فيه أربع مسائل : الأولى : قوله تعالى : وقال رجل مؤمن ذكر بعض المفسرين : أن اسم هذا الرجل حبيب . وقيل : شمعان بالشين المعجمة . قال السهيلي : وهو أصح ما قيل فيه . وفي تاريخ الطبري رحمه الله : اسمه خبرك . وقيل : حزقيل : ذكره الثعلبي عن ابن عباس وأكثر العلماء . : واسمه الزمخشري سمعان أو حبيب . وقيل : خربيل أو حزبيل . واختلف هل كان إسرائيليا أو قبطيا فقال الحسن وغيره : كان قبطيا . ويقال : إنه كان ابن عم فرعون ، قاله . قال : وهو الذي نجا مع السدي موسى عليه السلام ، ولهذا قال : من آل فرعون وهذا الرجل هو المراد بقوله تعالى : وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى الآية . وهذا قول مقاتل . وقال ابن عباس : لم يكن من آل فرعون مؤمن غيره وغير امرأة فرعون وغير المؤمن الذي أنذر موسى فقال : إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : الصديقون حبيب النجار مؤمن آل يس ومؤمن آل فرعون الذي قال أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله والثالث أبو بكر الصديق ، وهو أفضلهم وفي هذا [ ص: 274 ] تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - أي : لا تعجب من مشركي قومك . وكان هذا الرجل له وجاهة عند فرعون ، فلهذا لم يتعرض له بسوء . وقيل : كان هذا الرجل من بني إسرائيل يكتم إيمانه من آل فرعون ، عن أيضا . ففي الكلام على هذا تقديم وتأخير ، والتقدير : وقال رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل السدي فرعون . فمن جعل الرجل قبطيا ف " من " عنده متعلقة بمحذوف صفة الرجل ، التقدير : وقال رجل مؤمن منسوب من آل فرعون ، أي : من أهله وأقاربه . ومن جعله إسرائيليا ف " من " متعلقة ب " يكتم " في موضع المفعول الثاني ل " يكتم " . القشيري : ومن جعله إسرائيليا ففيه بعد ; لأنه يقال كتمه أمر كذا ولا يقال كتم منه . قال الله تعالى : ولا يكتمون الله حديثا وأيضا ما كان فرعون يحتمل من بني إسرائيل مثل هذا القول .
الثانية : قوله تعالى : أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله أي لأن يقول ومن أجل أن يقول ربي الله ، ف " أن " في موضع نصب بنزع الخافض . وقد جاءكم بالبينات يعني الآيات التسع " من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه " ولم يكن ذلك لشك منه في رسالته وصدقه ، ولكن تلطفا في الاستكفاف واستنزالا عن الأذى . ولو كان و " إن يكن " بالنون جاز ، ولكن حذفت النون لكثرة الاستعمال على قول ولأنها نون الإعراب على قول سيبويه ، أبي العباس . وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم أي إن لم يصبكم إلا بعض الذي يعدكم به هلكتم . ومذهب أبي عبيدة أن معنى " بعض الذي يعدكم " كل الذي يعدكم ، وأنشد قول لبيد :
تراك أمكنة إذا لم أرضها أو يرتبط بعض النفوس حمامها
( فبعض ) بمعنى : كل ; لأن البعض إذا أصابهم أصابهم الكل لا محالة لدخوله في الوعيد ، وهذا ترقيق الكلام في الوعظ . وذكر : أن البعض قد يستعمل في موضع الكل تلطفا في الخطاب وتوسعا في الكلام ، كما قال الشاعر : [ الماوردي عمر القطامي ] .
قد يدرك المتأني بعض حاجته وقد يكون مع المستعجل الزلل
وقيل أيضا : قال ذلك لأنه حذرهم أنواعا من العذاب ، كل نوع منها مهلك ، فكأنه حذرهم أن يصيبهم بعض تلك الأنواع . وقيل : وعدهم موسى بعذاب الدنيا أو بعذاب الآخرة إن [ ص: 275 ] كفروا ، فالمعنى يصبكم أحد العذابين . وقيل : أي : يصبكم هذا العذاب الذي يقوله في الدنيا وهو بعض الوعيد ، ثم يترادف العذاب في الآخرة أيضا . وقيل : وعدهم العذاب إن كفروا والثواب إن آمنوا ، فإذا كفروا يصيبهم بعض ما وعدوا .
إن الله لا يهدي من هو مسرف على نفسه . كذاب على ربه ، إشارة إلى موسى ويكون هذا من قول المؤمن . وقيل : مسرف في عناده كذاب في ادعائه ، إشارة إلى فرعون ، ويكون هذا من قول الله تعالى .
الثالثة : قوله تعالى : يكتم إيمانه قال : ظن بعضهم أن المكلف القاضي أبو بكر بن العربي باعتقاده ، وقد قال إذا كتم إيمانه ، ولم يتلفظ به بلسانه لا يكون مؤمنا مالك : إن أنه يلزمه ، كما يكون مؤمنا بقلبه وكافرا بقلبه . فجعل مدار الإيمان على القلب وأنه كذلك ، لكن ليس على الإطلاق ، وقد بيناه في أصول الفقه ، بما لبابه أن الرجل إذا نوى بقلبه طلاق زوجته كان كافرا وإن لم يتلفظ بلسانه ، وأما إذا نوى الإيمان بقلبه المكلف إذ نوى الكفر بقلبه ولا تمنعه التقية والخوف من أن يتلفظ بلسانه فيما بينه وبين الله تعالى ، إنما تمنعه التقية من أن يسمعه غيره ، وليس من شرط الإيمان أن يسمعه الغير في صحته من التكليف ، وإنما يشترط سماع الغير له ليكف عن نفسه وماله . فلا يكون مؤمنا بحال حتى يتلفظ بلسانه ،
الرابعة : روى البخاري ومسلم عن عروة بن الزبير قال : قلت : لعبد الله بن عمرو بن العاص الكعبة ، إذ أقبل عقبة بن أبي معيط ، فأخذ بمنكب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولوى ثوبه في عنقه فخنقه به خنقا شديدا ، فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقال : أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم لفظ أخبرني بأشد ما صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بفناء . خرجه البخاري في نوادر الأصول من حديث الترمذي الحكيم عن أبيه عن جعفر بن محمد علي - رضي الله عنه - قال : قريش بعد وفاة أبي طالب بثلاث فأرادوا قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأقبل هذا يجؤه وهذا يتلتله ، فاستغاث النبي - صلى الله عليه وسلم - يومئذ فلم يغثه أحد إلا أبو بكر وله ضفيرتان ، فأقبل يجأ ذا ويتلتل ذا ويقول بأعلى صوته : ويلكم : أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ، والله إنه لرسول الله ، فقطعت إحدى ضفيرتي أبي بكر يومئذ . فقال علي : والله ليوم أبي بكر خير من مؤمن آل فرعون ، إن ذلك [ ص: 276 ] رجل كتم إيمانه ، فأثنى الله عليه في كتابه ، وهذا أبو بكر أظهر إيمانه وبذل ماله ودمه لله عز وجل . اجتمعت
قلت : قول علي - رضي الله عنه - إن ذلك رجل كتم إيمانه ، يريد في أول أمره بخلاف الصديق فإنه أظهر إيمانه ولم يكتمه ، وإلا فالقرآن مصرح بأن مؤمن آل فرعون أظهر إيمانه لما أرادوا قتل موسى - عليه السلام - على ما يأتي بيانه . في نوادر الأصول أيضا عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالوا لها : أبي بكر فقال له : أدرك صاحبك . فخرج من عندنا وإن له غدائر ، فدخل المسجد وهو يقول : ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم ، فلهوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقبلوا على أبي بكر ، فرجع إلينا أبو بكر فجعل لا يمس شيئا من غدائره إلا جاء معه ، وهو يقول : تباركت يا ذا الجلال والإكرام ، إكرام إكرام . ما أشد شيء رأيت المشركين بلغوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت : كان المشركون قعودا في المسجد ، ويتذاكرون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يقول في آلهتهم ، فبينا هم كذلك إذ دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقاموا إليه بأجمعهم ، وكانوا إذا سألوه عن شيء صدقهم ، فقالوا : ألست تقول كذا في آلهتنا ؟ قال : ( بلى ) فتشبثوا فيه بأجمعهم فأتى الصريخ إلى