عقد الخلافة لولده يزيد بن عبد الملك الوليد بعد أخيه وكان يومئذ ابن إحدى عشرة سنة ، فلم يمت هشام بن عبد الملك ، يزيد حتى بلغ ابنه خمس عشرة سنة ، فندم على استخلافه هشام ، وولي هشام وهو للوليد مكرم معظم ، فظهر من الوليد لعب وشرب للشراب ، واتخذ ندماء ، فولاه هشام الحج سنة ست عشرة ومائة ، فحمل معه كلابا في صناديق ، وعمل قبة على قدر الكعبة ليضعها على الكعبة ، وحمل معه خمرا ، وأراد أن ينصب القبة على الكعبة ويجلس فيها ، فخوفه أصحابه ، فجمع المغنين بمكة ، وتشاغل باللهو .
[ ص: 237 ]
أنبأنا علي بن عبيد الله بن نصر ، قال: أنبأنا قال: أخبرنا أبو جعفر بن المسلمة ، أبو الحسين ابن أخي ميمي ، قال: أخبرنا أبو مسلم بن مهدي ، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن قارن ، قال: حدثنا علي بن الحسن الهسنجاني ، قال: حدثنا أصبغ بن الفرج ، قال: سمعت ابن عيينة يحدث: أن كان أمر بقبة من حديد أن تعمل وتركب على أركان الوليد بن يزيد الكعبة ويخرج لها أجنحة لتظلله إذا حج وطاف ، فعملت ولم يبق إلا أن تركب ، فقام الناس في ذلك -الفقهاء والعباد- وغضبوا في ذلك وتكلموا وقالوا: لا يكون هكذا قط ، وكان من أشدهم في ذلك كلاما وقياما سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن ، وكتب إلى الوليد بذلك ، فكتب: أن اتركوها ، فقال سعد بن إبراهيم عند ذلك: ليس إلا هذا لاها الله حتى يصنع بها كما صنع بالعجل لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا النار النار ، فدعا بالنار حتى أحرقت .
أخبرنا محمد بن أبي منصور ، قال: أنبأنا علي بن أحمد بن البسري ، عن قال: حدثني أبي عبد الله بن بطة العكبري ، أبو صالح محمد بن أحمد ، قال: حدثنا الحارث بن أبي أسامة ، قال: حدثنا قال: حدثنا الواقدي ، موسى بن أبي بكر ، عن أن صالح بن كيسان: الوليد ولى سعد بن إبراهيم على قضاء المدينة ، وأراد الوليد الحج ، فاتخذ قبة من ساج ليجعلها حول الكعبة ليطوف هو ومن أحب من أهله ونسائه فيها ، وكان فظا متجبرا ، فأراد بزعمه أن يطوف فيها حول الكعبة ، ويطوف الناس من وراء القبة ، فحملها على الإبل من الشام ، ووجه معها قائدا من قواد أهل الشام في ألف فارس ، وأرسل معه مالا يقسمه في أهل المدينة ، فقدم بها فنصبت في مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ففزع لذلك أهل المدينة ثم اجتمعوا فقالوا: إلى من نفزع في هذا الأمر ، فقالوا: إلى سعد بن إبراهيم ، فأتاه الناس فأخبروه الخبر ، فأمرهم أن يضرموها بالنار ، فقالوا: لا [ ص: 238 ] نطيق ذلك ، معها قائد في ألف فارس من أهل الشام ، فدعا مولى له فقال: هلم الجراب ، فأتاه بجراب فيه درع عبد الرحمن التي شهد فيها بدرا ، فصبها عليه وقال لغلامه: هلم بغلتي ، فأتاه ببغلته فركبها ، فما تخلف عنه يومئذ قرشي ولا أنصاري حتى إذا أتاه قال: علي بالنار ، فأتي بنار فأضرمها فيها ، فغضب القائد وهم بالخصومة ، فقيل له: هذا قاضي أمير المؤمنين ومعه الناس ولا طاقة لك به ، فانصرف راجعا إلى الشام ، وشبع عبيد أهل المدينة من الناطق مما استلبوه من حديدها .
فلما بلغ ذلك الوليد كتب إليه: ول القضاء رجلا وأقدم علينا ، فولى القضاء رجلا وركب حتى أتى الشام ، فأقام ببابه أشهرا لا يؤذن له حتى نفدت نفقته ، وأضر به طول المقام ، فبينا هو ذا عشية في المسجد إذا هو بفتى في جبة صفراء سكران ، فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا خال أمير المؤمنين سكران يطوف في المسجد ، فقال لمولى له: هلم بالسوط ، فأتاه بسوطه ، فقال: علي به ، فأتي به فضربه في المسجد ثمانين سوطا ، وركب بغلته ومضى راجعا إلى المدينة ، فأدخل الفتى على الوليد مجلودا ، فقال: من فعل هذا به؟ قالوا: مديني كان في المسجد ، فقال: علي به ، فلحق على مرحلة ، فدخل عليه ، فقال أبا إسحاق: ماذا فعلت يا ابن أخيك؟ فقال: يا أمير المؤمنين ، إنك وليتنا أمرا من أمورك ، وإني رأيت حد الله ضائعا ، سكران يطوف في المسجد وفيه الوفود ووجوه الناس ، وكرهت أن يرجع الناس عنك بتعطيل الحدود ، فأقمت عليه حده ، فقال: جزاك الله خيرا ، وأمر له بمال وصرفه إلى المدينة ولم يذاكره شيئا من أمر القبة ، ولا عن فعله فيها .
ولما ظهر من الوليد تهاون بالدين طمع فيه هشام ، وأراد خلعه والبيعة لابنه [مسلمة بن هشام ، فأبى ، فتنكر له هشام وعمل سرا في البيعة لابنه] وتمادى الوليد في الشراب فأفرط ، فقال له هشام: ويحك يا وليد! ما أدري أعلى الإسلام أنت أم لا؟! ما تدع شيئا من المنكر إلا أتيته غير متحاش ، فكتب إليه الوليد يقول:
[ ص: 239 ]
يا أيها السائل عن ديننا ديني على دين أبي شاكر نشربها صرفا وممزوجة
بالسخن أحيانا وبالفاتر
فخرج عياض من السجن ، فختم أبواب الخزائن ، وأمر بهشام فأنزل عن فرشه ، فما وجدوا قمقما يسخن له فيه الماء حتى استعاروه ، ولا وجدوا كفنا من الخزائن ، وكفنه غالب مولى هشام .
فولي الوليد الخلافة يوم السبت في شهر ربيع الآخر سنة خمس وعشرين ومائة .
هذا قول هشام بن محمد .
وقال استخلف يوم الأربعاء لست خلون من ربيع الآخر ، ولما ولي الواقدي: الوليد ويكنى أبا العباس ، وكانت أمه يقال لها أم الحجاج بنت محمد بن يوسف بن الحكم أخي الحجاج بن يوسف ، وكان أبيض أحمر أعين جميلا ، قد شاب ، طويل أصابع الرجلين ، يوتر له سكة حديد فيها خيط ، ويشد الخيط في رجله ، ثم يثب على الدابة [ ص: 240 ] فينتزع السكة ويركب ، ما يمس الدابة بيده . وكان عالما باللغة والشعر ، فمن شعره قوله:
شاع شعري في سليمى وظهر ورواه كل بدو وحضر
فتهاداه العذارى بينها وتغنين به حتى اشتهر
قلت قولا في سليمى معجبا مثلما قال جميل وعمر
لو رأينا لسليمى أثرا لسجدنا ألف ألف للأثر
واتخذناها إماما مرتضى ولكانت حجنا والمعتمر
إنما بنت سعيد قمر هل خرجنا إن سجدنا للقمر
إن القرابة والمودة ألفا بين الوليد وبين بنت سعيد
سلمى هواي ولست أذكر غيرها دون الطريف ودون كل تليد
أنا الوليد أبو العباس قد علمت عليا معد مدى كري وإقدامي
إني لفي الذروة العليا إذا انتسبوا مقابل بين أخوالي وأعمامي
حللت من جوهر الأغراض قد علموا في باذخ مشمخر العز قمقام
[وقد روى أبو عبيدة المرزباني ، قال: حدثنا أحمد بن كامل ، قال: كان الوليد بن [ ص: 241 ] يزيد زنديقا ، وأنه فتح المصحف يوما فرأى فيه واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد فألقاه ورماه بالسهام ، وقال:
تهددني بجبار عنيد فها أنا ذاك جبار عنيد
إذا ما جئت ربك يوم حشر فقل يا رب حرقني الوليد]
وفي رواية عن قال: سألت عن هذا الحديث الأوزاعي ، فقال: إن استخلف الزهري ، وإلا فهو الوليد بن يزيد ، الوليد بن عبد الملك .
قال مؤلف الكتاب رحمه الله: والوليد بن يزيد أحق من وكان الوليد بن عبد الملك ، مشهورا بالإلحاد ، مبارزا بالعناد ، مطرحا للدين ، وإنما قال عليه السلام: "سميتموه بأسماء فراعينكم" لأن اسم فرعون الوليد بن يزيد موسى الوليد .
فلما ولي الوليد زاد ما كان يفعله من اللهو ، وكتب إلى العباس بن عبد الملك بن مروان أن يأتي الرصافة فيحصي ما فيها من أموال هشام وولده ، ويأخذ عماله وحشمه إلا مسلمة بن هشام فإنه كتب إليه: لا يعرض له ولا يدخل منزله ، فإنه كان يكثر أن [ ص: 242 ] يكلم أباه في الرفق ويكفه . فقدم العباس الرصافة فأحكم ما كتب به الوليد إليه .
واستعمل الوليد العمال ، وجاءت بيعته من الآفاق ، وأقبلت إليه الوفود ، وأجرى على زمنى أهل الشام وعميانهم ، وكساهم ، وأمر لكل إنسان منهم بخادم ، وأخرج لعيالات الناس الطيب والكسوة ، وزادهم على ما كان يخرج لهم هشام ، وزاد الناس جميعا في العطاء عشرات ، ثم زاد أهل الشام بعد زيادة العشرات عشرة عشرة لأهل الشام خاصة ، وزاد من وفد إليه من أهل بيته في جوائزهم الضعف .
وفي جمادى الآخرة من هذه السنة ، وذلك بعد شهرين من ولايته الحكم بعده ، وجعلهما وليي عهده ، أحدهما بعد الآخر ، وعثمان [وجعل عقد البيعة لابنيه الحكم مقدما على عثمان] ، وقلد الحكم الشام ، وعثمان حمص ، وكتب بذلك إلى الأمصار ، وكان ممن كتب إليه بذلك يوسف بن عمر ، وهو عامل الوليد يومئذ على العراق ، وكتب بذلك يوسف إلى نصر بن سيار ليبايع الناس لهما .
وفي هذه السنة: الوليد بن يزيد نصر بن سيار خراسان كلها ، وأفرده بها ، ثم وفد ولى يوسف بن عمر على الوليد فاشترى نصرا وعماله منه ، فرد إليه ولاية خراسان فكتب يوسف بن عمر إلى نصر بن سيار يأمره بالقدوم عليه ، ويحمل ما قدر عليه من الهدايا والأموال ، وأن يقدم عليه بعماله أجمعين ، فلما أتى نصرا كتابه قسم على أهل خراسان الهدايا وعلى عماله ، فلم يدع بخراسان جارية ولا عبدا ولا برذونا فارها إلا أعده ، واشترى ألف مملوك وأعطاهم السلاح وحملهم على الخيل ، وأعد خمسمائة وصيفة ، وأمر بصياغة الأباريق من الذهب والفضة ، وتماثيل الظباء ، ورءوس السباع ، والأيايل وغير ذلك . فلما فرغ من ذلك كله كتب إليه الوليد يستحثه ، فسرح الهدايا حتى بلغ أوائلها بيهق ، وكتب إليه الوليد يأمره أن يبعث إليه ببرابط وطنابير وأباريق ذهب وفضة ، وأن يجمع كل صناجة بخراسان [وكل بازي وبرذون فاره ، ثم يسير بذلك كله [ ص: 243 ] بنفسه ووجوه خراسان ] فلم يزل يتوقف حتى وقعت الفتنة ، فتحول نصر إلى قصره بما حاز ، وكان قد أتاه آت وأخبره أن الوليد قد قتل ، ووقعت الفتنة بالشام .