وأما لا لمجرد كونه مزيلا للملك أو موقعا للتحريم الذي تزيله الكفارة، فإن الزوج له أن [ ص: 320 ] يزيل الملك بالطلاق، والتحريم الذي تزيله الكفارة لا ينافي الشرع، فإن المرأة قد تحرم على زوجها إلى غاية، كتحريم المحرمة والصائمة والمعتكفة، وتحريم الحلال يوجب كفارة على ظاهر القرآن، وهو أحد قولي العلماء. وإنما نهي عن الظهار لاشتماله في نفسه على القول المنكر والزور، وهذا المعنى لا يمكن إبطاله بعد وقوعه، كما أن من نهي عن الكذب وشهادة الزور فكذب وشهد بالزور لا يمكن أن يقال: ما كذب ولا شهد بالزور، وكذلك من نهي عن الكفر والقذف فكفر وقذف لا يمكن أن يقال: إنه ما وقع منه كفر ولا سب، فكذلك الظهار، لكن كانوا في الجاهلية وأول الإسلام يجعلونه طلاقا مزيلا للملك، فرفع الله ذلك، ولم يجعله مزيلا للملك، بل للرجل أن يمسك المرأة إن شاء ويطأها إذا كفر. الظهار فنهي عنه لأنه منكر من القول وزور،
ثم قال موجبه إما إزالة الملك بالطلاق، وإما التكفير. وقال الجمهور الشافعي: مالك وأبو حنيفة بل موجبه الامتناع من الوطء أو التكفير، فجعلوه يشبه اليمين التي يكون موجبها إما الامتناع من فعل المحلوف عليه وإما التكفير، لكن وأحمد: لأن الظهار محرم، لاشتماله على منكر من القول والزور، فلم يكن له أن يطأها حتى يأتي بالتحلة التي فرضها الله له، وكان ما رفعه الله من إيقاع الطلاق بالظهار كما كانوا عليه في أول الأمر دليلا على أنه ليس كل لفظ قصد به الطلاق يقع به الطلاق، فإن هذا اللفظ كانوا يقصدون به الطلاق، ثم لم يوقع الله به الطلاق، بل نسخ ما كانوا عليه. ولا بد لهذا من سبب يوجب الفرق بينه وبين لفظ الطلاق. فلما كان من أوقع الطلاق بلفظه يقع ومن أوقع بلفظ الظهار لا يقع-: لم يكن بد من الفرق بينهما في نفس الأمر. [ ص: 321 ] الكفارة في الظهار تجب قبل العود؛
ولا يسوغ أن يعلل الشرع بما يقوله من يقول من الفقهاء: لفظ الظهار صريح في حكمه، وقد وجد نفاذا فيه، فلا يكون كناية في غيره.
فإنه يقال له: السؤال هو عن علة هذا الحكم: لم جعل هذا القول صريحا في غير الطلاق بحيث لا يقع به الطلاق وإن نواه، فإن هذا يقتضي أن الأقوال عند الشارع نوعان: نوع إذا نوى به الطلاق وقع; ونوع إذا نوى به الطلاق لم يقع، فلا بد لأحد القولين من أن يختص بمعنى يوجب اختصاصه بذلك الحكم، فما هو الفارق عند الشارع بين هذا القول وهذا القول حتى جعل الطلاق يقع بهذا ولم يجعله يقع بهذا، بل عدل به عن الطلاق الذي كانوا يوقعونه، إلى أن أوجب فيه الكفارة. وهذا أمر ثابت في نفس الأمر لا بد منه.
فلقائل أن يقول: العلة في ذلك أن هذا القول منكر من القول وزور، فلا يقع الطلاق بمنكر من القول وزور، فيكون هذا حجة لمن قال: إن الطلاق المنهي عنه لا يقع؛ لأنه أيضا محرم كما أن هذا محرم; فإن كون الكلام منكرا من القول وزورا يوجب النهي عنه وتحريمه. ويشاركه في ذلك كل كلام محرم، فإن جميعها أقوال محرمة ينهى الله عنها ورسوله. فإن كان المتكلم بالكلام الحرام إذا نوى به الطلاق وقع، فما الفرق بين هذا الكلام المحرم وغيره؟.
وقد شذ بعض متأخري الفقهاء فزعم أن الظهار ليس بمحرم.
لكن هذا خلاف النص والإجماع القديم، فإنه قد حكى الاجماع على تحريم ذلك غير واحد من العلماء، ولم يعلم نزاع قديم يقدم في ذلك كما علم في غيره. والذي نقطع به أنا لا نعلم فيه خلافا قديما.
وقد يقال: بل هذا القول لا يتضمن إزالة الملك، بل هو كذب [ ص: 322 ] في نفسه، وهو منكر لكونه جعل امرأته بمنزلة أمه. والأقوال التي بها يقع الطلاق لا بد أن يتضمن إزالة الملك، ولهذا جعل أحمد التحريم صريحا في الظهار، لأنه أيضا بمنزلته في كونه منكرا وزورا. لكن يرد على هذا أنه إذا قصد التشبيه ونوى أنك إذا وقع بك الطلاق صرت مثل أمي، فإن هذا الوصف لازم لو زال الملك. وليس من شرط التشبيه التساوي من كل وجه، فقوله "أنت مثل أمي" أي: طلقتك فصرت مثل أمي، كقوله "أنت خلية وبرية وبائن"، فإن المعنى: طلقتك فصرت كذلك. وقوله "أنت طالق" معناه طلقتك فصرت طالقا، فإذا قال "مثل أمي" أي جعلتك مثل أمي في كونك لا تبقي زوجة.
وهذا هو الذي كانوا يقصدونه، وإلا فهم يعلمون أن المرأة لا تصير مثل أمه محرمة على التأبيد، فإذا كان ما قصدوه مما يمكن أن يقصد بهذا اللفظ وأمثاله ولم يعتبره الشارع علم أنه أبطل ذلك لكون القول في نفسه منكرا وزورا، فيشاركه في ذلك ما كان كذلك، فقول القائل "أنت طالق ثلاثا" منكر من القول؛ لأن الله حرمه، وكل واحد من كون القول منكرا يوجب إبطاله. وقوله تعالى وزورا ، الزور: هو نوع من المنكر، فإن كل زور منكر، فيمكن أن يكون هذا وجه كونه منكرا.
وإن قيل: هو جزء علة.
قيل: كل ما كان منكرا فإن الله ينهى عنه، سواء كان زورا أو لم يكن.