مكية في قول ابن مسعود والضحاك ومقاتل . ومدنية في قول الحسن وعكرمة . وهي ست وثلاثون آية
قال مقاتل : وهي بالمدينة . وقال أول سورة نزلت ابن عباس وقتادة : مدنية إلا ثماني آيات من قوله : إن الذين أجرموا إلى آخرها مكي . وقال الكلبي : نزلت بين وجابر بن زيد مكة والمدينة .
بسم الله الرحمن الرحيم
ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون
فيه أربع مسائل :
الأولى : روى عن النسائي ابن عباس قال : لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا ، فأنزل الله تعالى : ويل للمطففين فأحسنوا الكيل بعد ذلك . قال الفراء : فهم من أوفى الناس كيلا إلى يومهم هذا . وعن ابن عباس أيضا قال : هي : أول سورة نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساعة نزل المدينة ، وكان هذا فيهم ; كانوا إذا اشتروا استوفوا بكيل راجح ، فإذا باعوا بخسوا المكيال والميزان ، فلما نزلت هذه السورة انتهوا ، فهم أوفى الناس كيلا إلى يومهم هذا . وقال قوم : نزلت في رجل يعرف بأبي جهينة ، واسمه عمرو ; كان له صاعان يأخذ [ ص: 215 ] بأحدهما ، ويعطي بالآخر ; قاله - رضي الله عنه - . أبو هريرة
الثانية : قوله تعالى : ويل أي شدة عذاب في الآخرة . وقال ابن عباس : إنه واد في جهنم يسيل فيه صديد أهل النار ، فهو ويل للمطففين أي الذين ينقصون مكاييلهم وموازينهم . وروي عن قوله تعالى : ابن عمر قال : المطفف : الرجل يستأجر المكيال وهو يعلم أنه يحيف في كيله فوزره عليه . وقال آخرون : التطفيف في الكيل والوزن والوضوء والصلاة ، والحديث في الموطأ قال مالك : ويقال لكل شيء وفاء وتطفيف . وروي عن قال : الصلاة بمكيال ، فمن أوفى له ومن طفف فقد علمتم ما قال الله - عز وجل - في ذلك : سالم بن أبي الجعد ويل للمطففين .
الثالثة : قال أهل اللغة : المطفف مأخوذ من الطفيف ، وهو القليل ، والمطفف هو المقل حق صاحبه بنقصانه عن الحق ، في كيل أو وزن . وقال الزجاج : إنما قيل للفاعل من هذا مطفف ; لأنه لا يكاد يسرق من المكيال والميزان إلا الشيء الطفيف الخفيف ، وإنما أخذ من طف الشيء وهو جانبه . وطفاف المكوك وطفافه بالكسر والفتح : ما ملأ أصباره ، وكذلك طف المكوك وطففه ; وفي الحديث : . وهو أن يقرب أن يمتلئ فلا يفعل ، والمعنى بعضكم من بعض قريب ، فليس لأحد على أحد فضل إلا بالتقوى . والطفاف والطفافة بالضم : ما فوق المكيال . وإناء طفاف : إذا بلغ الملء طفافه ; تقول منه : أطففت . والتطفيف : نقص المكيال وهو ألا تملأه إلى أصباره ، أي جوانبه ; يقال : أدهقت الكأس إلى أصبارها أي إلى رأسها . وقول كلكم بنو آدم طف الصاع لم تملؤوه ابن عمر حين ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - سبق الخيل : كنت فارسا يومئذ فسبقت الناس حتى طفف بي الفرس مسجد بني زريق ، حتى كاد يساوي المسجد . يعني : وثب بي .
الرابعة : المطفف : هو الذي يخسر في الكيل والوزن ، ولا يوفي حسب ما بيناه ; وروى ابن القاسم عن مالك : أنه قرأ ويل للمطففين فقال : لا تطفف ولا تخلب ، ولكن أرسل وصب عليه صبا ، حتى إذا استوفى أرسل يدك ولا تمسك . وقال : عبد الملك بن الماجشون نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مسح الطفاف ، وقال : إن البركة في رأسه . قال : وبلغني أن كيل فرعون كان مسحا بالحديد .
الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون قال قوله تعالى : الفراء : أي من الناس [ ص: 216 ] يقال : اكتلت منك : أي استوفيت منك ، ويقال : اكتلت ما عليك : أي أخذت ما عليك . وقال الزجاج : أي إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل ; والمعنى : الذين إذا استوفوا أخذوا الزيادة ، وإذا أوفوا أو وزنوا لغيرهم نقصوا ، فلا يرضون للناس ما يرضون لأنفسهم . الطبري : ( على ) بمعنى ( عند ) .
وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون فيه مسألتان : قوله تعالى :
الأولى : قوله تعالى : وإذا كالوهم أو وزنوهم : أي كالوا لهم أو وزنوا لهم فحذفت اللام ، فتعدى الفعل فنصب ; ومثله نصحتك ونصحت لك ، وأمرتك به وأمرتكه ; قاله الأخفش والفراء . قال الفراء : وسمعت أعرابية تقول إذا صدر الناس أتينا التاجر فيكيلنا المد والمدين إلى الموسم المقبل . وهو من كلام أهل الحجاز ومن جاورهم من قيس . قال الزجاج : لا يجوز الوقف على ( كالوا ) و ( وزنوا ) حتى تصل به ( هم ) قال : ومن الناس من يجعلها توكيدا ، ويجيز الوقف على ( كالوا ) و ( وزنوا ) والأول الاختيار ; لأنها حرف واحد . وهو قول الكسائي . قال أبو عبيد : وكان عيسى بن عمر يجعلها حرفين ، ويقف على ( كالوا ) و ( وزنوا ) ويبتدئ ( هم يجسرون ) قال : وأحسب قراءة حمزة كذلك أيضا .
قال أبو عبيد : والاختيار أن يكونا كلمة واحدة من جهتين : إحداهما : الخط ; وذلك أنهم كتبوهما بغير ألف ، ولو كانتا مقطوعتين لكانتا ( كالوا ) و ( وزنوا ) بالألف ، والأخرى : أنه يقال : كلتك ووزنتك بمعنى كلت لك ، ووزنت لك ، وهو كلام عربي ; كما يقال : صدتك وصدت لك ، وكسبتك وكسبت لك ، وكذلك شكرتك ونصحتك ونحو ذلك . قول : يخسرون : أي ينقصون ; والعرب تقول : أخسرت الميزان وخسرته . و ( هم ) في موضع نصب على قراءة العامة راجع إلى الناس ، تقديره ( وإذا كالوا ) الناس ( أو وزنوهم يخسرون ) وفيه وجهان : أحدهما أن يراد كالوا لهم أو وزنوا لهم ، فحذف الجار ، وأوصل الفعل ، كما قال :
ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا ولقد نهيتك عن بنات الأوبر
أراد : جنيت لك ، والوجه الآخر : أن يكون على حذف المضاف ، وإقامة المضاف إليه مقامه ، والمضاف هو المكيل والموزون .وعن ابن عباس - رضي الله عنه - : إنكم معاشر الأعاجم وليتم أمرين بهما هلك من كان قبلكم : المكيال والميزان . وخص الأعاجم ، لأنهم كانوا يجمعون الكيل والوزن جميعا ، وكانا مفرقين في الحرمين ; كان أهل مكة يزنون ، وأهل المدينة يكيلون . وعلى القراءة الثانية ( هم ) في موضع رفع بالابتداء ; أي وإذا كالوا للناس أو [ ص: 217 ] وزنوا لهم فهم يخسرون . ولا يصح ; لأنه تكون الأولى ملغاة ، ليس لها خبر ، وإنما كانت تستقيم لو كان بعدها : وإذا كالوا هم ينقصون ، أو وزنوا هم يخسرون .
الثانية : قال ابن عباس قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : خرجه خمس بخمس : ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم ، ولا حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر ، وما ظهرت الفاحشة فيهم إلا ظهر فيهم الطاعون ، وما طففوا الكيل إلا منعوا النبات ، وأخذوا بالسنين ، ولا منعوا الزكاة إلا حبس الله عنهم المطر بمعناه ، أبو بكر البزار أيضا من حديث ومالك بن أنس ابن عمر . وقد ذكرناه في كتاب التذكرة . وقال مالك بن دينار : دخلت على جار لي قد نزل به الموت ، فجعل يقول : جبلين من نار ، جبلين من نار فقلت : ما تقول ؟ أتهجر ؟ قال : يا أبا يحيى ، كان لي مكيالان ، أكيل بأحدهما ، وأكتال بالآخر فقمت فجعلت أضرب أحدهما بالآخر حتى كسرتهما فقال يا أبا يحيى كلما ضربت أحدهما بالآخر ازداد عظما ، فمات من وجعه .
وقال عكرمة : أشهد على كل كيال أو وزان أنه في النار . قيل له : فإن ابنك كيال أو وزان . فقال : أشهد أنه في النار . قال الأصمعي : وسمعت أعرابية تقول : لا تلتمس المروءة ممن مروءته في رؤوس المكاييل ، ولا ألسنة الموازين . وروي ذلك عن علي - رضي الله عنه - ، وقال عبد خير : مر علي - رضي الله عنه - على رجل وهو يزن الزعفران وقد أرجح ، فأكفأ الميزان ، ثم قال : أقم الوزن بالقسط ; ثم أرجح بعد ذلك ما شئت . كأنه أمره بالتسوية أولا ليعتادها ، ويفضل الواجب من النفل .
وقال نافع : كان ابن عمر يمر بالبائع فيقول : اتق الله وأوف الكيل والوزن بالقسط ، فإن المطففين يوم القيامة يوقفون حتى إن العرق ليلجمهم إلى أنصاف آذانهم . وقد روي أن قدم أبا هريرة المدينة وقد خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة ، فقال : فوجدناه في صلاة الصبح أبو هريرة قال فقرأ في الركعة الأولى ( كهيعص ) وقرأ في الركعة الثانية ويل للمطففين : فأقول في صلاتي : ويل لأبي فلان ، كان له مكيالان إذا اكتال اكتال بالوافي ، وإذا كال كال بالناقص . أبو هريرة