فيه عشر مسائل :
الأولى : قوله تعالى : ( والبدن ) ، وقرأ ابن أبي إسحاق ( والبدن ) لغتان ، واحدتها بدنة . كما يقال : ثمرة وثمر وثمر ، وخشبة وخشب وخشب . وفي التنزيل ( وكان له ثمر ) ، وقرئ ( ثمر ) لغتان . وسميت بدنة لأنها تبدن ، والبدانة السمن . وقيل : إن هذا الاسم خاص بالإبل . وقيل : البدن جمع ( بدن ) بفتح الباء والدال . ويقال : بدن الرجل ( بضم الدال ) إذا سمن . وبدن ( بتشديدها ) إذا كبر وأسن . وفي الحديث إني قد بدنت أي كبرت وأسننت . وروي ( بدنت ) وليس له معنى ؛ لأنه خلاف صفته - صلى الله عليه وسلم - ، ومعناه كثرة اللحم . يقال : بدن الرجل يبدن بدنا وبدانة فهو بادن ؛ أي ضخم .
الثانية : اختلف العلماء في البدن هل تطلق على غير الإبل من البقر أم لا ؟ فقال ابن مسعود ، وعطاء ، : لا . وقال والشافعي مالك ، : نعم . وفائدة الخلاف فيمن وأبو حنيفة فعلى مذهب نذر بدنة فلم [ ص: 58 ] يجد البدنة أو لم يقدر عليها وقدر على البقرة ؛ فهل تجزيه أم لا ؟ الشافعي ، لا تجزيه . وعلى مذهب وعطاء مالك تجزيه . والصحيح ما ذهب إليه الشافعي ، لقوله - عليه السلام - في الحديث الصحيح في يوم الجمعة : وعطاء ؛ الحديث . فتفريقه - عليه السلام - بين البقرة والبدنة يدل على أن البقرة لا يقال عليها بدنة ؛ والله أعلم . وأيضا قوله تعالى : من راح في الساعة الأولى ، فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية ، فكأنما قرب بقرة فإذا وجبت جنوبها يدل على ذلك ؛ فإن الوصف خاص بالإبل . والبقر يضجع ويذبح كالغنم ؛ على ما يأتي . ودليلنا أن البدنة مأخوذة من البدانة وهو الضخامة ، والضخامة توجد فيهما جميعا . وأيضا فإن البقرة في التقرب إلى الله تعالى بإراقة الدم بمنزلة الإبل ؛ حتى كالإبل . وهذا حجة تجوز البقرة في الضحايا على سبعة حيث وافقه لأبي حنيفة على ذلك ، وليس ذلك في مذهبنا . وحكى الشافعي ابن شجرة أنه يقال في الغنم بدنة ، وهو قول شاذ . والبدن هي الإبل التي تهدى إلى الكعبة . والهدي عام في الإبل ، والبقر ، والغنم .
الثالثة : قوله تعالى : من شعائر الله نص في أنها بعض الشعائر . لكم فيها خير يريد به المنافع التي تقدم ذكرها . والصواب عمومه في خير الدنيا والآخرة .
الرابعة : قوله تعالى : فاذكروا اسم الله عليها صواف أي انحروها على اسم الله . و صواف أي قد صفت قوائمها . والإبل تنحر قياما معقولة . وأصل هذا الوصف في الخيل ؛ يقال : صفن الفرس فهو صافن إذا قام على ثلاثة قوائم وثنى سنبك الرابعة ؛ والسنبك طرف الحافر . والبعير إذا أرادوا نحره تعقل إحدى يديه فيقوم على ثلاث قوائم . وقرأ الحسن ، والأعرج ، ومجاهد ، وزيد بن أسلم ، ( صوافي ) أي خوالص لله - عز وجل - لا يشركون به في التسمية على نحرها أحدا . وعن وأبو موسى الأشعري الحسن أيضا ( صواف ) بكسر الفاء وتنوينها مخففة ، وهي بمعنى التي قبلها ، لكن حذفت الياء تخفيفا على غير قياس و ( صواف ) قراءة الجمهور بفتح الفاء وشدها ؛ من صف يصف . وواحد صواف صافة ، وواحد صوافي صافية . وابن مسعود ، وابن عباس ، وابن عمر ، ( صوافن ) بالنون جمع صافنة . ولا يكون واحدها صافنا ؛ لأن فاعلا لا يجمع على فواعل إلا في حروف مختصة لا يقاس [ ص: 59 ] عليها ؛ وهي فارس وفوارس ، وهالك وهوالك ، وخالف وخوالف . والصافنة هي التي قد رفعت إحدى يديها بالعقل لئلا تضطرب . ومنه قوله تعالى : وأبو جعفر محمد بن علي الصافنات الجياد . وقال عمرو بن كلثوم :
تركنا الخيل عاكفة عليه مقلدة أعنتها صفونا
ويروي :تظل جياده نوحا عليه مقلدة أعنتها صفونا
ألف الصفون فما يزال كأنه مما يقوم على الثلاث كسيرا
وكل كميت كجذع السحو ق يرنو القناء إذا ما صفن
[ ص: 60 ] السادسة : قال مالك : فإن ضعف إنسان أو تخوف أن تنفلت بدنته فلا أرى بأسا أن . والاختيار أن تنحر الإبل قائمة غير معقولة ؛ إلا أن يتعذر ذلك فتعقل ولا تعرقب إلا أن يخاف أن يضعف عنها ولا يقوى عليها . ونحرها باركة أفضل من أن تعرقب . وكان ينحرها معقولة ابن عمر يأخذ الحربة بيده في عنفوان أيده ، فينحرها في صدرها ، ويخرجها على سنامها ، فلما أسن كان ينحرها باركة لضعفه ، ويمسك معه الحربة رجل آخر ، وآخر بخطامها . وتضجع البقر والغنم .
السابعة : ولا يجوز بإجماع . وكذلك الأضحية لا تجوز قبل الفجر . فإذا طلع الفجر حل النحر النحر قبل الفجر من يوم النحر بمنى ، وليس عليهم انتظار نحر إمامهم ؛ بخلاف الأضحية في سائر البلاد . والمنحر منى لكل حاج ، ومكة لكل معتمر . ولو بمكة والمعتمر بمنى لم يحرج واحد منهما ، إن شاء الله تعالى . نحر الحاج
الثامنة : فإذا وجبت جنوبها يقال : وجبت الشمس إذا سقطت ، ووجب الحائط إذا سقط . قال قوله تعالى : قيس بن الخطيم :
أطاعت بنو عوف أميرا نهاهم عن السلم حتى كان أول واجب
ألم تكسف الشمس والبدر وال كواكب للجبل الواجب
فتركته جزر السباع ينشنه ما بين قلة رأسه والمعصم
وضربت قرني كبشها فتجدلا
أي سقط مقتولا إلى الجدالة ، وهي الأرض ؛ ومثله كثير . والوجوب للجنب بعد النحر علامة نزف الدم وخروج الروح منها ، وهو وقت الأكل ، أي وقت قرب الأكل ؛ لأنها إنما تبتدأ بالسلخ وقطع شيء من الذبيحة ثم يطبخ . ولا تسلخ حتى تبرد لأن ذلك من باب التعذيب ؛ ولهذا قال عمر - رضي الله عنه - : لا تعجلوا الأنفس أن تزهق .[ ص: 61 ] التاسعة : قوله تعالى : فكلوا منها أمر معناه الندب . وكل العلماء يستحب أن وفيه أجر وامتثال ؛ إذ كان أهل الجاهلية لا يأكلون من هديهم كما تقدم . وقال يأكل الإنسان من هديه أبو العباس بن شريح : الأكل والإطعام مستحبان ، وله الاقتصار على أيهما شاء . وقال : الأكل مستحب والإطعام واجب ، فإن أطعم جميعها أجزاه وإن أكل جميعها لم يجزه ، وهذا فيما كان تطوعا ؛ فأما الشافعي حسبما تقدم بيانه . واجبات الدماء فلا يجوز أن يأكل منها شيئا
العاشرة : وأطعموا القانع والمعتر قال قوله تعالى : مجاهد ، وإبراهيم ، : قوله وأطعموا أمر إباحة . و القانع السائل . يقال : قنع الرجل يقنع قنوعا إذا سأل ، بفتح النون في الماضي وكسرها في المستقبل ، يقنع قناعة فهو قنع ، إذا تعفف واستغنى ببلغته ولم يسأل ؛ مثل حمد يحمد ، قناعة وقنعا وقنعانا ؛ قاله الخليل . ومن الأول قول والطبري الشماخ :
لمال المرء يصلحه فيغني مفاقره أعف من القنوع
على مكثريهم رزق من يعتريهم وعند المقلين السماحة والبذل