء، فستعقب الطلاق لا تتراخى عنه، ولأن قوله ثلاثة قروء عدد، فعلم أنها لا تتربص زيادة على ذلك.

فهذا وغيره مما يبين أن لفظ الآية لم يشمل إلا المطلقة التي لها قروء عقب الطلاق، لم يتناول الصغيرة ولا الكبيرة ولا الحامل، كما لم يتناول المتوفى عنها، وإذا كان كذلك تبين أنها أيضا لم يتناول من لا تدري أتعتد بالقروء أو بوضع الحمل، فإن هذه ليست مأمورة من حين الطلاق أن تتربص ثلاثة قروء، والآية قد دلت على أن المطلقات المذكورات في الآية مأمورات أن تتربص كل واحدة منهن ثلاثة قروء عقب الطلاق، فلم تدخل في الآية الحامل، ولا من لا يعرف هل هي حامل أو حائل، ولو كانت هذه مطلقة لوجب أن تشملها الآية على تقدير، فيجب عليها إن لم تكن حاملا أن تتربص من حين الطلاق ثلاثة قروء، فلما لم تشملها الآية علم أنها ليست مطلقة. والمطلقات المذكورات هنا هن المطلقات المذكورات في قوله: إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن [ ص: 259 ] ، والطلاق للعدة لا تدخل فيه هذه، فإنها ليست مطلقة للعدة، فعلم أنها لا تكون مطلقة.

وأما الجواب عما احتجوا به فيقال: الآية سواء شملت الولد والحيض، أو قدر أنها مختصة بالولد، فلا يمتنع أن يطلق للسنة وتكتم الحمل والولد، تارة تكره الزوج فتكتمه، لئلا يعلم به فيراجعها، وتارة تكتمه لتطول العدة فتأخذ النفقة، وقد تكتمه لتنفيه عن أبيه، وذلك أنه إذا طلقها وقد رأت الطهر، فقد تكون مع ذلك حاملا، فإن الحامل قد ترى الدم باتفاق الناس، وهل يكون حيضا؟ على قولين، والطهر دليل ظاهر على براءة الرحم وليس قاطعا، فقد تكون حاملا لاسيما في أوائل الحمل، وترى الدم [في] الطهر، فيطلقها يظنها حائلا، وتكون حاملا تكتم ذلك. وقد يكون في ابتداء الخبر، فتخبر أنها حاضت وطهرت، ليطلقها، رغبة منها في الطلاق وكراهة التزوج.

وقوله ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن يقتضي تحريمه في هذه الحال أيضا، فإنه إذا حرم عليها الكتمان بعد الطلاق، فقبل الطلاق أولى أن يحرم عليها الكتمان؛ لأنه حينئذ يحتاج أن يعرف هل هي طاهر فيباح له الطلاق، أم لا؟ وهل هي حامل لئلا يطلقها، أم لا؟ فإذا كتمت الحمل وزعمت أنها طاهر ليطلقها، كانت أولى بالإثم من أن تكتم ذلك في آخر العدة، فإن هذه قصدت أن توقعه في طلاق محرم، وأن تخرج نفسها من ملكه بالحيلة، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن المنتزعات والمختلعات هن المنافقات" ، وقال: "أيما امرأة سألت [ ص: 260 ] زوجها الطلاق في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة" . فإذا كان هذا بسؤالها واختياره فكيف باحتيالها ومكرها. وهذا مما يدل على بطلان الطلاق، فإن الشارع حكيم ينبغي أن يعاقبها بنقيض قصدها، فلا يحصل لها ما طلبته من المكر والخداع المحرم. فإذا كتمت الحمل وقالت: إني طاهر، حتى طلقها، ولم تكن طاهرا بل كانت موطوءة، ولم يتبين حملها فهذه لا يقع بها الطلاق، على هذا القول الذي نصرناه، وقد وقع مثل هذه القضية، وإذا تبين أنها قد تكتم الحبل بعد الطلاق وقبل الطلاق، مع أن المطلقة مأمورة بثلاثة قروء، تبين أن هذا القول هو المتضمن للعمل بالآية دون ذاك.

التالي السابق


الخدمات العلمية