وأما من لم يعلم أن ذلك محرم أو اعتقد أنه مباح وفعله، فهذا لا يستحق أن يعاقب، ولا يمكن إلزامه به على وجه العقوبة، إلا أن يكون الشارع ألزمه بالثلاث. وظهر مقصود فإنهم إذا كانوا يعتقدون تحريمه، والشارع نهاهم عنه، وإذا أوقعوه جعله واحدة، فإذا صاروا يوقعونه قاصدين للثلاث صاروا يقصدون ما نهوا عنه، وقد يعتقد عامتهم وقوع الثلاث به، فعاقبهم عمر على ذلك بإلزامهم ما قصدوه وما اعتقدوه. عمر،
فإن قيل: فقد تقدم أن الشارع لم يعاقب بوقوع الطلاق.
قلنا: نعم، ولكن جعل هذا عقوبة هو مما يقوله كثير من السلف والخلف بالاجتهاد، كما يقول كثير من الفقهاء: إنما ليس في الكتاب والسنة عقوبة بوقوع الطلاق، ونحن ذكرنا مقاصد اجتهاد يوقع الطلاق بالسكران عقوبة له، رضي الله عنه. عمر
وأيضا رضي الله عنه رأى أن في إلزامهم به منعا لهم من إيقاعه، فرأى أن ما ينتفي من وقوع الطلاق البغيض إلى الله أكثر مما يقع منه، فدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما، فإنهم إذا كانوا يوقعون الثلاث المحرمة ولا يرونها إلا واحدة، وكانوا يقصدون الثلاث أولا بالقول المحرم مع علمهم أنه لا يلزمهم ذلك، يكثر منهم تكلمهم بالثلاث وقصدهم إيقاعها، وذلك بغيض إلى الله، ووقوعه أيضا بغيض، لكن ما فعله أوجب دفع أكبر البغيضين وقوعا بأدناهما وقوعا، فإنهم إذا علموا أنه يلزمهم بالثلاث الثلاث امتنعوا عن التكلم بالثلاث، [ ص: 336 ] فكان في ذلك دفع أمور كثيرة بغيضة إلى الله بإلزام أمور أقل منها، ولما رأى أنهم لا ينتهون إلا بذلك فعل ذلك. فعمر
ينهى عن التحليل ويقول: لا أوتى بمحلل ومحلل له إلا رجمتهما، عمر فلو رأى وكان أن إيقاع الثلاث يفضي إلى التحليل الذي حرمه الله ورسوله وإلى كثرته العظيمة لم ينه عنه، لعلمه بأن القول بأن الثلاث لا تقع إلا واحدة خير من التحليل، وأن المفسدة في التحليل أضعاف المفسدة في أن يتكلموا بالثلاث فلا يقع بهم إلا واحدة. فمتى دار الأمر بين أن تقع الثلاث ويحلل، وبين أن لا تقع الثلاث، كان أن لا يقع أولى. ولا يرتاب في هذا من نور الله قلبه بالإيمان، فإن التحليل فيه شر كبير ليس في عدم إيقاع الثلاث جملة منها شيء. عمر
وكان نكاح التحليل قليلا جدا في زمن الصحابة، ولهذا سئلوا عنه في وقائع مخصوصة، وقال لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما. وقد عمر بن الخطاب: . لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - المحلل والمحلل له
ولم يكن على عهده من يظاهر بذلك، لكن قد يكون من يفعل ذلك باطنا ومن يقصده، فلعنه كما لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه، لتنزجر النفوس بذلك عن قصد التحليل، فلا يقع منه شيء لوجهين: أحدهما: لتتم عقوبة الله للمطلق الذي طلق الثالثة بعد طلقتين، فلا يقصد أحد إعادة امرأته إليه، فينزجر بذلك عن إيقاع الثلاث مفرقة. [ ص: 337 ]
والثاني: لأن التحليل من جنس السفاح لا من جنس النكاح، فإنه غير مقصود. ولهذا كان الزوج مشبها فيه بالتيس المستعار، الذي يقصد استعارته لا مصاحبته.
فلما كان مفسدة وقوع الثلاث قليلة لقلة التحليل، وكان الناس قد أكثروا مما نهوا عنه من إيقاع الثلاث جملة، رأى أن يعاقبهم بإنفاذ ذلك عليهم، لئلا يفعلوا ذلك، فالشارع حرم عليهم المرأة بعد الثالثة عقوبة لهم، فرأى عمر وغيره أنهم إذا أكثروا من إيقاعها مجتمعة استحقوا هذه العقوبة. بخلاف ما كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمر وأول خلافته، فإنها كانت قليلة في الناس، وكانوا ينتهون بنهي الشارع، فلم يكن في وقوعها قليلا حاجة إلى عقوبة. ولا ريب أنه إذا كثر المحظور احتاج الناس فيه إلى زجر أكثر مما إذا كان قليلا. وأبي بكر
ولهذا لما رأى الصحابة رضي الله عنهم كثرة شرب الناس الخمر واستخفافهم بالعقوبة التي هي أربعون جلدوا ثمانين، وكان مع ذلك ينفي ويحلق الرأس، لأن عقوبة الشارب لم يقدر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها قدرا مؤبدا كما قدر في القذف، لا عددا ولا صفة، بل أقل ما ضرب أربعين، وكان يضرب بالجريد والنعال وأطراف الثياب، وقد أمر بقتل الشارب في الرابعة ، فكان صفة عقوبته وقدرها مفوضا إلى اجتهاد الأئمة، ولو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أوجب فيها حدا حرم ما زاد عليه لامتنع عليهم أن يبدلوا شريعته، فإنهم لا يتفقون على ضلالة. عمر
وإذا كان هذا فعله على وجه العقوبة والتعزير بذلك لكثرة إقدام الناس على المحظور، لا لأنه شرع لازم لكل من تكلم بذلك، [ ص: 338 ] سواء كان عالما بالتحريم أو جاهلا، وسواء كان الناس يحتاجون إلى العقوبة بذلك أو لا يحتاجون، لم يكن على أن إيقاع الثلاث بكلمة واحدة لكل من تكلم بها دليل شرعي أصلا. وإذا كان كثير من الفقهاء يوقعون الطلاق بالسكران، ويقولون: نوقعه عقوبة ونجعل ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد، مع أن هذا لا يوجب انتهاء الناس عن الشكر، فكيف لا يكون ما فعله عمر رضي الله عنه من العقوبة مما يسوغ فيه الاجتهاد؟ مع أن ذلك أقرب إلى الأدلة الشرعية ومقصود المعاقب من هذا. عمر