فيه أربع مسائل : الأولى : قوله تعالى : فهل عسيتم إن توليتم اختلف في معنى إن توليتم فقيل : هو من الولاية . قال قوله تعالى : أبو العالية : المعنى فهل عسيتم إن توليتم الحكم فجعلتم حكاما أن تفسدوا في الأرض بأخذ الرشا . وقال الكلبي : أي : فهل عسيتم إن توليتم أمر الأمة أن تفسدوا في الأرض بالظلم . وقال : المعنى فهل عسيتم إن توليتم عن الطاعة أن تفسدوا في الأرض بالمعاصي وقطع الأرحام . وقال ابن جريج كعب : المعنى فهل عسيتم إن توليتم الأمر أن يقتل بعضكم بعضا . وقيل : من الإعراض عن الشيء . قال قتادة : أي : فهل عسيتم إن توليتم عن كتاب الله أن تفسدوا في الأرض بسفك الدماء الحرام ، وتقطعوا أرحامكم . وقيل : فهل عسيتم أي : فلعلكم إن أعرضتم عن القرآن وفارقتم أحكامه أن تفسدوا في الأرض فتعودوا إلى جاهليتكم . وقرئ بفتح السين وكسرها . وقد مضى في ( البقرة ) القول فيه مستوفى . وقال بكر المزني : إنها نزلت في الحرورية والخوارج ، وفيه بعد . والأظهر أنه إنما عني بها المنافقون . وقال ابن حيان : قريش . ونحوه قال المسيب بن شريك والفراء ، قالا : نزلت في بني أمية وبني هاشم ، ودليل هذا التأويل ما روى عبد الله بن مغفل قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : [ فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض - ثم قال - هم هذا الحي من قريش أخذ الله عليهم إن ولوا الناس ألا يفسدوا في الأرض ولا يقطعوا أرحامهم ] . وقرأ علي بن أبي طالب ( إن توليتم أن تفسدوا في الأرض ) بضم التاء والواو وكسر اللام . وهي قراءة ابن أبي إسحاق ، ورواها رويس عن يعقوب . يقول : إن وليتكم ولاة جائرة خرجتم معهم في الفتنة وحاربتموهم . وتقطعوا أرحامكم بالبغي والظلم والقتل . وقرأ يعقوب وسلام وعيسى وأبو حاتم ( وتقطعوا ) بفتح التاء وتخفيف القاف ، من القطع ، اعتبارا بقوله تعالى : ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل . وروى هذه القراءة هارون عن أبى عمرو .
وقرأ الحسن ( وتقطعوا ) [ ص: 225 ] مفتوحة الحروف مشددة ، اعتبارا بقوله تعالى : وتقطعوا أمرهم بينهم . الباقون وتقطعوا بضم التاء مشددة الطاء ، من التقطيع على التكثير ، وهو اختيار أبي عبيد . وتقدم ذكر عسيتم في ( البقرة ) . وقال الزجاج في قراءة نافع : لو جاز هذا لجاز ( عسي ) بالكسر . قال الجوهري : ويقال عسيت أن أفعل ذلك ، وعسيت بالكسر . وقرئ ( فهل عسيتم ) بالكسر .
قلت : ويدل قوله هذا على أنهما لغتان . وقد مضى القول فيه في ( البقرة ) مستوفى . أولئك الذين لعنهم الله أي طردهم وأبعدهم من رحمته . فأصمهم عن الحق . وأعمى أبصارهم أي قلوبهم عن الخير . فأتبع الأخبار بأن من فعل ذلك حقت عليه لعنته ، وسلبه الانتفاع بسمعه وبصره حتى لا ينقاد للحق وإن سمعه ، فجعله كالبهيمة التي لا تعقل . وقال : فهل عسيتم ثم قال : أولئك الذين لعنهم الله فرجع من الخطاب إلى الغيبة على عادة العرب في ذلك .
الثانية : قوله تعالى : أفلا يتدبرون القرآن أي يتفهمونه فيعلمون ما أعد الله للذين لم يتولوا عن الإسلام . أم على قلوب أقفالها أي بل على قلوب أقفال أقفلها الله - عز وجل - عليهم فهم لا يعقلون . وهذا يرد على القدرية والإمامية مذهبهم . وفي حديث مرفوع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : [ إن عليها أقفالا كأقفال الحديد حتى يكون الله يفتحها ] . وأصل القفل اليبس والصلابة . ويقال لما يبس من الشجر : القفل . والقفيل مثله . والقفيل أيضا نبت . والقفيل : الصوت . قال الراجز :
لما أتاك يابسا قرشبا قمت إليه بالقفيل ضربا
كيف قريت شيخك الأزبا
القرشب ( بكسر القاف ) المسن ، عن الأصمعي . وأقفله الصوم أي : أيبسه ، قاله القشيري والجوهري . فالأقفال هاهنا إشارة إلى ارتجاج القلب وخلوه عن الإيمان . أي : لا يدخل قلوبهم الإيمان ولا يخرج منها الكفر ; لأن الله تعالى طبع على قلوبهم وقال : على قلوب لأنه لو قال على قلوبهم لم يدخل قلب غيرهم في هذه الجملة . والمراد أم على قلوب هؤلاء وقلوب من كانوا بهذه الصفة أقفالها .
[ ص: 226 ] الثالثة : في صحيح مسلم عن قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أبي هريرة فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم . أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم . أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها . وظاهر الآية أنها خطاب لجميع الكفار . إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت هذا مقام العائذ من القطيعة قال نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك قالت بلى قال فذاك لك - ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - اقرءوا إن شئتم
وقال قتادة وغيره : معنى الآية فلعلكم ، أو يخاف عليكم ، إن أعرضتم عن الإيمان أن تعودوا إلى الفساد في الأرض لسفك الدماء . قال قتادة : كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله تعالى ألم يسفكوا الدماء الحرام ويقطعوا الأرحام وعصوا الرحمن . فالرحم على هذا رحم دين الإسلام والإيمان ، التي قد سماها الله إخوة بقوله تعالى : إنما المؤمنون إخوة وعلى قول الفراء أن الآية نزلت في بني هاشم وبني أمية ، والمراد من أضمر منهم نفاقا ، فأشار بقطع الرحم إلى ما كان بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - من القرابة بتكذيبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - . وذلك يوجب القتال .
وبالجملة : عامة وخاصة ، فالعامة رحم الدين ، ويوجب مواصلتها بملازمة الإيمان والمحبة لأهله ونصرتهم ، والنصيحة وترك مضارتهم والعدل بينهم ، والنصفة في معاملتهم والقيام بحقوقهم الواجبة ، كتمريض المرضى وحقوق الموتى من غسلهم والصلاة عليهم ودفنهم ، وغير ذلك من الحقوق المترتبة لهم . وأما الرحم الخاصة وهي رحم القرابة من طرفي الرجل أبيه وأمه ، فتجب لهم الحقوق الخاصة وزيادة ، كالنفقة وتفقد أحوالهم ، وترك . التغافل عن تعاهدهم في أوقات ضروراتهم ، وتتأكد في حقهم حقوق الرحم العامة ، حتى إذا تزاحمت الحقوق بدئ بالأقرب فالأقرب . وقال بعض أهل العلم : إن فالرحم على وجهين هي كل رحم محرم وعليه فلا تجب في بني الأعمام وبني الأخوال . الرحم التي تجب صلتها
وقيل : بل هذا في كل رحم ممن ينطلق عليه ذلك من ذوي الأرحام في المواريث ، محرما كان أو غير محرم . فيخرج من هذا أن رحم الأم التي لا يتوارث بها لا تجب صلتهم ولا يحرم قطعهم . وهذا ليس بصحيح ، والصواب أن كل ما يشمله ويعمه الرحم تجب صلته على كل حال ، قربة ودينية ، على ما ذكرناه أولا والله أعلم .
قد روى في مسنده قال : حدثنا أبو داود الطيالسي شعبة قال أخبرني محمد بن عبد الجبار قال سمعت يحدث عن محمد بن كعب القرظي قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : أبي هريرة . وفي صحيح إن للرحم لسانا يوم القيامة تحت [ ص: 227 ] العرش يقول يا رب قطعت يا رب ظلمت يا رب أسيء إلي فيجيبها ربها ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك مسلم عن جبير بن مطعم عن قال ابن أبي عمر سفيان : يعني قاطع رحم . ورواه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يدخل الجنة قاطع . قال . البخاري
الرابعة : قوله - عليه السلام - : . . . خلق بمعنى اخترع وأصله التقدير ، كما تقدم . والخلق هنا بمعنى المخلوق . ومنه قوله تعالى : إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم هذا خلق الله أي : مخلوقه . ومعنى فرغ منهم كمل خلقهم . لا أنه اشتغل بهم ثم فرغ من شغله بهم ، إذ ليس فعله بمباشرة ولا مناولة ، ولا خلقه بآلة ولا محاولة ، تعالى عن ذلك . وقوله : قامت الرحم فقالت يحمل على أحد وجهين : أحدهما : أن يكون الله تعالى أقام من يتكلم عن الرحم من الملائكة فيقول ذلك ، وكأنه وكل بهذه العبادة من يناضل عنها ويكتب ثواب من وصلها ووزر من قطعها ، كما وكل الله بسائر الأعمال كراما كاتبين ، وبمشاهدة أوقات الصلوات ملائكة متعاقبين . وثانيهما : أن ذلك على جهة التقدير والتمثيل المفهم للإعياء وشدة الاعتناء . فكأنه قال : لو كانت الرحم ممن يعقل ويتكلم لقالت هذا الكلام ، كما قال تعالى : لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله ثم قال وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون . وقوله : فقالت مقصود هذا الكلام الإخبار بتأكد أمر صلة الرحم ، وأن الله سبحانه قد نزلها بمنزلة من استجار به فأجاره ، وأدخله في ذمته وخفارته . وإذا كان كذلك فجار الله غير مخذول وعهده غير منقوض ، ولذلك قال مخاطبا للرحم : ( هذا مقام العائذ بك من القطيعة ) . وهذا كما قال - عليه السلام - : أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك . ومن صلى الصبح فهو في ذمة الله تعالى فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء فإنه من يطلبه بذمته بشيء يدركه ثم يكبه في النار على وجهه