الخامسة : الصحيح من هذه الأقوال قول مالك ;  لأن القرآن لا يثبت بأخبار الآحاد وإنما طريقه التواتر القطعي الذي لا يختلف فيه . قال  ابن العربي    : ويكفيك أنها ليست من القرآن اختلاف الناس فيها ، والقرآن لا يختلف فيه . والأخبار الصحاح التي لا مطعن فيها دالة على أن البسملة ليست بآية من الفاتحة ولا غيرها  إلا في النمل وحدها . روى مسلم  عن  أبي هريرة  قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قال [ تعالى ] : " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد : ( الحمد لله رب العالمين ) قال الله تعالى حمدني عبدي وإذا قال : ( الرحمن الرحيم ) قال الله تعالى : أثنى علي عبدي وإذا قال : ( مالك يوم الدين ) قال مجدني عبدي - وقال مرة : فوض إلى عبدي - فإذا قال : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) قال : هذا بيني وبين عبدي ، ولعبدي ما سأل ، فإذا قال : ( اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) قال : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل   . فقوله سبحانه : " قسمت الصلاة " يريد الفاتحة ، وسماها صلاة لأن الصلاة لا تصح إلا بها ; فجعل الثلاث الآيات الأول لنفسه ، واختص بها تبارك اسمه ، ولم يختلف المسلمون فيها . ثم الآية الرابعة جعلها بينه وبين عبده ; لأنها تضمنت تذلل العبد وطلب الاستعانة منه ، وذلك يتضمن تعظيم الله تعالى ، ثم ثلاث آيات تتمة سبع آيات . ومما يدل على أنها ثلاث قوله : " هؤلاء   [ ص: 91 ] لعبدي " أخرجه مالك ;  ولم يقل : هاتان ; فهذا يدل على أن ( أنعمت عليهم ) آية . قال ابن بكير  قال مالك    : " أنعمت عليهم " آية ، ثم الآية السابعة إلى آخرها . فثبت بهذه القسمة التي قسمها الله تعالى وبقوله عليه السلام لأبي    : كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة قال : فقرأت : الحمد لله رب العالمين حتى أتيت على آخرها   - أن البسملة ليست بآية منها ، وكذا عد أهل المدينة   وأهل الشام   وأهل البصرة ;   وأكثر القراء عدوا : ( أنعمت عليهم ) آية ، وكذا روى قتادة  عن  أبي نضرة  عن  أبي هريرة  قال : الآية السادسة : ( أنعمت عليهم ) . وأما أهل الكوفة   من القراء والفقهاء فإنهم عدوا فيها ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ولم يعدوا ( أنعمت عليهم ) . 
فإن قيل : فإنها ثبتت في المصحف وهي مكتوبة بخطه ونقلت نقله ، كما نقلت في النمل ، وذلك متواتر عنهم . قلنا : ما ذكرتموه صحيح ; ولكن لكونها قرآنا ، أو لكونها فاصلة بين السور - كما روي عن الصحابة : كنا لا نعرف انقضاء السورة حتى تنزل " بسم الله الرحمن الرحيم " أخرجه أبو داود    - أو تبركا بها ، كما قد اتفقت الأمة على كتبها في أوائل الكتب والرسائل ؟ كل ذلك محتمل . وقد قال الجريري    : سئل الحسن  عن ( بسم الله الرحمن الرحيم ) قال : في صدور الرسائل . وقال الحسن  أيضا : لم تنزل ( بسم الله الرحمن الرحيم ) في شيء من القرآن إلا في " طس " إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم . والفيصل أن القرآن لا يثبت بالنظر والاستدلال ، وإنما يثبت بالنقل المتواتر القطعي الاضطراري . ثم قد اضطرب قول  الشافعي  فيها في أول كل سورة فدل على أنها ليست بآية من كل سورة ; والحمد لله . 
فإن قيل : فقد روى جماعة قرآنيتها ، وقد تولى  الدارقطني  جمع ذلك في جزء صححه . قلنا : لسنا ننكر الرواية بذلك وقد أشرنا إليها ، ولنا أخبار ثابتة في مقابلتها ، رواها الأئمة الثقات والفقهاء الأثبات . روت عائشة  في صحيح مسلم  قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير ، والقراءة ب " الحمد لله رب العالمين " ، الحديث . وسيأتي بكماله . وروى مسلم  أيضا عن أنس بن مالك  قال : صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر  وعمر  وعثمان ،  فكانوا يستفتحون   [ ص: 92 ] بالحمد لله رب العالمين ; لا يذكرون " بسم الله الرحمن الرحيم " في أول قراءة ولا في آخرها   . 
ثم إن مذهبنا يترجح في ذلك بوجه عظيم ، وهو المعقول ; وذلك أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة  انقضت عليه العصور ، ومرت عليه الأزمنة والدهور ، من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زمان مالك ،  ولم يقرأ أحد فيه قط " بسم الله الرحمن الرحيم " ؛ اتباعا للسنة ، وهذا يرد أحاديثكم . 
بيد أن أصحابنا استحبوا قراءتها في النفل ; وعليه تحمل الآثار الواردة في قراءتها أو على السعة في ذلك . قال مالك    : ولا بأس أن يقرأ بها في النافلة ومن يعرض القرآن عرضا . 
وجملة مذهب مالك  وأصحابه : أنها ليست عندهم آية من فاتحة الكتاب ولا غيرها ، ولا يقرأ بها المصلي في المكتوبة ولا في غيرها سرا ولا جهرا ; ويجوز أن يقرأها في النوافل . هذا هو المشهور من مذهبه عند أصحابه . وعنه رواية أخرى أنها تقرأ أول السورة في النوافل ، ولا تقرأ أول أم القرآن . وروى عنه ابن نافع  ابتداء القراءة بها في الصلاة الفرض والنفل ولا تترك بحال . ومن أهل المدينة   من يقول : إنه لابد فيها من ( بسم الله الرحمن الرحيم ) منهم ابن عمر ،   وابن شهاب ;  وبه قال  الشافعي  وأحمد وإسحاق   وأبو ثور  وأبو عبيد    . وهذا يدل على أن المسألة مسألة اجتهادية لا قطعية ، كما ظنه بعض الجهال من المتفقهة الذي يلزم على قوله تكفير المسلمين ; وليس كما ظن لوجود الاختلاف المذكور ; والحمد لله . 
وقد ذهب جمع من العلماء إلى الإسرار بها مع الفاتحة ; منهم : أبو حنيفة   والثوري ;  وروى ذلك عن عمر  وعلي   وابن مسعود  وعمار  وابن الزبير ;  وهو قول الحكم  وحماد ;  وبه قال  أحمد بن حنبل  وأبو عبيد ;  وروي عن الأوزاعي  مثل ذلك ; حكاه أبو عمر بن عبد البر  في ( الاستذكار ) . واحتجوا من الأثر في ذلك بما رواه منصور بن زاذان  عن أنس بن مالك  قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يسمعنا قراءة ( بسم الله الرحمن الرحيم )   . وما رواه عمار بن زريق  عن الأعمش  عن شعبة  عن ثابت  عن أنس  قال : صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر  وعمر  وعثمان  فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم   . 
 [ ص: 93 ] قلت : هذا قول حسن ، وعليه تتفق الآثار عن أنس  ولا تتضاد ويخرج به من الخلاف في قراءة البسملة    . وقد روي عن سعيد بن جبير  قال : كان المشركون يحضرون بالمسجد ; فإذا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) قالوا : هذا محمد  يذكر رحمان اليمامة    - يعنون مسيلمة    - فأمر أن يخافت ب " بسم الله الرحمن الرحيم " ، ونزل : ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها . قال الترمذي الحكيم أبو عبد الله    : فبقي ذلك إلى يومنا هذا على ذلك الرسم وإن زالت العلة ، كما بقي الرمل في الطواف وإن زالت العلة ، وبقيت المخافتة في صلاة النهار وإن زالت العلة . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					