فيه أربع مسائل : الأولى : فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب لما ميز بين الفريقين أمر بجهاد الكفار . قال قوله تعالى : ابن عباس : الكفار المشركون عبدة الأوثان . وقيل : كل من خالف دين الإسلام من مشرك أو كتابي إذا لم يكن صاحب عهد ولا ذمة ، ذكره . واختاره الماوردي وقال : وهو الصحيح لعموم الآية فيه . ابن العربي فضرب الرقاب مصدر . قال الزجاج : أي : فاضربوا الرقاب ضربا . وخص الرقاب بالذكر لأن القتل أكثر ما يكون بها . وقيل : نصب على الإغراء . قال أبو عبيدة : هو كقولك يا نفس صبرا . وقيل : التقدير اقصدوا ضرب الرقاب . وقال : فضرب الرقاب ولم يقل فاقتلوهم ; لأن في العبارة بضرب الرقاب من الغلظة والشدة ما ليس في لفظ القتل ، لما فيه من تصوير القتل بأشنع صوره ، وهو حز العنق وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وعلوه وأوجه أعضائه .
الثانية : قوله تعالى : حتى إذا أثخنتموهم أي أكثرتم القتل . وقد مضى في ( الأنفال ) عند قوله تعالى : حتى يثخن في الأرض . فشدوا الوثاق أي إذا أسرتموهم . والوثاق اسم من الإيثاق ، وقد يكون مصدرا ، يقال : أوثقته إيثاقا ووثاقا . وأما الوثاق ( بالكسر ) فهو اسم الشيء الذي يوثق به كالرباط ، قاله القشيري . وقال الجوهري : وأوثقه في الوثاق أي : شده ، وقال تعالى : فشدوا الوثاق والوثاق ( بكسر الواو ) لغة فيه . وإنما أمر بشد الوثاق لئلا [ ص: 209 ] يفلتوا . فإما منا عليهم بالإطلاق من غير فدية وإما فداء ولم يذكر القتل هاهنا اكتفاء بما تقدم من القتل في صدر الكلام ، ومنا وفداء نصب بإضمار فعل . وقرئ ( فدى ) بالقصر مع فتح الفاء ، أي : فإما أن تمنوا عليهم منا ، وإما أن تفادوهم فداء .
روي عن بعضهم أنه قال : كنت واقفا على رأس الحجاج حين أتي بالأسرى من أصحاب وهم أربعة آلاف وثمانمائة فقتل منهم نحو من ثلاثة آلاف حتى قدم إليه رجل من عبد الرحمن بن الأشعث كندة فقال : يا حجاج ، لا جازاك الله عن السنة والكرم خيرا قال : ولم ذلك ؟ قال : لأن الله تعالى قال : فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء في حق الذين كفروا ، فوالله ما مننت ولا فديت ؟ وقد قال شاعركم فيما وصف به قومه من مكارم الأخلاق :
ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم إذا أثقل الأعناق حمل المغارم
فقال الحجاج : أف لهذه الجيف أما كان فيهم من يحسن مثل هذا الكلام ؟ خلوا سبيل من بقي . فخلي يومئذ عن بقية الأسرى ، وهم زهاء ألفين ، بقول ذلك الرجل .
الثالثة : واختلف العلماء في تأويل هذه الآية على خمسة أقوال :
الأول : أنها منسوخة ، وهي في أهل الأوثان ، لا يجوز أن يفادوا ولا يمن عليهم . والناسخ لها عندهم قوله تعالى : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وقوله : فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم وقوله : وقاتلوا المشركين كافة الآية ، قال قتادة والضحاك والسدي وابن جريج والعوفي عن ابن عباس ، وقاله كثير من الكوفيين . وقال عبد الكريم الجوزي : كتب إلى أبي بكر في أسير أسر ، فذكروا أنهم التمسوه بفداء كذا وكذا ، فقال اقتلوه ، لقتل رجل من المشركين أحب إلي من كذا وكذا .
الثاني : أنها في الكفار جميعا . وهي منسوخة على قول جماعة من العلماء وأهل النظر ، منهم قتادة ومجاهد . قالوا : ، ولا أن يفادى به فيرد إلى المشركين ، ولا يجوز أن يفادى عندهم إلا بالمرأة ; لأنها لا تقتل . والناسخ لها : إذا أسر المشرك لم يجز أن يمن عليه فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم إذ كانت براءة آخر ما نزلت بالتوقيف ، فوجب أن . وهو المشهور [ ص: 210 ] من مذهب يقتل كل مشرك إلا من قامت الدلالة على تركه من النساء والصبيان ومن يؤخذ منه الجزية أبي حنيفة ، خيفة أن يعودوا حربا للمسلمين . ذكر عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة فإما منا بعد وإما فداء قال : نسخها فشرد بهم من خلفهم وقال مجاهد : نسخها فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم . وهو قول الحكم .
الثالث : أنها ناسخة ، قال الضحاك وغيره روى الثوري عن جويبر عن الضحاك : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم قال : نسخها فإما منا بعد وإما فداء وقال ابن المبارك عن عن ابن جريج عطاء : فإما منا بعد وإما فداء فلا يقتل المشرك ولكن يمن عليه ويفادى ، كما قال الله عز وجل . وقال أشعث : كان الحسن يكره أن يقتل الأسير ، ويتلو فإما منا بعد وإما فداء وقال الحسن أيضا : في الآية تقديم وتأخير ، فكأنه قال : فضرب الرقاب حتى تضع الحرب أوزارها . ثم قال : حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق وزعم أنه ليس للإمام إذا حصل الأسير في يديه أن يقتله ، لكنه بالخيار في ثلاثة منازل : إما أن يمن ، أو يفادي ، أو يسترق .
الرابع : قول سعيد بن جبير : ، لقوله تعالى : لا يكون فداء ولا أسر إلا بعد الإثخان والقتل بالسيف ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض فإذا أسر بعد ذلك فللإمام أن يحكم بما رآه من قتل أو غيره .
الخامس : أن الآية محكمة ، ، رواه والإمام مخير في كل حال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وقاله كثير من العلماء منهم ابن عمر والحسن ، وهو مذهب وعطاء مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وأبي عبيد وغيرهم . وهو الاختيار ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين فعلوا كل ذلك ، عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث يوم بدر صبرا ، وفادى سائر أسارى بدر ، قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمامة بن أثال الحنفي وهو أسير في يده ، ومن على جارية ففدى بها أناسا من المسلمين سلمة بن الأكوع ، وأخذ من أهل مكة فأخذهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن عليهم ، وقد وهبط عليه - عليه السلام - قوم من هوازن . وهذا كله ثابت في الصحيح ، وقد مضى جميعه في ( الأنفال ) وغيرها . من على سبي
قال النحاس : وهذا على أن الآيتين محكمتان معمول بهما ، وهو قول حسن ; لأن النسخ إنما يكون لشيء قاطع ، فإذا أمكن العمل بالآيتين فلا معنى للقول بالنسخ ، إذا كان يجوز أن يقع التعبد إذا لقينا الذين كفروا قتلناهم ، فإذا كان الأسر جاز القتل والاسترقاق والمفاداة والمن ، على ما فيه الصلاح للمسلمين . وهذا القول يروى عن أهل المدينة والشافعي وأبي عبيد ، وحكاه مذهبا عن الطحاوي أبي حنيفة ، والمشهور عنه ما قدمناه ، وبالله - عز وجل - التوفيق .