ثم إن صاحب الحق الذي قد علم أن بل هذا وهذا يقول يوم القيامة: الدنيا لا تدوم، فلا يدوم للإنسان فيها لا جاه ولا مال، ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه . وقد روى الترمذي وغيره عن كعب رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: [قال] "ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه". حديث حسن صحيح. بين - صلى الله عليه وسلم - أن حرص المرء على المال والشرف والرئاسة يفسد الدين مثل أو أبلغ من إفساد الذئبين الجائعين إذا أرسلا في زريبة غنم. وهذا الحرص صفة تقوم بالنفس، والدين هو الذي يبقى ويدوم نفعه بعد الموت، فلو قدر أن الإنسان طلب من [ ص: 51 ] المال والشرف ما لا ينفعه بعد الموت، لكان صاحب باطل ولعب وعبث، فكيف إذا طلب ما هو صار له بعد الموت يفسد ما ينفعه، كإفساد الذئبين الجائعين لزريبة الغنم. ولهذا إنما جعل ذلك الحرص على المال والشرف، والحرص يوجب الشح، فإن الشح أصله شدة الحرص. الترمذي:
وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إياكم الشح، فإن الشح أهلك من قبلكم، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا".
ورئي رضي الله عنه يطوف وهو يقول: "رب قني شح نفسي، رب قني شح نفسي"، فقيل له: ما أكثر ما تدعو بذلك! فقال: إذا وقيت الشح وقيت البخل والظلم والقطيعة . عبد الرحمن بن عوف
وذكر رجل رضي الله عنه أنه يكره إخراج المال، أفشحيح هو؟ فقال لابن مسعود رضي الله عنه: ذلك البخيل، وبئس الشيء البخل، ولكن الشح أن تحب أخذ مال أخيك . ابن مسعود
ولهذا فإن البخيل يبخل بما عنده، والشح هو شدة الحرص، فهو عمل على الحسد حتى يكره أن يعطي الله تعالى غيره من فضله، وعمل على الظلم والقطيعة حتى يأخذ مال غيره بغير حق. ولهذا قال الله تعالى: الشح كان أعظم من البخل، ولا يجدون في صدورهم حاجة [ ص: 52 ] مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون . فمدح الأنصار بأنهم لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتي المهاجرون، أي لا يجدون في أنفسهم طلبا لما أنعمه الله عليهم، بل نفوسهم غنية، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: . والحاسد والحريص أنفسهم فقيرة محتاجة لا غنى فيها، "ليس الغنى عن كثرة العرض، وإنما الغنى غنى النفس" والمحسن إلى الناس أفضل من المستغني الذي لا يحسن. ولهذا جاء في الحديث : فالحاسد شر من البخيل، " الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، والحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب".