[ ص: 292 ] فيه إحدى عشرة مسألة :
الأولى : قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا أنفقوا هذا خطاب لجميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم . واختلف العلماء في المعنى المراد بالإنفاق هنا ، فقال علي بن أبي طالب وعبيدة السلماني : هي الزكاة المفروضة ، نهى الناس عن إنفاق الرديء فيها بدل الجيد . قال وابن سيرين ابن عطية : والظاهر من قول البراء بن عازب والحسن وقتادة أن الآية في التطوع ، ندبوا إلى ألا يتطوعوا إلا بمختار جيد . والآية تعم الوجهين ، لكن صاحب الزكاة تعلق بأنها مأمور بها والأمر على الوجوب ، وبأنه نهى عن الرديء وذلك مخصوص بالفرض ، وأما التطوع فكما للمرء أن يتطوع بالقليل فكذلك له أن يتطوع بنازل في القدر ، ودرهم خير من تمرة . تمسك أصحاب الندب بأن لفظة افعل صالح للندب صلاحيته للفرض ، والرديء منهي عنه في النفل كما هو منهي عنه في الفرض ، والله أحق من اختير له . وروى البراء فنزلت الآية ، خرجه أن رجلا علق قنو حشف ، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : بئسما علق الترمذي وسيأتي بكماله . والأمر على هذا القول على الندب ، ندبوا إلى ألا يتطوعوا إلا بجيد مختار . وجمهور المتأولين قالوا : معنى ( من طيبات ) من جيد ومختار ( ما كسبتم ) . وقال ابن زيد : من حلال " ما كسبتم " .
الثانية : الكسب يكون بتعب بدن وهي الإجارة وسيأتي حكمها ، أو مقاولة في تجارة وهو البيع وسيأتي بيانه . والميراث داخل في هذا ؛ لأن غير الوارث قد كسبه . قال سهل بن عبد الله : وسئل ابن المبارك عن . قال : إن كان معه قوام من العيش بمقدار ما يكف نفسه عن الناس فترك هذا أفضل ؛ لأنه إذا طلب حلالا وأنفق في حلال سئل عنه وعن كسبه وعن إنفاقه ، وترك ذلك زهد فإن الرجل يريد أن يكتسب وينوي باكتسابه أن يصل به الرحم وأن يجاهد ويعمل الخيرات ويدخل في آفات الكسب لهذا الشأن . الزهد في ترك الحلال
الثالثة : قال ابن خويزمنداد : ولهذه الآية جاز ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : للوالد أن يأكل من كسب ولده . أولادكم من طيب أكسابكم فكلوا من أموال أولادكم هنيئا
الرابعة : قوله تعالى : ( ومما أخرجنا لكم من الأرض ) يعني النبات والمعادن والركاز ، وهذه أبواب ثلاثة تضمنتها هذه الآية . أما النبات فروى عن الدارقطني عائشة رضي الله عنها [ ص: 293 ] قالت : . والوسق ستون صاعا ، فذلك ثلاثمائة صاع من الحنطة والشعير والتمر والزبيب . جرت السنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ليس فيما دون خمسة أوسق زكاة ) . وقد احتج قوم وليس فيما أنبتت الأرض من الخضر زكاة بقول الله تعالى : لأبي حنيفة ومما أخرجنا لكم من الأرض وإن ذلك عموم في قليل ما تخرجه الأرض وكثيره وفي سائر الأصناف ، ورأوا ظاهر الأمر الوجوب . وسيأتي بيان هذا في ( الأنعام ) مستوفى . وأما المعدن فروى الأئمة عن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : أبي هريرة . قال علماؤنا : لما قال صلى الله عليه وسلم : ( العجماء جرحها جبار والبئر جبار والمعدن جبار وفي الركاز الخمس ) دل على أن الحكم في المعادن غير الحكم في الركاز ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد فصل بين المعادن والركاز بالواو الفاصلة ، ولو كان الحكم فيهما سواء لقال والمعدن جبار وفيه الخمس ، فلما قال ( وفي الركاز الخمس ) علم أن وفي الركاز الخمس فيما يؤخذ منه ، والله أعلم . حكم الركاز غير حكم المعدن
والركاز أصله في اللغة ما ارتكز بالأرض من الذهب والفضة والجواهر ، وهو عند سائر الفقهاء كذلك ؛ لأنهم يقولون في ، فيها الخمس ؛ لأنها ركاز . وقد روي عن الندرة التي توجد في المعدن مرتكزة بالأرض لا تنال بعمل ولا بسعي ولا نصب مالك أن الندرة في المعدن حكمها حكم ما يتكلف فيه العمل مما يستخرج من المعدن في الركاز ، والأول تحصيل مذهبه وعليه فتوى جمهور الفقهاء . وروى عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن جده [ ص: 294 ] عن قال : أبي هريرة سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الركاز قال : الذهب الذي خلق الله في الأرض يوم خلق السماوات والأرض . عبد الله بن سعيد هذا متروك الحديث ، ذكر ذلك ابن أبي حاتم . وقد روي من طريق أخرى عن ولا يصح ، ذكره أبي هريرة . ودفن الجاهلية لأموالهم عند جماعة العلماء ركاز أيضا لا يختلفون فيه إذا كان دفنه قبل الإسلام من الأموال العادية ، وأما ما كان من ضرب الإسلام فحكمه عندهم حكم اللقطة . الدارقطني
الخامسة : واختلفوا في إذا وجد ، فقال حكم الركاز مالك : فهو لواجده وفيه الخمس ، وأما ما كان في أرض الإسلام فهو كاللقطة . قال : ما وجد من دفن الجاهلية في أرض العرب أو في فيافي الأرض التي ملكها المسلمون بغير حرب فهو للجماعة الذين افتتحوها دون واجده ، وما وجد من ذلك في أرض العنوة فإنه لأهل تلك البلاد دون الناس ، ولا شيء للواجد فيه إلا أن يكون من أهل الدار فهو له دونهم . وقيل : بل هو لجملة أهل الصلح . قال وما وجد من ذلك في أرض الصلح إسماعيل : وإنما حكم للركاز بحكم الغنيمة لأنه مال كافر وجده مسلم فأنزل منزلة من قاتله وأخذ ماله ، فكان له أربعة أخماسه . وقال ابن القاسم : كان مالك يقول في : إن فيه الخمس ثم رجع فقال : لا أرى فيه شيئا ، ثم آخر ما فارقناه أن قال : فيه الخمس . وهو الصحيح لعموم الحديث وعليه جمهور الفقهاء . وقال العروض والجواهر والحديد والرصاص ونحوه يوجد ركازا أبو حنيفة ومحمد في : إنه لصاحب الدار دون الواجد وفيه الخمس . وخالفه الركاز يوجد في الدار أبو يوسف فقال : إنه للواجد دون صاحب الدار ، وهو قول الثوري : وإن وجد في الفلاة فهو للواجد في قولهم جميعا وفيه الخمس . ولا فرق عندهم بين أرض الصلح وأرض العنوة ، وسواء عندهم أرض العرب وغيرها ، وجائز عندهم لواجده أن يحتبس الخمس لنفسه إذا كان محتاجا وله أن يعطيه للمساكين . ومن أهل المدينة وأصحاب مالك من لا يفرق بين شيء من ذلك وقالوا : سواء وجد الركاز في أرض العنوة أو في أرض الصلح أو أرض العرب أو أرض الحرب إذا لم يكن ملكا لأحد ولم يدعه أحد فهو لواجده وفيه الخمس على عموم ظاهر الحديث ، وهو قول الليث وعبد الله بن نافع وأكثر أهل العلم . والشافعي
السادسة : وأما ما يوجد من ويخرج منها فاختلف فيه ، فقال المعادن مالك وأصحابه : لا شيء فيما يخرج من المعادن من ذهب أو فضة حتى يكون عشرين مثقالا ذهبا أو خمس أواق فضة ، فإذا بلغتا هذا المقدار وجبت فيهما الزكاة ، وما زاد فبحساب ذلك ما دام في المعدن نيل ، فإن انقطع ثم جاء بعد ذلك نيل آخر فإنه تبتدأ فيه الزكاة مكانه . والركاز عندهم بمنزلة [ ص: 295 ] الزرع تؤخذ منه الزكاة في حينه ولا ينتظر به حولا . قال سحنون في رجل له معادن : إنه لا يضم ما في واحد منها إلى غيرها ولا يزكي إلا عن مائتي درهم أو عشرين دينارا في كل واحد . وقال محمد بن مسلمة : يضم بعضها إلى بعض ويزكي الجميع كالزرع . وقال أبو حنيفة وأصحابه : المعدن كالركاز ، فما وجد في المعدن من ذهب أو فضة بعد إخراج الخمس اعتبر كل واحد منهما ، فمن حصل بيده ما تجب فيه الزكاة زكاه لتمام الحول إن أتى عليه حول وهو نصاب عنده ، هذا إذا لم يكن عنده ذهب أو فضة وجبت فيه الزكاة . فإن كان عنده من ذلك ما تجب فيه الزكاة ضمه إلى ذلك وزكاه . وكذلك عندهم كل فائدة تضم في الحول إلى النصاب من جنسها وتزكى لحول الأصل ، وهو قول الثوري . وذكر المزني عن قال : وأما الذي أنا واقف فيه فما يخرج من المعادن . قال الشافعي المزني : الأولى به على أصله أن يكون ما يخرج من المعدن فائدة يزكى بحوله بعد إخراجه . وقال الليث بن سعد : ما يخرج من المعادن من الذهب والفضة فهو بمنزلة الفائدة يستأنف به حولا ، وهو قول فيما حصله الشافعي المزني من مذهبه ، وقال به داود وأصحابه إذا حال عليها الحول عند مالك صحيح الملك لقوله صلى الله عليه وسلم : أخرجه من استفاد مالا فلا زكاة عليه حتى يحول عليه الحول الترمذي . واحتجوا أيضا بما رواه والدارقطني عن عبد الرحمن بن أنعم أبي سعيد الخدري علي رضي الله عنه من اليمن . قال أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى قوما من المؤلفة قلوبهم ذهيبة في تربتها ، بعثها : والمؤلفة قلوبهم حقهم في الزكاة ، فتبين بذلك أن المعادن سنتها سنة الزكاة . وحجة الشافعي مالك حديث عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن بلال بن الحارث المعادن القبلية وهي من ناحية الفرع ، فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلى اليوم إلا الزكاة . وهذا حديث منقطع الإسناد لا يحتج بمثله أهل الحديث ؛ ولكنه عمل يعمل به عندهم في أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع المدينة . ورواه الدراوردي عن ربيعة عن الحارث بن بلال المزني عن أبيه . ذكره البزار ، ورواه كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده بلال بن الحارث المعادن القبلية جلسيها وغوريها . [ ص: 296 ] وحيث يصلح للزرع من قدس ولم يعطه حق مسلم ، ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقطع البزار أيضا ، وكثير مجمع على ضعفه . هذا حكم ما أخرجته الأرض ، وسيأتي في سورة ( النحل ) حكم ما أخرجه البحر إذ هو قسيم الأرض . ويأتي في ( الأنبياء ) معنى قوله عليه السلام : ( ) كل في موضعه إن شاء الله تعالى . العجماء جرحها جبار
السابعة : قوله تعالى : ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون تيمموا معناه تقصدوا ، وستأتي الشواهد من أشعار العرب في أن التيمم القصد في " النساء " إن شاء الله تعالى . ودلت الآية على أن . وروى المكاسب فيها طيب وخبيث النسائي في الآية التي قال الله تعالى فيها : أبي أمامة بن سهل بن حنيف ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون قال : هو الجعرور ولون حبيق ، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤخذا في الصدقة . وروى عن عن الدارقطني عن أبيه قال : أبي أمامة بن سهل بن حنيف سفيان : يعني الشيص - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من جاء بهذا ) ؟ وكان لا يجيء أحد بشيء إلا نسب إلى الذي جاء به . فنزلت : ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون . قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة فجاء رجل من هذا السحل بكبائس - قال - قال ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الجعرور ولون الحبيق أن يؤخذا في الصدقة الزهري : لونين من تمر المدينة - وأخرجه الترمذي من حديث البراء وصححه ، وسيأتي . وحكى الطبري والنحاس أن في قراءة عبد الله " ولا تأمموا " وهما لغتان . وقرأ مسلم بن جندب " ولا تيمموا " بضم التاء وكسر الميم . وقرأ ابن كثير " تيمموا " بتشديد التاء . وفي اللفظة لغات ، منها " أممت الشيء " مخففة الميم الأولى و " أممته " بشدها ، و " يممته وتيممته " . وحكى أبو عمرو أن ابن مسعود قرأ " ولا تؤمموا " بهمزة بعد التاء المضمومة .
الثامنة : قوله تعالى : منه تنفقون قال الجرجاني في كتاب " نظم القرآن " : قال فريق من الناس : إن الكلام تم في قوله تعالى ( الخبيث ) ثم ابتدأ خبرا آخر في وصف الخبيث فقال : ( منه تنفقون ) وأنتم لا تأخذونه إلا إذا أغمضتم أي تساهلتم ، كأن هذا المعنى عتاب للناس وتقريع . والضمير في منه عائد على الخبيث وهو الدون والرديء . قال الجرجاني : [ ص: 297 ] وقال فريق آخر : الكلام متصل إلى قوله ( منه ) ، فالضمير في ( منه ) عائد على ( ما كسبتم ) ويجيء ( تنفقون ) كأنه في موضع نصب على الحال ، وهو كقولك : أنا أخرج أجاهد في سبيل الله .
التاسعة : قوله تعالى : ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه أي لستم بآخذيه في ديونكم وحقوقكم من الناس إلا أن تتساهلوا في ذلك وتتركوا من حقوقكم ، وتكرهونه ولا ترضونه . أي فلا تفعلوا مع الله ما لا ترضونه لأنفسكم ، قال معناه البراء بن عازب وابن عباس والضحاك . وقال الحسن : معنى الآية : ولستم بآخذيه ولو وجدتموه في السوق يباع إلا أن يهضم لكم من ثمنه . وروي نحوه عن علي رضي الله عنه . قال ابن عطية : وهذان القولان يشبهان كون الآية في الزكاة الواجبة . قال : لو كانت في الفرض لما قال ابن العربي ولستم بآخذيه لأن الرديء والمعيب لا يجوز أخذه في الفرض بحال ، لا مع تقدير الإغماض ولا مع عدمه ، وإنما يؤخذ مع عدم إغماض في النفل . وقال أيضا معناه : البراء بن عازب ولستم بآخذيه لو أهدي لكم إلا أن تغمضوا فيه أي تستحي من المهدي فتقبل منه ما لا حاجة لك به ولا قدر له في نفسه . قال ابن عطية : وهذا يشبه كون الآية في التطوع . وقال ابن زيد : ولستم بآخذي الحرام إلا أن تغمضوا في مكروهه .
العاشرة : قوله تعالى : إلا أن تغمضوا كذا قراءة الجمهور ، من أغمض الرجل في أمر كذا إذا تساهل فيه ورضي ببعض حقه وتجاوز ، ومن ذلك قول الطرماح :
لم يفتنا بالوتر قوم وللذ ل أناس يرضون بالإغماض
وقد يحتمل أن يكون منتزعا إما من تغميض العين ؛ لأن الذي يريد الصبر على مكروه يغمض عينيه - قال :إلى كم وكم أشياء منك تريبني أغمض عنها لست عنها بذي عمى
الحادية عشرة : قوله تعالى : واعلموا أن الله غني حميد نبه سبحانه وتعالى على صفة الغني ، أي لا حاجة به إلى صدقاتكم ، فمن تقرب وطلب مثوبة فليفعل ذلك بما له قدر وبال ، فإنما يقدم لنفسه . و ( حميد ) معناه محمود في كل حال . وقد أتينا على معاني هذين الاسمين في " الكتاب الأسنى " والحمد لله . قال الزجاج في قوله : واعلموا أن الله غني حميد : أي لم يأمركم أن تصدقوا من عوز ولكنه بلا أخباركم فهو حميد على ذلك على جميع نعمه .